فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبته
خطب صلى الله عليه وسلم على الأرض ، وعلى المنبر ، وعلى البعير ، وعلى الناقة . وكان إذا خطب ، احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول : " صبحكم ومساكم " ويقول : " بعثت أنا والساعة كهاتين " ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ، ويقول : " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة " .
وكان لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله . وأما قول كثير من الفقهاء : إنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار ، وخطبة العيدين بالتكبير ، فليس معهم فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة ، وسنته تقتضي خلافه ، وهو افتتاح جميع الخطب بـ الحمد لله ، وهو أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب أحمد ، وهو اختيار شيخنا قدس الله سره .
وكان يخطب قائماً ، وفي مراسيل عطاء وغيره أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس ، ثم قال : " السلام عليكم " قال الشعبي : وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك . وكان يختم خطبته بالاستغفار ، وكان كثيراً يخطب بالقرآن . وفي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت : ما أخذت " ق والقرآن المجيد " إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس . وذكر أبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال : " الحمد لله نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، من يهد الله ، فلا مضل له ، ومن يضلل ، فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة ، من يطع الله ورسوله ، فقد رشد ومن يعصهما ، فإنه لا يضر إلا نفسه ، ولا يضر الله شيئاً " وقال أبو داود عن يونس أنه سأل ابن شهاب عن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ، فذكر نحو هذا إلا أنه قال : " ومن يعصهما فقد غوى" .
قال ابن شهاب : وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خطب : " كل ما هو آت قريب ، لا بعد لما هو آت ، ولا يعجل الله لعجلة أحد ، ولا يخف لأمر الناس ، ما شاء الله ، لا ما شاء الناس ، يريد الله شيئاً ويريد الناس شيئاً ، ما شاء الله كان ، ولو كره الناس ، ولا مبعد لما قرب الله ، ولا مقرب لما بعد الله ، ولا يكون شئ إلا بإذن الله " .
وكان مدار خطبه على حمد الله ، والثناء عليه بآلائه ، وأوصاف كماله ومحامده ، وتعليم قواعد الإسلام ، وذكر الجنة والنار والمعاد ، والأمر بتقوى الله ، وتبيين موارد غضبه ، ومواقع رضاه فعلى هذا كان مدار خطبه .
وكان يقول في خطبه : " أيها الناس إنكم لن تطيقوا - أو لن تفعلوا - كل ما أمرتم به ، ولكن سددوا وأبشروا " .
وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم ، ولم يكن يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله ، ويتشهد فيها بكلمتي الشهادة ويذكر فيها نفسه باسمه العلم .
وثبت عنه أنه قال : " كل خطبة ليس فيها تشهد ، فهي كاليد الجذماء "
ولم يكن له شاويش يخرج بين يديه إذا خرج من حجرته ، ولم يكن يلبس لباس الخطباء اليوم لا طرحة ، ولا زيقاً واسعاً .
وكان منبره ثلاث درجات ، فإذا استوى عليه ، واستقبل الناس ، أخذ المؤذن في الأذان فقط ، ولم يقل شيئاً قبله ولا بعده ، فإذا أخذ في الخطبة ، لم يرفع أحد صوته بشئ البتة ، لا مؤذن ولا غيره .
وكان إذا قام يخطب ، أخذ عصا ، فتوكأ عليها وهو على المنبر ، كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب . وكان الخلفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك ، وكان أحيانا يتوكأ على قوس ، ولم يحفط عنه أنه توكأ على سيف ، وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف ، وهذا جهل قبيح من وجهين ، أحدهما : أن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم توكأ على العصا وعلى القوس . الثاني : أن الدين إنما قام بالوحي ، وأما السيف ، فلمحق أهل الضلال والشرك ، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب فيها إنما فتحت بالقرآن ، ولم تفتح بالسيف .
وكان إذا عرض له في خطبته عارض ، اشتغل به ، ثم رجع إلى خطبته ، وكان يخطب ، فجاء الحسن والحسين يعثران في قميصين أحمرين ، فقطع كلامه ، فنزل ، فحملهما ، ثم عاد إلى منبره ، ثم قال : " صدق الله العظيم " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " ( الأنفال : 28) رأيت هذين يعثران في قميصيهما ، فلم أصبر حتى قطعت كلامي فحملتهما " .
وجاء سليك ، الغطفاني وهو يخطب ، فجلس ، فقال له : " قم يا سليك فاركع ركعتين وتجوز فيهما "، ثم قال وهو على المنبر: " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب ، فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " . وكان يقصر خطبته أحياناً ، ويطيلها أحياناً بحسب حاجة الناس . وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة . وكان يخطب النساء على حدة في الأعياد ، ويحرضهن على الصدقة ، والله أعلم .