الدليل الثاني : قصة أخرى وقعت في زمن الخلفاء الراشدين :
وهي أن بقايا من بني حنيفة ، لما رجعوا إلى الإسلام ، وتبرأوا من مسيلمة ، وأقروا بكذبه : كبر ذنبهم عند أنفسهم ، وتحملوا بأهليهم إلى الثغر لأجل الجهاد في سبيل الله ، لعل ذلك يمحو عنهم آثار تلك الردة ، لأن الله تعالى يقول : " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " ، ويقول : " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " ، فنزلوا الكوفة ، وصار لهم بها محلة معروفة ، فيها مسجد يسمى مسجد بني حنيفة ، فمر بعض المسلمين على مسجدهم بين المغرب والعشاء ، فسمعوا منهم كلاماً معناه : أن مسيلمة كان على حق ، وهم جماعة كثيرون، ولكن الذي لم يقله لم ينكره على من قاله، فرفعوا أمرهم إلى عبد الله بن مسعود ، فجمع من عنده من الصحابة واستشارهم : هل يقتلهم وإن تابوا ، أو يستتيبهم ؟ فأشار بعضهم بقتلهم من غير استتابة . وأشار بعضهم باستتابتهم ، فاستتاب بعضهم ، وقتل بعضهم ولم يستتبه .
فتأمل -رحمك الله- إذا كانوا قد أظهروا من الأعمال الصالحة الشاقة ما أظهروا ، لما تبرؤوا من الكفر وعادوا إلى الإسلام ، ولم يظهر منهم إلا كلمة أخفوها في مدح مسيلمة ، لكن سمعها بعض المسلمين . ومع هذا لم يتوقف أحد في كفرهم كلهم -المتكلم والحاضر الذي لم ينكر- ولكن اختلفوا : هل تقبل توبتهم أو لا ؟ والقصة في صحيح البخاري .
فأين هذا من كلام من يزعم أنه من العلماء ويقول : البدو ما معهم من الإسلام شعرة ، إلا أنهم يقولون : لا إله إلا الله ومع ذلك يحكم بإسلامهم بذلك ؟ أين هذا مما أجمع عليه الصحابة : فيمن قال تلك الكلمة ، أو حضرها ولم ينكر ؟
 سارت مشرقة وسرت مغرباً        شتان بين مشرق ومغرب 
ربنا إني أعوذ بك أن أكون ممن قلت فيهم : " فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون " ، ولا ممن قلت فيهم : " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون