![]() |
((( عيون الأثر الجزء الأول والثاني )))
ذكر نسب سيدنا و نبينا رسول الله صلى الله عليه و سلم
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، و يدعى شيبة الحمد ، ابن هاشم ، و هو عمرو العلا ، بن عبد مناف ، و اسمه المغيرة ، بن قصي ، و يسمى زيداً ، و يدعى مجمعاً أيضاً قال الشاعر : أبوكم قصي كان يدعى مجمعاً به جمع الله القبائل من فهر ابن كلاب ، بن مرة ، بن كعب ، بن لؤي ، بن غالب ، بن فهر ، بن مالك بن النضر ، بن كنانة ، بن خزيمة ، بن مدركة ، بن إلياس ، بن مضر ، بن نزار ، بن معد ، ابن عدنان . هذا هو الصحيح المجمع عليه في نسبه ، و ما فوق ذلك مختلف فيه . و لا خلاف أن عدنان من ولد إسماعيل نبي الله ابن إبراهيم خليل الله عليهما السلام ، و إنما الخلاف في عدد من بين عدنان و إسماعيل من الآباء ، فمقل و مكثر ، و كذلك من إبراهيم إلى آدم عليهما السلام لا يعلم ذلك على حقيقته إلا الله تعالى . روينا عن ابن سعد : " أخبرنا هشام ، أخبرني أبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا انتسب لم يجاوز معد بن عدنان بن أدد ، ثم يمسك و يقول : كذب النسابون . قال الله عز وجل : " وقرونا بين ذلك كثيرا " [ الفرقان : 38 ] " . و قال ابن عباس : لو شاء رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعلمه لعلمه . و عن عائشة رضي الله عنها : ما وجدنا أحداً يعرف ما وراء عدنان و لا قحطان إلا تخرصاً . و قد روي نحو ذلك عن عمر و عكرمة و غير واحد . و و الذي رجحه بعض النسابين في نسب عدنان أنه ابن أد ، بن أدد ، بن اليسع ، ابن الهميسع ، بن سلامان ، ابن نبت ، بن حمل ، بن قيذار ، بن الذبيح إسماعيل ، بن الخليل إبراهيم ، بن تارح ـ و هو آزر ـ بن ناحور ، بن ساروح ، بن أرغو ، بن فالخ ، بن عابر ، بن شالخ ، بن أرفخشذ ، بن سام ، بن نوح ، بن لمك ، بن متوشلخ ، بن أخنوخ ـ و هو إدريس النبي عليه السلام ـ بن يارد ، بن مهلعيل بن قنان ، بن أنوش ، بن شيث ـ و هو هبة الله ـ بن آدم ، عليهما أفضل السلام و السلام . " أخبرنا أحمد بن إبراهيم الفاروثي الإمام بدمشق ، أنبأنا الحسين بن علي العلوي ببغداد ، أنبأنا ابن ناصر قراءة عليه و أنا أسمع ، أنبأنا أبو الطاهر بن أبي الصقر الأنباري ، أنبأنا القاضي أبو البركات أحمد بن عبد الواحد بن الفضل الفراء ، أنبأنا الشريف أبو جعفر محمد بن عبد الله بن طاهر الحسيني ، حدثنا أبو سليمان أحمد بن محمد المكي بالمدينة سنة تسع و تسعين و مائتين ، حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري ، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن ابن أبي ذئب ، عمن لا يتهم ، عن عمرو بن العاصي ، فذكر حديثاً و فيه : ثم قال : يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله اختار العرب على الناس ، و اختارني على من أنا منه ثم قال : أنا محمد بن عبد الله . . . حتى بلغ النضر بن كنانة ثم قال : فمن قال غير هذا فقد كذب " . و به " عن عبد العزيز بن محمد ، عن ابن أبي ذئب ، عن جبير بن أبي صالح ، عن ابن شهاب عن سعد بن أبي وقاص ، قال : قيل : يا رسول الله ! قتل فلان ـ لرجل من ثقيف ـ فقال : أبعده الله إنه كان يبغض قريشاً " . و روينا من طريق مسلم ، " حدثنا محمد بن مهران الرازي ، و محمد بن عبد الرحمن بن سهم ، جميعاً عن الوليد ، قال ابن مهران : حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي ، عن أبي عمار شداد : أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، و اصطفى قريشاً من كنانة ، و اصطفى من قريش بني هاشم و اصطفاني من بني هاشم " . و العرب على ست طبقات : شعب و قبيلة و عمارة و بطن و فخذ و فصيلة . و سميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها . و سميت القبائل لأن العمائر تقابلت عليها ، فالشعب يجمع القبائل و القبيلة تجمع العمائر ، و العمارة تجمع البطون ، و البطن تجمع الأفخاذ ، و الفخذ تجمع الفصائل ، فيقال : مضر شعب رسول الله صلى الله عليه و سلم و كنانة قبيلته ، و قريش عمارته ، و قصي بطنه ، و هاشم فخذه ، و بنو العباس فصيلته . هذا قول الزبير ، و قيل : بنو عبد المطلب فصيلته ، و عبد مناف بطنه ، و سائر ذلك كما تقدم . و قيل : بعد الفصيلة العشيرة و ليس بعد العشيرة شيء . و قيل الفصيلة هي العشيرة ، و قيل غير ذلك . |
ذكر تزويج عبد الله بن عبد المطلب ـ آمنة بنت عبد مناف بن زهرة بن كلاب ـ و كانت في حجر عمها وهيب بن عبد مناف
ذكر تزويج عبد الله بن عبد المطلب ـ آمنة بنت عبد مناف بن زهرة بن كلاب ـ و كانت في حجر عمها وهيب بن عبد مناف قال الزبير : و كان عبد الله أحسن رجل مرئي في قريش قط ، و كان أبوه عبد المطلب قد مر به فيما يزعمون على امرأة من بني أسد بن عبد العزى ، و هي أخت ورقة بن نوفل ، و هي عند الكعبة . فقالت له : أين تذهب يا عبد الله ؟ قال : مع أبي . قالت : لك مثل الإبل التي نحرت عنك ـ و كانت مائة ـ وقع علي الآن . قال : أنا مع أبي و لا أستطيع خلافه و لا فراقه . و أنشد بعض أهل العلم في ذلك لعبد الله بن عبد المطلب : أما الحرام فالممات دونه و الحل لا حل فأستبينه فكيف بالأمر الذي تبغينه يحمي الكريم عرضه و دينه أخبرنا الإمام العلامة أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي سماعاً بدمشق ، أنبأنا الأمير أبو محمد الحسن بن علي العلوي ببغداد سماعاً عليه ، قال : أخبرنا الحافظ أبو الفضل محمد ابن ناصر بن محمد بن علي السلامي قراءة عليه و أنا أسمع ، قال : أنبأنا أبو الطاهر بن أبي الصقر ، أنبأنا القاضي أبو البركات أحمد بن عبد الوهاب الفراء ، أنبأنا الشريف أبو جعف محمد بن عبد الله الحسيني ، حدثنا أبو بكر الخضر بن داود بمكة ، حدثنا الزبير بن بكار ، حدثني سفيان بن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه قال : " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " [ التوبة : 128 ] . قال : أحدكم من أنفسكم ، لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية . قال : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " خرجت من نكاح و لم أخرج من سفاح " . و روينا عن ابن سعد قال : أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، عن أبيه ، قال : كتبت للنبي صلى الله عليه و سلم خمسمائة أم ، فما وجدت فيهن سفاحاً و لا شيئاً مما كان من أمر الجاهلية . و روينا مرفوعاً " من حديث ابن عباس و عائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم : خرجت من نكاح غير سفاح " . رجع إلى الأول : فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهيب بن عبد مناف بن زهرة و هو يومئذ سيد بني زهرة سناً و شرفاً ، فزوجه آمنة بنت وهب ، و هي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً و موضعاً ، فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه فوقع عليها ، فحملت برسول الله صلى الله عليه و سلم ، ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت ، فقال لها ما لك : لا تعرضين علي اليوم ما عرضت بالأمس ؟ فقالت له : فارقك النور الذي كان معك ، فليس لي بك اليوم حاجة . و قد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل أنه كائن في هذه الأمة نبي . قال أبو عمر : كان تزوجها و عمره ثلاثون سنة ، و قيل خمس و عشرون ، و قيل بينهما ثمانية و عشرون عاماً . و تزوج عبد المطلب في ذلك المجلس هالة بنت وهيب بن عبد مناف فولدت له حمزة و المقوم و حجلاً و صفية أم الزبير ، قال محمد بن السائب الكلبي : لما تزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة أقام عندها ثلاثاً ، و كانت تلك السنة عندهم إذا دخل الرجل على امرأته في أهلها . |
ذكر حمل آمنة برسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق ، و يزعمون فيما يتحدث الناس ـ و الله أعلم ـ أن أمه كانت تحدث أنها أتيت حين حملت به ، فقيل لها : إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ، فإذا وقع إلى الأرض فقولي : أعيذه بالواحد من شر كل حاسد ، ثم سميه محمداً . و من طريق محمد بن عمر : عن علي بن زيد ، عن عبد الله بن وهب بن زمعة ، عن أبيه ، عن عمته ، قالت : كنا نسمع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما حملت به أمه آمنة بنت وهب كانت تقول : ما شعرت بأني حملت به ، و لا وجدت له ثقلة كما تجد النساء ، إلا أني نكرت رفع حيضتي ، و ربما كانت تقول : أتاني آت و أنا بين النائم و اليقظان فقال : هل شعرت أنك حملت ؟ فكأني أقول : ما أدري . فقال : إنك قد حملت بسيد هذه الأمة و نبيها . و ذلك يوم الاثنين . . الحديث ، و فيه : و أمهلني حتى دنت ولادتي أتاني فقال : قولي ، أعيذه بالواحد . و عن الزهري قال : قالت آمنة : لقد علقت به فما وجدت له مشقة حتى وضعته . |
ذكر وفاة عبد الله بن عبد المطلب
قال ابن إسحاق : ثم لم يلبث عبد الله بن عبد المطلب أن هلك و أم رسول الله صلى الله عليه و سلم حامل به . هذا قول ابن إسحاق . و غيره يقول : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان في المهد حين توفي أبوه ، رويناه عن الدولابي . و ذكر ابن أبي خثيمة : أنه كان ابن شهرين . و قيل ابن ثمانية و عشرين شهراً ـ و قبره في المدينة في دار من دور بني عدي بن النجار كان خرج إلى المدينة يمتار تمراً ـ و قيل : بل خرج به إلى أخواله زائراً و هو ابن سبعة أشهر . و في خبر سيف بن ذي يزن : مات أبوه و أمه ، فكفله جده و عمه . و روى ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، قال : بعث عبد المطلب ابنه عبد الله يمتار له تمراً من يثرب فمات بها و هو شاب عند أخواله ، و لم يكن له ولد غير رسول الله صلى الله عليه و سلم . و الذي رجحه الواقدي ـ و قال : هو أثبت الأقاويل عندنا في موت عبد الله و سبيه ـ أنه كان خرج إلى غزة في عير من عيرات قريش يحملون تجارات ، ففرغوا من تجارتهم و انصرفوا فمروا بالمدينة و عبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض ، فقال : أنا أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار ، فأقام عندهم مريضاً شهراً ، و مضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن عبد الله ، فقالوا : خلفناه عند أخواله بني عدي بني النجار و هو مريض ، فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي و دفن في دار التابعة . قيل : كان بينه و بين ابنه عليه الصلاة و السلام ثمانية و عشرون عاماً . و قد تقدم في تزويج عبد الله آمنة ما حكي عن السلف في ذلك . |
ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم
و ولد سيدنا و نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول عام الفيل . قيل : بعد الفيل بخمسين يوماً . و قال الزبير : حملت به أمه صلى الله عليه و سلم في أيام التشريق في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى . و ولد صلى الله عليه و سلم في الدار التي تدعى لمحمد بن يوسف أخي الحجاج : يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان . و قيل : بل يوم الاثنين في ربيع الأول ليلتين خلتا منه . قال أبو عمر : و قد قيل : لثمان خلون منه . و قيل : إنه أول اثنين من ربيع الأول . و قيل : لاثنتي عشرة ليلة خلت منه عام الفيل . و قيل : إنه ولد في شعب بني هاشم . و روي عن ابن عباس قال : ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفيل . أخبرناه أبو المعالي أحمد بن إسحاق فيما قرأت عنه ، قلت : قال أخبركم الشيخان أبو الفرج الفتح بن عبد الله بن علي بن عبد السلام ، و أبو العباس أحمد بن أبي الحسين بن أبي الفتح بن صرما [ ح ] قال : و قرأت على الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد الحنبلي الزاهد بسفح قاسيون ، قال : قلت له أخبركم أبو البركات داود بن أحمد بن محمد البغدادي ، قالوا : أخبرنا أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي سماعاً عليه ، قال أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن النقور ، قال أخبرنا أبو الحسين علي بن عمر السكري ، قال : أخبرنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار ، حدثنا يحيى بن معين ، حدثنا حجاج بن محمد ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : و ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفيل . و عن قيس بن مخرمة قال : ولدت أنا و رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفيل فنحن لدان . و قيل : بعد الفيل بشهر , و قيل : بأربعين يوماً ، و قيل بخمسين يوما . و ذكر أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي قال : كان قدوم الفيل مكة لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم . و قد قال ذلك غير الخوارزمي و زاد : يوم الأحد . قال : و كان أول محرم تلك السنة يوم الجمعة . قال الخوارزمي : و ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد ذلك بخمسين يوما يوم الاثنين لثمان خلت من ربيع الأول ، و ذلك يوم عشرين من نيسان . قال : و بعث نبيا يوم الاثنين لثمان خلت من ربيع الأول سنة إحدى و أربعين من عام الفيل ، فكان من مولده إلى أن بعثه الله أربعون سنة و يوم ، و من مبعثه إلى أول المحرم من السنة التي هاجر فيها اثنتا عشرة سنة و تسعة أشهر و عشرون يوماً ، و ذلك ثلاث و خمسون سنة تامة من عام الفيل . و ذكر ابن السكن : من حديث عثمان بن أبي العاص عن أمه فاطمة بنت عبد الله أنها شهدت ولادة النبي صلى الله عليه و سلم ليلاً . فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور ، و إني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن علي . و يقال : و ضعت عليه جفنة فانفلقت عنه فلقتين فكان ذلك من مبادئ أمارات النبوة في نفسه . و ذكر ابن أبي خيثمة عن أبي صالح السمان قال : قال كعب : إنا لنجد في كتاب الله : محمد عليه الصلاة و السلام مولده بمكة ، و عن عبد الملك بن عمير قال : قال كعب : إني أجد في التوراة : عبدي أحمد المختار مولده بمكة . و حكى أبو الربيع بن سالم أن بقي بن مخلد ذكر في تفسيره : أن إبليس لعنه الله رن أربع رنات : رنة حين لعن ، و رنة حين أهبط ، و رنة حين ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و رنة حين نزلت فاتحة الكتاب . أخبرنا الشيخ أبو الحسن علي بن محمد الدمشقي بقراءتي عليه قلت له : أخبركم الشيخان أبو عبد الله محمد بن نصر بن عبد الرحمن بن محمد بن محفوظ القرشي ، و الأمير سيف الدولة أبو عبد الله محمد بن غسان بن غافل بن نجاد الأنصاري قراءة عليهما و أنت حاضر في الرابعة ، قالا : أخبرنا الفيه أبو القاسم علي بن حسن الحافظ قراءة عليه و نحن نسمع ، قال : أخبرنا المشائخ أبو الحسن علي بن المسلم بن محمد بن الفتح بن علي الفقيه ، و أبو الفرج غيث بن علي بن عبد السلام بن محمد بن جعفر بن الأرمنازني الصوري الخطيب ، و أبو محمد عبد الكريم بن حمزة بن الخضر بن العباس الوكيل بدمشق ، قالوا : أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن أحمد بن عثمان ابن أبي الحديد السلمي ، أخبرنا جدي أبو بكر محمد بن أحمد أخبرنا أبو بكر ابن جعفر بن محمد بن سهل الخرائطي ، حدثنا علي بن حرب ، حدثنا أبو أيوب يعلى ابن عمران من آل جرير بن عبد الله البجلي ، قال : حدثني مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه ــ و أتت له خمسون و مائة سنة ــ قال : لما كان ليلة ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم ارتجس إيوان كسرى و سقطت منه أربع عشرة شرفة ، و خمدت نار فارس و لم تخمد قبل ذلك بألف عام ، و غاضت بحيرة ساوة ، و رأى الموبذان إبلاً صعابا تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة و انتشرت في بلادها ، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك فصبر عليه تشجعاً ، ثم رأى أن لا يدخر ذلك عن مرازبته ، فجمعهم و لبس تاجه و جلس على سريره ، ثم بعث إليهم فلما اجتمعوا عنده قال : أتدرون فيما بعثت إليكم ؟ قالوا : لا إلا أن يخبرنا الملك . فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النيران ، فازداد غماً إلى غمه ، ثم أخبرهم ما رأى و ما هاله . فقال الموبذان : و أنا ـ أصلح الله الملك ـ قد رأيت في هذه الليلة رؤيا ، ثم قص عليه رؤياه في الإبل . فقال : أي شيء يكون هذا يا موبذان ؟ قال : حدث يكون في ناحية العرب ـ و كان أعلمهم في أنفسهم ـ فكتب عند ذلك : من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر أما بعد : فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه ، فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغساني ، فلما ورد عليه قال له : ألك علم بما أريد أسألك عنه ؟ قال : ليخبرني الملك أو ليسألني عما أحب فإن كان عندي منه علم و إلا أخبرته بمن يعلمه . فأخبره بالذي وجه إليه فيه . قال : علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح . قال : فأته فاسأله عما سألتك عنه ثم ائتني بتفسيره . فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح ، و قد أشفى على الضريح ، فسلم عليه و كلمه فلم يرد عليه سطيح جواباً ، ثم أنشأ يقول : أصم أم يسمع غطريف اليمن ؟ . في أبيات ذكرها . قال : فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه يقول : عبد المسيح على جمل مشيح إلى سطيح و قد أوفى على الضريح ، بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان و خمود النيران و رؤيا الموبذان ، رأى إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة و انتشرت في بلادها ، يا عبد المسيح ! إذا كثرت التلاوة ، و ظهر صاحب الهراوة ، و فاض وادي السماوة ، و غاضت بحيرة ساوة ، و خمدت نار فارس ، فليس الشام لسطيح شاماً ، يملك منهم ملوك و ملكات على عدد الشرفات ، و كل ما هو آت آت ، ثم قضى سطيح مكانه ، فنهض عبد المسيح إلى راحلته و هو يقول : شمر فإنك ماضي الهم شمير لا يفزعنك تفريق و تغيير إن يمسك ملك بني ساسان أفراطهم فإن ذا الدهر أطوار دهارير فربما ربما أضحوا بمنزلة تهاب صولهم الأسد المهاصير منهم أخو الصرح بهرام و إخوته و الهرمزان و سابور و سابور و الناس أولاد علات فمن علموا أن قد أقل فمحقور و مهجور و هم بنو الأم إما إن رأوا نشبا فذاك بالغيب محفوظ و منصور و الخير و الشر مقرونان في قرن فالخير متبع و الشر محذور فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بما قال له سطيح فقال كسرى إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً كانت أمور و أمور . فملك منهم عشرة في أربع سنين ، و ملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه قال ابن إسحاق : فلما وضعته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب : أنه قد ولد لك غلام فانظر إليه ، فأتاه و نظر إليه ، و حدثته بما رأت حين حملت به و ما قيل لها فيه و ما أمرت أن تسميه ، فيزعمون أن عبد المطلب أخذه فدخل به الكعبة فقام يدعوا الله و يتشكر له ما أعطاه ، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها . و ولد صلى الله عليه و سلم معذوراً مسروراً ، أي مختوناً مقطوع السرة ، و وقع إلى الأرض مقبوضة أصابع يده مشيراً بالسبابة كالمسبح بها ، حكاه السهيلي . أخبرنا أبو حفص عمر بن عبد المنعم الدمشقي بقرأتي عليه بعربيل ـ قرية بغوطة دمشق ـ أخبركم أبو القاسم بن الحرستاني قراءة عليه و أنت حاضر في الرابعة فأقر به ، أخبرنا جمال الإسلام أبو الحسن علي بن مسلم السلمي أبو النصر الحسين بن محمد ابن طلاب ، حدثنا ابن جميع ، حدثنا عمر بن موسى بالمصيصة ، حدثنا جعفر ابن عبد الواحد قال : قال لنا صفوان بن هبيرة و محمد بن البرساني عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : و لد النبي صلى الله عليه و سلم مسروراً مختونا . |
ذكر تسمية محمداً و أحمد صلى الله عليه و سلم
روينا عن أبي جعفر محمد بن علي من طريق ابن سعد قال : أمرت آمنة و هي حامل برسول الله صلى الله عليه و سلم أن تسميه أحمد . و روينا عن ابن إسحاق فيما سلف أنها أتيت حين حملت به فقيل لها : إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ، و فيه : ثم سميه محمداً . و روينا من طريق الترمذي ، " حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن لي أسماء : أنا محمد ، و أنا أحمد ، و أنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، و أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، و أنا العاقب الذي ليس بعدي نبي " و صححه ، و قال : في الباب عن حذيفة . و روى حديث جبير البخاري و مسلم و النسائي ، و سيأتي الكلام على بقية الأسماء إن شاء الله تعالى . و ذكر أبو الربيع بن سالم قال : و يروى أن عبد المطلب إنما سماه محمداً لرؤيا رآها ، زعموا أنه رأى في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء و طرف في الأرض و طرف في المشرق و طرف في المغرب ، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور ، و إذا أهل المشرق و المغرب يتعلقون بها ، فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق و المغرب و يحمده أهل السماء و الأرض ، فلذلك سماه محمد مع ما حدثته به أمه . و روينا عن أبي القاسم السهيلي رحمه الله قال : لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم قبله صلى الله عليه و سلم إلا ثلاثة ، طمع آباؤهم حين سمعوا بذكر محمد صلى الله عليه و سلم و يقرب زمانه و أنه يبعث بالحجاز أن يكون ولداً لهم ، ذكرهم ابن فورك في كتاب الفصول و هم : محمد بن سفيان بن مجاشع جد الفرزدق الشاعر ، و الآخر محمد بن أحيحة بن الجلاح ابن الحريش بن حججبا بن كلفة بن عوف بن عمرو بن مالك بن الأوس ، و الآخر محمد ابن حمرانم و هو من ربيعة ، ذكر معهم محمداً رابعاً أنسيته . و كان آباء هؤلاء الثلاثة قد وفدوا على بعض الملوك الأول ، و كان عنده علم بالكتاب الأول ، فأخبرهم بمبعث النبي صلى الله عليه و سلم و باسمه ، و كان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملا ، فنذر كل واحد منهم إن ولد له ولد ذكر أن يسميه محمداً ففعلوا ذلك . و روينا عن القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله في تسميته صلى الله عليه و سلم محمداً و أحمد ، قال : ثم في هذين الاسمين من بدائع آياته و عجائب خصائصه أن الله جل اسمه حمى أن يسمى بهما أحد قبل زمانه ، أما أحمد الذي أتى في الكتب و بشرت بها الأنبياء ، فمنع الله تعالى بحكمته أن يسمى به أحمد غيره ، و لا يدعى به مدعو قبله ، حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب أو شك ، و كذلك محمد أيضا لم يسم به أحد من العرب و لا غيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده الله و ميلاده : أن نبيا يبعث اسمه محمد ، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو و الله أعلم حيث يجعل رسالته ، و هم : محمد بن أحيحة ابن الجلاح الأوسي ، محمد بن مسلمة الأنصاري ، و محمد بن براء البكري ، و محمد بن سفيان بن مجاشع ، و محمد ، و محمد بن حمران بن خزاعي السلمي لا سابع لهم . و يقال : إن أول من سمي به محمد بن سفيان ، و اليمن تقول : بل محمد بن اليحمد الأزدي . ثم حمى الله كل من تسمى به أن يدعى النبوة أو يدعيها أحد له ، حتى تحققت التسميتان له ، و لم ينازع فيهما . و الله أعلم . |
ذكر الخبر عن رضاعه صلى الله عليه و سلم و ما يتصل بذلك من شق الصدر
روينا عن ابن سعد ، أخبرنا محمد بن عمر بن واقد الأسلمي قال : حدثني موسى ابن شيبة ، عن عميرة بنت عبد الله بن كعب بن مالك ، عن برة بنت أبي تجراة قالت : أول من أرضع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثويبة بلبن ابن لها يقال له مسروح أياما ، قبل أن تقدم حليمة ، و كانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب و بعده أبا سلمة بن عبد الأسد . " أخبرنا أبو العباس الساوي بقراءة والدي عليه : أخبرنا أبو روح المطهر بن أبي بكر البيهقي سماعاً عليه ، قال : أخبرنا أبو بكر الطوسي ، قال : أخبرنا أبو علي الخشنامي أخبرنا أحمد بن الحسن النيسابوري ، أخبرنا محمد بن أحمد ، أخبرنا محمد بن يحيى ، حدثنا محمد ابن عبيد ، حدثنا الأعمش عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي قال : قلت يا رسول الله : ما لك لا تتوق في قريش و لا تتزوج إليهم ؟ قال : و عندك قلت : نعم ابنة حمزة . قال : تلك ابنة أخي من الرضاعة " . قرأت على أبي النور إسماعيل بن نور بن قمر الهيتي بسفح قاسيون أخبرك أبو نصر موسى بن عبد القادر الجيلي قراءة عليه و أنت تسمع ، " أخبرنا أبو القاسم سعيد بن أحمد ابن البناء قال : أخبرنا أبو نصر محمد بن محمد الزينبي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن علي الوراق ، حدثنا أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث ، حدثنا أبو موسى عيسى بن حماد زغبة ، أخبرنا الليث ، عن هشام بن عروة ، عن عروة ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم حبيبة أنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : هل لك في أختي ابنة أبي سفيان و فيه قالت : فو الله لقد أنبئت أنك تخطب درة بنت أبي سلمة . قال : ابنة أبي سلمة ؟ قالت : نعم . قال : فو الله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي ، إنها لابنة أخي من الرضاعة ، أرضعتني و إياها ثويبة ، فلا تعرضن علي بناتكن و لا أخواتكن .. " الحديث . و ذكر الزبير أن حمزة أسن من النبي صلى الله عليه و سلم بأربع سنين ، و حكى أبو عمر نحوه ، و قال : و هذا لا يصح عندي ، لأن الحديث الثابت أن حمزة و عبد الله بن عبد الأسد أرضعتهما ثويبة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ، إلا أن تكون أرضعتهما في زمانين . قلت : و أقرب من هذا ما روينا عن ابن إسحاق من طريق البكائي أنه كان أسن من رسول الله صلى الله عليه و سلم بسنتين ، و الله أعلم . و استرضع له من بني سعد بن بكر امرأة يقال لها حليمة بنت أبي ذؤيب ، و كانت تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها و ابن لها ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر . قالت : و في سنة شهباء لم تبق لنا شيئاً . قالت : فخرجت علىأتان لي قمراء ، معنا شارف لنا و الله ما تبض بقطرة لبن ، و ما ننام ليلتينا أجمع مع صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع ، ما في ثديي ما يغنيه ، و ما في شارفنا في ما يغذيه ، و لكنا نرجو الغيث و الفرج ، فخرجت على أتاني فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفاً و عجفاً ، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء ، فما منا إمرأة إلا و قد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم ، و ذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي ، فكنا نقول : يتيم ! ما عسى أن تصنع أمه وجده ؟ فكنا نكرهه لذلك ، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا ، غيري ، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي : و الله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي و لم آخذ رضيعا ، و الله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه . قال : لا عليك أن تفعلي ، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة . قالت : فذهبت إليه فأخذته ، و ما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره ، فلما أخذته رجعت به إلى رحلي ، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن ، و شرب حتى روي ، و شرب معه أخوه حتى روي ، ثم ناما و ما كنا ننام معه قبل ذلك ، فقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل ، فحلب منها ما شرب و شربت حتى انتهينا رياً و شبعاً ، فبتنا بخير ليلة يقول صاحبي حين أصبحنا : تعلمي و الله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة . قلت : و الله إني لأرجو ذلك ، ثم خرجت و ركبت أتاني و حملته عليها معي ، فو الله لقطعت بالركب ما يقدر علي شيء من حمرهم ، حتى إن صواحبي ليقلن لي يا بنت أبي ذؤيب ويحك اربعي علينا ، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها ؟ فأقول لهن : بلى و الله إنها لهي . فيقلن : و الله إن لها لشأنا . قالت : ثم قدمنا منازلنا من بني سعد و لا أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها ، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعاً لبناً ، فنحلب و نشرب و ما يحلب إنسان قطرة لبن و لا يجدها في ضرع ، حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعيانهم : ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب ، فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة لبن ، و تروح غنمي شباعاً لبناً ، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة و الخير حتى مضت سنتاه و فصلته ، و كان يشب شباباً لا يشبه الغلمان ، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاماً جفراً . فقدمنا به على أمه و نحن أحرص شيء على مكثه فينا لما نرى من بركته ، فكلمنا أمه ، و قلت لها : لو تركت بني عبدي حتى يغلظ فإني أخشى عليه وباء مكة ، فلم يزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به ، فو الله إنه بعد مقدمنا به بأشهر مع أخيه لفي بهم لنا خلف بيوتنا ، إذ أتانا أخوه يشتد فقال لي و لأبيه : ذاك أخي القرشي عبد الله قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض ، فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه . قالت : فخرجت أنا و أبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعاً وجهه ، قال : فالتزمته و التزمه أبوه فقلنا : ما لك يا بني ؟ قال : جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا فيه شيئاً لا أدري ما هو . قالت : فرجعنا به إلى خبائنا ، و قال لي أبوه : يا حليمة ! لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به . قالت : فاحتملناه فقدمنا به على أمه . فقالت : ما أقدمك يا ظئر ؟ و لقد كنت حريصة عليه و على مكثه عندك . قلت : قد بلغ الله يا بني ، و قضيت الذي علي و تخوفت الأحداث عليه فأديته عليك كما تحبين . قالت : ما هذا شأنك فأصدقيني خبرك . قالت : فلم تدعني حتى أخبرتها . قالت : أفتخوفت عليه الشيطان ؟ قلت : نعم . قالت : كلا و الله ما للشيطان عليه سبيل و إن لبني لشأنا أفلا أخبرك خبره ؟ قلت : بلى . قالت : رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام ، ثم حملت به فو الله ما رأيت من حمل قط كان أخف منه و لا أيسر منه ، و وقع حين ولدته و إنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء ، دعيه عنك و انطلقي راشدة . قال السهيلي : و ذكر غير ابن إسحاق في حديث الرضاع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان لا يقبل إلا على ثديها الواحد ، و تعرض عليه الآخر فيأباه ، كأنه قد أشعر أن معه شريكاً في لبانها ، و كان مفطوراً على العدل مجبولاً على جميل المشاركة و الفضل صلى الله عليه و سلم . و يروى أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا له : يا رسول الله ، أخبرنا عن نفسك . قال : " نعم ، أنا دعوة أبي إبراهيم و بشارة عيسى بن مريم عليهما الصلاة و السلام ، و رأت أمي حين حملت بي أنه قد خرج منها نور أضاء له قصور الشام ، و استرضعت في بني سعد بن بكر ، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهماً لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجاً ، فأخذاني فشقا بطني ، ثم استخرجا قلبي فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ، ثم غسلا قلبي و بطني بذلك الثلج حتى أنقياه ، ثم قال أحدهما لصاحبه زنه بعشرة من أمته فوزنني بعشرة فوزنتهم ، ثم قال : زنه بمائة من أمة فوزنني بهم فوزنتهم ، ثم قال زنه بألف من أمته فوزنني بهم فوزنتهم . فقال : دعه عنك فلو وزنته بأمته لوزنها " . و في رواية : " فاستخرجا منه مغمز الشيطان و علق الدم " . و فيها : " و جعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن " . شرح الغريب : قوله في هذا الخبر : " و ما في شرفنا ما يغذيه " . قيل بالدال المهملة من الغذاء و قيل بالمعجمة . و قال أبو القاسم : و هو أتم من الأنصار على ذكر الغذاء دون العشاء . و عند بعض الناس : يعذبه : و معناه ما يقنعه حتى يرفع رأسه و ينقطع عن الرضاع ، يقال منه : عذبته و أعذبته إذا قطعته عن الشرب و نحوه ، و العذوب ، و جمعه عذوب بالضم ، و لا يعرف فعول جمع على فعول غيره ، قاله أبو عبيد . انتهى كلام السهيلي رحمه الله . و أنشدني أبي رحمه الله لبعض العرب يهجو قوماً بات ضيفهم : بتنا عذوباً و بات البق يلبسنا نشوي القرح كأن لاحي بالوادي و ذكر فعول على فعول غير عذوب ، و حكي ذلك عن كتاب ليس لابن خالويه . و قوله : " أدمتة بالركب " حبستهم و كأنه من الماء الدائم و هو الواقف . و يروى أذمت : أي الأتان ، أي جاءت بما تذم عليه ، أو يكون من قولهم : بئر ذمة : أي قليلة الماء . و قوله : " يسوطانه " . يقال : سطت اللبن أو الدم أو غيرهما أسوطه ، إذا ضربت بعضه ببعض ، و [ المسوط ] : عود يضرب به . و قوله : " مغمز الشيطان " : هو الذي يغمزه الشيطان من كل مولود إلا عيسى بن مريم و أمه لقول أمها حنة : " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " [ آل عمران : 36 ] و لأنه لم يخلق من مني الرجال و إنما خلق من نفخة روح القدس . قال السهيلي : و لا يدل هذا على فضل عيسى عليه الصلاة و السلام على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم ، لأن محمداً عندما نزع ذلك منه مليء حكمة و إيماناً بعد أن غسله روح القدس بالثلج و البرد . و قد روي أنه عليه الصلاة و السلام ليلة الإسراء أتي بطست من ذهب ممتلئ حكمة و إيماناً فأفرغ في قلبه ، و أنه غسل قلبه بماء زمزم ، فوهم بعض أهل العلم من روى ذلك ذاهباً في ذلك إلى أنها واقعة واحدة متقدمة التاريخ على ليلة الإسراء بكثير . قال السهيلي : و ليس الأمر كذلك بل كان هذا التقديس و هذا التطهير مرتين : الأولى في حال الطفولية ليبقى قلبه من مغمز الشيطان ، و الثانية : عندما أراد الله أن يرفعه إلى الحضرة المقدسة ، و ليصلي بملائكة السماوات ، و من شأن الصلاة الطهور ، فقدس باطناً و ظاهراً و ملئ قلبه حكمة و إيماناً وقد كان مؤمناً ، و لكن الله تعالى قال : " ويزداد الذين آمنوا إيمانا " [ المدثر : 31 ] . رجع إلى الأول : و انطلق به أبو طالب ، و كانت حليمة بعد رجوعها من مكة لا تدعه أن يذهب مكاناً بعيداً ، فغفلت عنه يوماً في الظهيرة ، فخرجت تطلبه حتى تجده مع أخته . فقالت : في هذا الحر ؟ فقالت أخته يا أمه ما وجد أخي حراً ، رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقفت و إذا سار سارت ، حتى انتهى إلى هذا الموضع . تقول أمها : أحقاً يا بنية ؟ قالت : إي و الله . قال : تقول حليمة : أعوذ بالله من شر ما يحذر على ابني . فكان ابن عباس يقول : رجع إلى أمه و هو ابن خمس سنين . و كان غيره يقول : رد إليها و هو ابن أربع سنين ، و هذا كله عن الواقدي . و قال أبو عمر : ردته ظئره حليمة إلى أمه بعد خمس سنين و يومين من مولده ، و ذلك سنة ست من عام الفيل ، و أسلمت حليمة بنت أبي ذؤيب ، و هو عبد الله بن الحارث ابن شجنة بن جابر بن رزام بن ناضرة بن قبيصة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن . قال أبو عمر : روى زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، قال : جاءت حليمة ابنة عبد الله أم النبي صلى الله عليه و سلم من الرضاعة إلى النبي صلى الله عليه و سلم يوم حنين فقام إليها و بسط لها رداءه فجلست عليه ، و روت عن النبي صلى الله عليه و سلم و روى عنها عبد الله بن جعفر . قرئ على أبي العباس أحمد بن يوسف الصوفي و أنا أسمع منه سنة ست و سبعين قال : أخبرنا أبو روح البيهقي سماعاً عليه سنة خمس و ستمائة ، قال : أخبرنا الإمام أبو بكر محمد بن علي الطوسي قراءة عليه و نحن نسمع ، أخبرنا أبو علي نصر الله بن أحمد بن عثمان الخشنامي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن النيسابوري ، أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد الميداني ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن خالد بن فارس ، حدثنا أبو عاصم النبيل ، عن جعفر بن يحيى بن ثوبان ، عن عمه عمارة ، عن أبي الطفيل ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقسم لحماً بالجعرانة و أنا غلام شاب ، فأقبلت امرأة ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه و سلم بسط لها رداءه ، فقعدت عليه . فقال : من هذه ؟ قال : أمه التي أرضعته . هكذا روينا في هذا الخبر ، و كذا حكى أبو عمر بن عبد البر عن حليمة بنت أبي ذؤيب أنها أسلمت و روت . و من الناس من ينكر ذلك ، و حكى السهيلي أنها كانت وفدت على النبي صلى الله عليه و سلم قبل ذلك بعد تزويجه خديجة تشكو إليه السنة و أن قومها قد أسنتوا ، فكلم لها خديجة فأعطتها عشرين رأساً من غنم و بكرات . و ذكر أبو إسحاق بن الأمين في استدراكه على أبي عمر : خولة بنت المنذر بن زيد ابن لبيد بن خداش التي أرضعت النبي صلى الله عليه و سلم . و ذكر غيره فيهن أيضاً أم أيمن بركة حاضنته عليه الصلاة و السلام . |
ذكر الخبر عن وفاة أمه آمنة بنت وهب و حضانة أم أيمن له و كفالة عبد المطلب إياه
قال ابن إسحاق : فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أمه و جده عبد المطلب في كلاءة الله و حفظه ينبته الله نباتاً حسناً ، لما يريد به من كرامته ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ست سنين توفيت أمه آمنة بالأبواء بين مكة و المدينة . قال أبو عمر بن عبد البر : و قيل : ابن سبع سنين . قال : و قال محمد بن حبيب في المحبر : توفيت أمه صلى الله عليه و سلم و هو ابن ثمان سنين . و قال : و توفي جده عبد المطلب بعد ذلك بسنة و أحد عشر شهراً ، سنة تسع من عام الفيل . و قيل : إنه توفي جده عبد المطلب و هو ابن ثمان سنين . رجع إلى ابن إسحاق : قال : و كانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم ، فماتت و هي راجعة إلى مكة فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم مع جده عبد المطلب ، و كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة ، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه ، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالاً ، فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتي و هو غلام جفر حتى يجلس عليه ، فيأخذه أعمامه ليؤخره عنه ، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم : دعوا بني فو الله إن له لشأناً ، ثم يجلسه معه عليه ، و يمسح ظهره بيده . و يسره ما يراه يصنع . قرأت على أحمد بن محمد المقدسي الزاهد ، أخبرك أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان ، عن محمد بن عبد الباقي ، عن أحمد بن الحسن ، قال أبو إسحاق : و أخبرنا أحمد بن محمد بن علي بن صالح ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين ، قالا : أخبرنا أبو علي بن شاذان ، أخبرنا ابن درستويه قال : أخبرنا يعقوب بن سفيان : حدثنا ابو الحسن مهدي بن عيسى ، أخبرنا خالد بن عبد الله الواسطي ، عن داود بن أبي هند ، عن العباس بن عبد الرحمن عن كندير ابن سعيد ، عن أبيه قال : حججت في الجاهلية فبينا أنا أطوف بالبيت ، إذا رجل يقول : رد إلي راكبي محمداً اردده رب و اصطنع عندي يدا قال : قلت : من هذا ؟ قال : عبد المطلب بن هاشم بعث ابن ابنه في إبل له ضلت و ما بعثه في شيء إلا جاء به ، قال : فما برحت حتى جاء و جاء بالإبل معه . قال : فقال له : يا بني حزنت عليك حزناً لا يفارقني بعده أبداً . قالوا : و كانت أم أيمن تحدث تقول : كنت أحضن رسول الله صلى الله عليه و سلم فغفلت عنه يوماً فلم أدر إلا بعبد المطلب قائماً على رأسي يقول : يا بركة ! قلت لبيك . قال : أتدري أين وجدت ابني ؟ قلت : لا أدري . قال : وجدته مع غلمان قريباً من السدرة . لا تغفلي عن ابني ، فإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة ، و أنا لا آمن عليه منهم و كان لا يأكل طعاماً إلا قال علي بابني فيوتى به إليه . و روينا عن ابن سعد قال : أخبرنا هشام ابن محمد بن السائب الكلبي ، قال : حدثني الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري ، عن ابن لعبد الرحمن بن موهب بن رباح الأشعري حليف بني زهرة ، عن أبيه ، قال : حدثني مخرمة بن نوفل الزهري ، قال : سمعت أمي رفيقة بن أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف تحدث ـ و كانت لدة عبد المطلب ـ قالت : تتابعت على قريش سنون ذهبن بالأموال و أشفين على الأنفس . قالت : فسمعته قائلاً يقول في المنام : يا معشر قريش ! إن هذا النبي المبعوث : منكم ، و هذا إبان خروجه . و به يأتيكم الحيا و الخصب ، فانظروا رجلاً من أوسطكم نسباً طوالاً عظاماً ، أبيض ، مقرون الحاجبين ، أهدب الأشفار ـ جعداً ، أسهل الخدين ، رقيق العرنين ، فليخرج هو و جميع ولده ، و ليخرج منكم من كل بطن رجل رجل ، فتطهروا و تطيبوا ، ثم استلموا الركن ، ثم ارقوا إلى رأس أبي قبيس ، ثم يتقدم هذا الرجل فيستسقي و تؤمنون ، فإنكم ستسقون . فأصبحت فقصت رؤياها عليهم ، فنظروا فوجدوا هذه الصفة صفة عبد المطلب ، فاجتمعوا إليه ، و خرج من كل بطن منهم رجل ، ففعلوا ما أمرتهم به ، ثم علوا على أبي قيس ، و معهم النبي صلى الله عليه و سلم و هو غلام . فتقدم عبد المطلب و قال : لا هم ! هؤلاء عبيدك و إماؤك و بنو إمائك وقد نزل بنا ما ترى ، و تتابعت علينا هذه السنون ، فذهبت بالظلف و الخف و الحافر ، و أشفت على الأنفس ، فأذهب عنا الجدب و ائتنا بالحيا و الخصب ، فما برحوا حتى سالت الأودية ، و برسول الله سقوا ، فقالت رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف : بشيبة الحمد أسقي الله بلدتنا و قد فقدنا الحيا و اجلوذ المطر فجاد بالماء جوني له سبل دان فعاشت به الأنعام و الشجر مناً من الله بالميمون له طائره و خير من بشرت يوماً به مضر مبارك الأمر يستسقي الغمام به ما في الأنام له عدل و لا خطر |
ذكر وفاة عبد المطلب و كفالة أبي طالب للنبي صلى الله عليه و سلم
ثم إن عبد المطلب بن هاشم هلك عن سن عالية مختلف في حقيقتها ، قال أبو الربيع ابن سالم : أدناها فيما انتهى إلي و وقفت عليه : خمس و تسعون سنة ، ذكره الزبير ، و أعلاها فيما ذكره الزبير أيضاً عن نوفل بن عمارة ، قال : كان عبيد بن الأبرص ترب عبد المطلب ، و بلغ عبيد مائة و عشرين سنة ، و بقي عبد المطلب بعده عشرين سنة . و كانت وفاته سنة تسع من عام الفيل ، و للنبي صلى الله عليه و سلم يؤمئذ ثمان سنين ، و قيل : بل توفي عبد المطلب و هو ابن ثلاث سنين . حكاه أبو عمر . و بقي رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد مهلك جده عبد المطلب مع عمه أبي طالب ، و كان عبد المطلب يوصيه به فيما يزعون ، و ذلك أن عبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبا طالب أخوان لأب و أم ، فكان أبو طالب هو الذي يلي رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد جده ، فكان إليه و معه . و ذكر الواقدي أن أبا طالب كان مقلاً من المال ، و كانت له قطعة من الإبل تكون بعرنة ، فيبدو إليها فيكون فيها ، و يؤتى بلبنها إذا كان حاضراً بمكة ، فكان عيال أبي طالب إذا أكلوا جميعاً أو فرادى لم يشبعوا ، و إذا أكل معهم النبي صلى الله عليه و سلم شبعوا ، فكان أبو طالب إذا أراد أن يغديهم أو يعشيهم يقول : كما أنتم حتى يأتي ابني . فيأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فيأكل معهم فيفضلون من طعامهم ، و إن كان لبنا شرب رسول الله صلى الله عليه و سلم فيأكل معهم فيفضلون من طعامهم ، و إن كان لبناً شرب رسول الله صلى الله عليه و سلم أولهم ثم يناول القعب فيشربون منه فيروون من عند آخرهم من القعب الواحد ، و إن كان أحدهم ليشرب قعباً وحده ، فيقول أبو طالب : إنك لمبارك . و كان الصبيان يصبحون شعثاً رمصاً ، و يصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم دهيناً كحيلاً . و قالت أم أيمن ـ و كانت تحضنه ـ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم شكا جوعاً قط و لا عطشاً ، و كان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة ، فربما عرضنا عليه الغداء فيقول : أنا شبعان . |
ذكر سفره صلى الله عليه و سلم مع عمه أبي طالب إلى الشام و خبره مع بحيرا الراهب و ذكر نبذة من حفظ الله تعالى لرسوله عليه الصلاة و السلام قبل النبوة
قال أبو عمر : سنة ثلاث عشرة من الفيل . و شهد بعد ذلك بثمان سنين يوم الفجار سنة إحدى و عشرين . و قال أبو الحسن الماوردي : خرج به عليه الصلاة و السلام عمه أبو طالب إلى الشام في تجارة له و هو ابن تسع سنين . و ذكر ابن سعد بإسناد له عن داود بن الحصين : أنه كان ابن اثنتي عشرين سنة . قال ابن إسحاق : ثم إن أبا طالب خرج في ركب إلى الشام فلما تهيأ للرحيل صب به رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما يزعمون فرق له أبو طالب ، و قال : و الله لأخرجن به معي و لا يفارقني و لا أفارقه أبداً أو كما قال . فخرج به معه ، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام ، و بها راهب يقال له بحيرا في صومعة له ، و كان انتهى إليه علم أهل النصرانية ، و لم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب ، إليه يصير عملهم عن كتاب فيها ـ فيما يزعمون ـ يتوارثوه كابراً عن كابر . فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا ، و كانوا كثيراً ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم و لا يعرض لهم ، حتى كان ذلك العام ، فلما نزلوا به قريباً من صومعته صنع لهم الطعام كثيراً ، و ذلك فيما يزعمون عن شيء رآه و هو في صومعته ، يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الركب حين أقبلوا و غمامة تظله من بين القوم ، ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة منه ، فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة و تهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى استظل تحتها ، فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته ، و قد أمر بذلك الطعام فصنع ، ثم أرسل إليهم : إني قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش و أحب أن تحضروا كلكم صغيركم و كبيركم ، و عبيدكم و حركم ، فقال له رجل منهم : و الله يا بحيرا إن بك اليوم لشأناً ، ما كنت تصنع هذا بنا و قد كنا نمر بك كثيراً ، ما شأنك اليوم ؟ قال له بحيرا : صدقت ، قد كان ما تقول ، و لكنكم ضيف ، و قد أحببت أن أكرمكم و أصنع لكم طعاماً فتأكلوا منه كلكم ، فاجتمعوا إليه و تخلف رسول الله صلى الله عليه و سلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم ، فلما نظر بحيرا في القوم لم ير الصفة التي يعرف و يجد عنده ، فقال : يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي . قالوا له : يا بحيرا ما تخلف عن طعامك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام ، و هو أحدث القوم سناً ، فتخلف في رحالهم . قال : لا تفعلوا : ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم . فقال رجل من قريش : و اللات و العزى إن كان للؤماً بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا . ثم قام إليه فاحتضنه و أجلسه مع القوم ، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظاً شديداً ، و ينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته ، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم و تفرقوا ، قام إليه بحيرا ، فقال له : يا غلام ! أسألك بحق اللات و العزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ـ و إنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما ـ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تسألني باللات و العزى سيئاً فو الله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما . فقال له بحيرا : فبالله إلا ما أخبرتني عما أسالك عنه فقال له : سلني عما بدا لك . فجعل يسأله عن أشياء من حاله : من نومه ، و هيئته ، و أموره . و يخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته . ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه من صفته التي عنده ، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال ماهذا الغلام منك ؟ قال : ابني . قال : ما هو بابنك و ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً . قال فإنه ابن أخي . قال : فما فعل أبوه ؟ قال : مات و أمه حبلى به . قال : صدقت ، فارجع بابن أخيك إلى بلده و احذر عليه يهود ، فو الله لئن رأوه و عرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم ، فأسرع به إلى بلاده . فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام ، فزعموا أن نفراً من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل ما رأى بحيرا في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب ، فأرادوه فردهم عنه بحيرا في ذلك ، و ذكرهم الله تعالى ، و ما يجدون في الكتاب من ذكره و صفاته ، و أنهم إن أجمعوا لما أرادوا لم يخلصوا إليه ، حتى عرفوا ما قال لهم و صدقوه بما قال ، فتركوه و انصرفوا عنه . قو له : فصب به رسول الله صلى الله عليه و سلم ، الصبابة : رقة الشوق ، و صببت أصب . و عند بعض الرواة فضبث به : أي لزمه . قال السهيلي . و روينا من طريق الترمذي : حدثنا الفضل بن سهل العباس الأعرج البغدادي ، حدثنا عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح ، قال : أخبرنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي بكر ابن أبي موسى ، عن أبيه ، قال : خرج أبو طالب إلى الشام و خرج معه النبي صلى الله عليه و سلم في أشياخ من قريش ، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم ، فخرج إليهم الراهب ، و كانوا قبل ذلك يورون به فلا يخرج إليهم و لا يلتفت . قال : فهم يحلون رحالهم ، فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله ، ثم قال : هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، يبعثه الله رحمة للعالمين . فقال الأشياخ من قريش : ما علمك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم على العقبة لم يبق شجر و لا حجر إلا خر ساجداً ، و لا يسجدان إلا لنبي ، و إني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، ثم رجع فصنع لهم طعاماً ، فلما أتاهم به و كان هو في رعية الإبل . قال : أرسلوا إليه . فأقبل و عليه غمامة تظله ، فلما دنا من القوم و جدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة ، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه ، فقال : انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه . قال : فبينما هو قائم عليهم و هو يناشدهم أن لا يذهبوا إلى الروم ، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه . فالتفت فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم ، فاستقبلهم فقال : ما جاء بكم ؟ قالوا : جئنا ، إن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس ، و إنا قد أخبرنا خبره بعثنا إلى طريقك هذا . فقال هل خلفكم أحد هو خير منكم ؟ قالوا : إنما اخترنا خيرة بعثنا لطريقك هذا . قال : أفرأيتم أمر أراد الله أن يقضيه ، هل يستطيع أحد من الناس رده ؟ قالوا : لا . قال : فبايعوه و أقاموا معه . قال : أنشدكم بالله أيكم وليه ؟ قالوا : أبو طالب . فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب ، و بعث معه أبو بكر بلالاً ، و زوده الراهب من الكعك و الزيت . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . قلت : ليس في إسناد هذا الحديث إلا من خرج له في الصحيح ، و عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح لقبه انفرد به البخاري . و يونس بن أبي إسحاق انفرد به مسلم . و مع ذلك ففي متنه نكارة و هي إرسال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه و سلم بلالا . و كيف و أبو بكر حينئذ لم يبلغ العشر سنين فإن النبي صلى الله عليه و سلم أسن من أبي بكر بأزيد من عامين ، و كانت للنبي صلى الله عليه و سلم تسعة أعوام على ما قاله أبو جعفر محمد بن جرير الطبري و غيره ، أو اثنا عشر على ما قاله آخرون ، و أيضاً فإن بلالاً لم ينتقل لأبي بكر إلا بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً ، فإنه كان لنبي خلف الجمحيين ، و عندما عذب في الله على الإسلام اشتراه أبو بكر رضي الله عنه رحمة له و استنفاذاً له من أيديهم ، و خبره بذلك مشهور . و قوله : فبايعوه ، إن كان المراد بحيرا على مسالمة النبي صلى الله عليه و سلم فقريب ، و إن كان غير ذلك فلا أدري ما هو . رجع إلى خبر ابن إسحاق : و كان صلى الله عليه و سلم يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره أنه قال : " لقد رأيتني في غلمان من قريش ، ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان ، كلنا قد تعرى و أخذ إزاراً و جعله على رقبته يحمل عليها الحجارة ، فإني لأقبل معهم كذلك و أدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة ، ثم قال : شد عليك إزارك . قال : فأخذته فشددته علي ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي ، و إزاري علي من بين أصحابي " . قال السهيلي : و هذه القصة إنما وردت في الحديث الصحيح في خبر بنيان الكعبة ، كان صلى الله عليه و سلم يحمل الحجارة و إزاره مشدودة عليه ، فقال له العباس : يا ابن أخي ، لو جعلت إزارك على عاتقك ، ففعل ، فسقط مغشياً عليه . ثم قال : " إزاري إزاري " فشد عليه إزاره ، و قام يحمل الحجارة . و في حديث آخر : أنه لما سقط ضمه العباس إلى نفسه ، و سأله عن شأنه ، فأخبره أنه نودي من السماء : أن اشدد عليك إزارك يا محمد . قال : و إنه لأول ما نودي . قال : و حديث ابن إسحاق إن صح محمول على أن هذا الأمر كان مرتين : في حال صغره . و عند بنيان الكعبة . و ذكر البخاري عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : " ما هممت بسوء من أمر الجاهلية إلا مرتين " . و قد قرأت على أبي عبد الله بن أبي الفتح الصوري بمرج دمشق : " أخبركم أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن الحرستاني سماعا عليه ، قال : أخبرنا أبو محمد طاهر بن سهل ابن بشر بن أحمد الإسفرايني ، قال : أخبرنا أبو الحسين محمد بن مكي بن عثمان الأزدي ، أخبرنا القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن إسحاق الحلبي ، حدثنا أبو عبد الله الحسين ابن إسماعيل المحاملي ببغداد ، حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق . قال : و حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة ، عن الحسن بن محمد بن علي ، عن أبيه ، عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ما هممت بقبيح مما يهم به أهل الجاهلية إلا مرتين من الدهر ، كلتاهما عصمني الله عز و جل منهما : قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهله يرعاها : أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان . قال : نعم . فخرجت فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء و صوت دفوف و مزامير ، فقلت : ما هذا ؟ فقالوا : فلان تزوج فلانة لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش ، فلهوت بذلك الغناء و بذلك الصوت حتى غلبتني عيني فنمت ، فما أيقظني إلا مس الشمس ، فرجعت إلى صاحبي . فقال : ما فعلت ؟ فأخبرته . ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك ، فخرجت فسمعت مثل ذلك ، فقيل لي مثل ما قيل لي ، فسمعت كما سمعت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس ، ثم رجعت إلى صاحبي فقال لي ما فعلت ؟ فقلت : ما فعلت شيئاً . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و الله ما هممت بغيرهما بسوء مما يعمله أهل الجاهلية حتى أكرمني الله عز و جل بنبوته " . و ذكر الواقدي عن أم أيمن قالت : كانت بوانة صنماً تحضره قريش ، و تعظمه و تنسك له و تحلق عنده ، و تعكف عليه يوماً إلى الليل في كل سنة ، فكان أبو طالب يحضره مع قومه ، و يكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحضر ذلك العيد معهم ، فيأبى ذلك . قالت : حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ، و رأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب و جعلن يقلن : إن لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا ، و يقلن : ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيداً و لا تكثر لهم جمعاً ؟ ! فلم يزالوا به حتى ذهب ، فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع مرعوباً فزعاً ، فقلنا : ما دهاك ؟ قال : " إني أخشى أن يكون بي لمم " . فقلنا : ما كان الله عز و جل ليبتليك بالشيطان ، و كان فيك من خصال الخير ما كان ، فما الذي رأيت ؟ قال : " كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي : وراءك يا محمد لا تمسه . قالت : فما عاد إلى عيد لهم حتى تنبأ صلى الله عليه و سلم " . |
ذكر رعيته صلى الله عليه و سلم الغنم
روينا عن محمد بن سعد : " أخبرنا سويد بن سعيد و أحمد بن محمد الأزرقي ، قالا : حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص القرشي ، عن جده سعيد يعني ابن عمرو ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بعث الله نبياً إلا راعي غنم . قال له أصحابه : و أنت يا رسول الله ؟ قال : و أنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط " . و روينا عن ابن سعد قال : " أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو إسحاق قال : كان من بين أصحاب الإبل و أصحاب الغنم تنازع ـ فاستطال أصحاب الإبل ، قال : فبلغنا ـ و الله أعلم ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : بعث موسى و هو راعي الإبل ، و بعث داود و هو راعي غنم ، و بعثت و أنا راعي غنم أهلي بأجياد " . |
شهوده صلى الله عليه و سلم يوم الفجار ثم حلف الفضول
قال السهيلي : و الفجار بكسر الفاء بمعنى المفاجرة كالقتال و المقاتلة ، و ذلك أنه كان قتالاً في الشهر الحرام ، ففجروا فيه جميعاً ، فسمي الفجار ، و كانت للعرب فجارات أربعة ذكرها المسعودي ، آخرها فجار البراض ، و هو هذا ، و كان لكنانة و لقيس فيه أربعة أيام مذكورة : يوم شمظة و يوم العبلاء ، و هما عند عكاظ . و يوم الشرب و هو أعظمها يوما و فيه قيد حرب بن أمية و سفيان و أبو سفيان ابنا أمية أنفسهم كي لا يفروا فسموا العنابس . و يوم الحريرة عند نخلة . و يوم الشرب انهزمت قيس إلا بني نصر منهم فإنهم ثبتوا . و كان انقضاء أمر الفجار على يدي عتبة بن ربيعة ، و ذلك أن هوازن تواعدوا مع كنانة للعام المقبل بعكاظ فجاؤوا للوعد ، و كان حرب بن أمية رئيس قريش و كنانة ، و كان عتبة بن ربيعة يتيماً في حجره ، فضن به حرب و أشفق من خروجه معه ، فخرج عتبة بغير إذنه فلم يشعروا إلا و هو على بعيره بين الصفين ينادي : يا معشر مضر ، علام تفانون ؟ فقالت له هوازن : ما تدعو إليه ؟ قال : الصلح على أن ندفع لكم دية قتلاكم و تعفوا عن دمائنا . قالوا : و كيف ؟ قال : ندفع لكم رهناً منا ، قالوا : و من لنا بهذا ؟ قال : أنا . قالوا : و من أنت ؟ قال : أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس . فرضوا به و رضيت به كنانة ، و دفعوا إلى هوازن أربعين رجلا فيهم حكيم بن حزام ، فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم عفوا عن الدماء و أطلقوهم و انقضت حرب الفجار ، و زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقاتل فيها . و روينا عن ابن سعد : أن النبي صلى الله عليه و سلم شهدها و له عشرون سنة و قال : " قال عليه الصلاة و السلام : قد حضرته مع عمومتي و رميت فيه بأسهم ، و ما أحب أني لم أكن فعلت " . و شهد رسول الله صلى الله عليه و سلم حلف الفضول منصرف قريش من الفجار . قال محمد بن عمر : و كان الفجار في شوال ، و هذا الحلف في ذي القعدة و كان أشرف حلف كان قط ، و أول من دعا إليه الزبير بن عبد المطلب ، فاجتمعت بنو هاشم و زهرة و بنو أسد بن عبد العزى في دار ابن جدعان ، فصنع لها طعاماً فتعاقدوا و تعاهدوا بالله لنكونن مع المظلوم حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة . و قال عليه الصلاة و السلام : " ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم و أني أغدر به ـ بعينه ـ " . قال محمد بن عمر : و لا نعلم أحداً سبق بني هاشم بهذا الحلف . |
ذكر سفره عليه الصلاة و السلام إلى الشام مرة ثانية و تزويجه خديجة بعد ذلك
قال ابن إسحاق : و لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خمساً و عشرين سنة تزوج خديجة بنت خويلد فيما ذكره غير واحد من أهل العلم . و قال ابن عبد البر : و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الشام في تجارة لخديجة سنة خمس و عشرين ، و تزوج خديجة بعد ذلك بشهرين و خمسة و عشرين يوماً في عقب صفر سنة ست و عشرين ، و ذلك بعد خمس و عشرين سنة و شهرين و عشرة أيام من يوم الفيل . و قال الزهري : كانت سن رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم تزوج خديجة إحدى و عشرين سنة . قال أبو عمر : و قال أبو بكر بن عثمان و غيره ، كان يومئذ ابن ثلاثين سنة . قالوا : و خديجة يومئذ بنت أربعين سنة . و روينا عن أبي بشر الدولابي ، قال : و حدثني ابن البرقي أبو بكر ، عن ابن هشام ، عن غير واحد ، عن أبي عمرو بن العلاء ، قال : تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم خديجة و هو ابن خمس و عشرين سنة . و روينا عن أبي الربيع بن سالم ، قال : و ذكر الواقدي بإسناد له إلى نفيسة بنت منية أخت يعلى بنت منية ، قال و قد رويناه أيضاً من طريق أبي علي بن السكن ، و حديث أحدهما داخل في حديث الآخر مع تقارب اللفظ ، و ربما زاد أحدهما الشيء اليسير على الآخر ، و كلاهما ينمي إلى نفيسة قالت : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خمساً و عشرين سنة و ليس له بمكة اسم إلا الأمين ، لما تكامل فيه من خصال الخير ، قال أبو طالب : يا ابن أخي ! أنا رجل لا مال لي و قد اشتد الزمان علينا و ألحت علينا سنون منكرة ، و ليس لنا مادة و لا تجارة ، و هذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام ، و خديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عيرانها فيتجرون لها و يصيبون منافع ، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها لأسرعت إليك و فضلتك على غيرك ، لما يبلغها عنك من طهارتك ، و إن كنت لأكره أن تأتي الشام و أخاف عليك من يهود ، و لكن لا نجد من ذلك بداً ، و كانت خديجة بني خويلد امرأة تاجرة ذات شرف و مال كثير و تجارة ، و تبعث بها إلى الشام ، فتكون عيرها كعامة عير قريش ، و كانت تستأجر الرجال و تدفع إليهم المال مضاربة ، و كانت قريش قوماً تجاراً ، و من لم يكن تاجراً من قريش فليس عندهم بشيء . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " فلعلها ترسل إلي في ذلك " . فقال أبو طالب : إني أخاف أن تولي غيرك ، فتطلب أمراً مدبراً ، فافترقا . و بلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له ، و قبل ذلك ما بلغها من صدق حديثه و عظم أمانته و كرم أخلاقه ، فقالت : ما علمت أنه يريد هذا ، ثم أرسلت له فقالت : إنه دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك و عظم أمانتك و كرم أخلاقك ، و أنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك . ففعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و لقي أبا طالب فذكر له ذلك ، فقال : إن هذا لرزق ساقه الله إليك . فخرج مع غلامها ميسرة حتى قدم الشام ، و جعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدم الشام ، فنزلا في سوق بصرى في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب يقال له نسطورا ، فاطلع الراهب إلى ميسرة و كان يعرفه ، فقال : يا ميسرة ! من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة ؟ فقال ميسرة : رجل من قريش من أهل الحرم . فقال له الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي . ثم قال له : في عينيه حمرة ؟ فقال ميسرة : نعم لا تفارقه . قال الراهب : هو هو ، و هو آخر الأنبياء ، و يا ليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج . فوعى ذلك ميسرة . ثم حضر رسول الله صلى الله عليه و سلم سوق بصرى فباع سلعته التي خرج بها ، و اشترى فكان بينه و بين رجل اختلاف في سلعة ، فقال الرجل : احلف باللات والعزى . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ما حلفت بهما قط " . فقال الرجل : القول قولك . ثم قال لميسرة ـ و خلا به ـ يا ميسرة ! هذا نبي ، و الذي نفسي بيده ، إنه لهو تجده أحبارنا منعوتاً في كتبهم . فوعى ذلك ميسرة . ثم انصرف أهل العير جميعاً ، و كان ميسرة يرى رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كانت الهاجرة و اشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس و هو على بعيره ، قال : و كان الله عز وجل قد ألقى على رسول الله صلى الله عليه و سلم المحبة من ميسرة ، فكان كأنه عبد لرسول الله صلى الله عليه و سلم . فلما رجعوا و كانوا بمر الظهران تقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة ، و خديجة في علية لها ، معها نساء فيهن نفسية بنت منية ، فرأت رسول الله صلى الله عليه و سلم حين دخل و هو راكب على بعيره و ملكان يظلان عليه ، فأرته نساءها فعجبن لذلك ، و دخل عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم فخبرها بما ربحوا ، فسرت بذلك ، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت ، فقال لها ميسرة : قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام ، و أخبرها بقول الراهب نسطور ، و قول الآخر الذي خالفه في البيع . قالوا : و قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم بتجارتها ، فربحت ضعف ما كانت تربح ، و أضعفت له ما سمت له ، فلما استقر عندها هذا ، و كانت امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من الكرامة و الخير ، و هي يومئذ أوسط نساء قريش نسباً و أعظمهن شرفاً ، و أكثرهن مالاً و كل قومها كان حريصاً على نكاحها لو يقدر عليه ، فعرضت عليه نفسها ، فقالت له فيما يزعمون : يا ابن عم ! إني قد رغبت فيك لقرابتك و سطتك في قومك و أمانتك و حسن خلقك و صدق حديثك ، فلما قالت ذلك له ، ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، حتى دخل على خويلد ابن أسد فخطبها إليه ، فتزوجها . قال أبو الربيع : هكذا ذكر ابن إسحاق . و ذكر الواقدي و غيره من حديث نفيسة ، أن خديجة أرسلتها إليه دسيساً فدعته إلى تزويجها . قلت : و قد روينا ذلك عن ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر بن واقد الأسلمي ، حدثنا موسى بن شيبة ، عن عميرة بنت عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع ، عن نفيسة بنت منية ، قالت : كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة جلدة شريفة ، مع ماأراد الله بها من الكرامة و الخير ، و هي يومئذ أوسط نساء قريش نسباً ، و أعظمهم شرفاً ، و أكثرهم مالاً ، و كل قومها كان حريصاً على نكاحها لو قدر على ذلك ، قد طلبوها و بذلوا لها الأموال ، فأرسلتني دسيساً إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام ، فقلت : يا محمد ! ما يمنعك أن تزوج ؟ قال : ما بيدي ما أتزوج به . قلت : فإن كفيت ذلك ، و دعيت إلى المال و الجمال و الشرف و الكفاءة ، ألا تجيب ؟ قال : فمن هي ؟ قلت : خديجة . قالت : فكيف لي بذلك ؟ قالت : قلت علي . قال : فأنا أفعل . فذهبت فأخبرتها ، فأرسلت إليه أن ائت لساعة كذا و كذا ، فأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها ، فحضر و دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم في عمومته ، فزوجه أحدهم ، فقال عمرو بن أسد : هذا الفحل لا يقدع أنفه . و تزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو ابن خمس و عشرين سنة ، و هي يومئذ بنت أربعين سنة ، ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة . و ذكر ابن إسحاق أن أباها خويلد بن أسد هو الذي أنكحها من رسول الله صلى الله عليه و سلم و كذلك و جدته عن الزهري و فيه : و كان خويلد أبوها سكران من الخمر ، فلما كلم في ذلك أنكحها ، فألقت عليه خديجة حلة و ضمخته بخلوق ، فلما صحا من سكره قال : ما هذه الحلة و الطيب ؟ فقيل له : أنكحت محمداً خديجة ، و قد ابتنى بها . فأنكر ذلك ثم رضيه و أمضاه . و قال محمد بن عمر : الثبت عندنا المحفوظ من أهل العلم أن أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجار و أن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم . و رأيت ذلك عن غير الواقدي . و قد قيل إن أخاها عمرو بن خويلد هو الذي أنكحها منه . و الله أعلم . و روينا عن بشر الدولابي ، قال : " حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب الزهري ، قال : فلما استوى رسول الله صلى الله عليه و سلم و بلغ أشده ، و ليس له كبير مال ، استأجرته خديجة بنت خويلد إلى سوق حباشة ، و هو سوق بتهامة ، و استأجرت معه رجلاً آخر من قريش . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يحدث عنها : ما رأيت من صاحبة لأجير خيراً من خديجة ، ما كنا نرجع أنا و صاحبي إلا وجدنا عندها تحفة من طعام تخبؤه لنا " . و روينا عن أبي بشر محمد بن أحمد بن حماد ، قال : و حدثني أبو أسامة الحلبي ، حدثنا حجاج بن أبي منيع ، حدثنا جدي ، عن الزهري قال : تزوجت خديجة بنت خويلد بن أسد قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلين : الأول منهما عتيق بن عايذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم فولدت له جارية ، و هي أم محمد بن صيفي المخزومي ، ثم خلف على خديجة بعد عتيق بن عايذ أبو هالة التميمي ، و هو من بني أسد بن عمرو ، فولدت له هند بن هند . كذا وقع في هذه الرواية : عتيق بن عايذ . و الصواب عابد ، قاله الزبير . و سمى الزبير الجارية التي ولدتها منه : هنداً . و اسم أبي هالة : هند بن زرارة بن النباش بن غذي بن خبيب بن صرد بن سلامة ابن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم ، فيما رويناه عن الدولابي : حدثنا أبو الأشعث أحمد ابن المقدام العجلي ، حدثنا زهير بن العلاء ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة بن دعامة ، فذكره . قال ابن إسحاق : و كانت خديجة قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ، و كان ابن عمها ، و كان نصرانياً قد تتبع الكتب ، و علم من علم الناس ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب ، و ما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه . فقال ورقة : لئن كان هذا حقاً يا خديجة إن محمداً لنبي هذه الأمة ، قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر ، هذا زمانه . أو كما قال . قال : فجعل ورقة يستبطئ الأمر ، و له في ذلك أشعار ، منها ما رواه يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق : أتبكر أم أنت العشية رائح و في الصدر من إضمارك الحزن قادح لفرقة قوم لا أحب فراقهم كأنك عنهم بعد يومين نازح و أخبار صدق خبرت عن محمد يخبرها عنه إذا غاب ناصح بأن ابن عبد الله أحمد مرسل إلى كل من ضمت عليه الأباطح و ظني به أن سوف يبعث صادقا كما أرسل العبدان هود و صالح في أبيات ذكرها . |
ذكر بنيان قريش الكعبة شرفها الله تعالى
و لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خمساً و ثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة . قال موسى بن عقبة : و إنما حمل قريشاً على بنائها أن السيل كان أتى من فوق الردم الذي صنعوه ، فأخربه ، فخافوا أن يدخلها الماء ، و كان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة ، فأرادوا أن يشيدوا بنيانها ، و أن يرفعوا بابها حتى لا يدخل إلا من شاؤوا ، و أعدوا لذلك نفقة و عمالاً ، ثم عمدوا إليها على شفق و حذر من أن يمنعهم الله الذي أرادوا . قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنيانها ، كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن ، فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى تحاورا و تخالفوا و أعدوا للقتال ، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً ، ثم تعاقدوا هم و بنو عدي الموت ، و أدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة ، فسموا لعقة الدم ، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا و تناصفوا ، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، و كان عامئذ أسن قريش كلها ، قال : يا معشر قريش ، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم . ففعلوا ، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلما رأوه قالوا : هذا الأمين ، رضينا ، هذا محمد . فلما انتهى إليهم و أخبروه الخبر . قال صلى الله عليه و سلم : هلم إلي ثوباً . فأتى به ، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده . ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوه جميعاً ، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه و سلم ، ثم بنى عليه . و حكى السهيلي : أنها كانت تسع أذرع من عهد إسماعيل ، يعني ارتفاعها ، و لم يكن لها سقف ، فلما بنتها قريش قبل الإسلام زادوا فيها تسع أذرع ، فكانت ثماني عشرة ذراعاً ، و رفعوا بابها عن الأرض ، فكان لا يصعد إليها إلا في درج أو سلم ، و أول من عمل لها غلقا تبع ، ثم لما بناها ابن الزبير زاد فيها تسع أذرع فكانت سبعاً و عشرين ذرعاً ، و على هذا هي إلى الآن . و كان بناؤها في الدهر خمس مرات ، الأولى : حين بناها شيث بن آدم ، و الثانية : حين بناها إبراهيم على القواعد الأولى ، و الثالثة حين بنتها قريش قبل الإسلام بخمسة أعوام ، و الرابعة : حين احترقت في عهد ابن الزبير بشررة طارت من أبي قبيس ، فوقعت في أستارها ، فاحترقت . و قيل : إن امرأة أرادت أن تجمرها فطارت شرارة من المجمرة في أستارها فاحترقت ، فشاور ابن الزيبر في هدمها من حضره ، فهابوا هدمها ، و قالوا : نرى أن تصلح ما وهى و لا تهدم . فقال : لو أن بيت أحدكم احترق لم يرض له إلا بأكمل إصلاح ، و لا يكمل إصلاحها إلا بهدمها ، فهدمها حتى انتهى إلى قواعد إبراهيم ، فأمرهم أن يزيدوا في الحفر ، فحركوا حجراً منها فرأوا تحته ناراً و هولاً أفزعهم ، فأمرهم أن يقروا القواعد و أن يبنوا من حيث انتهى الحفر . و في الخبر أنه سترها حين وصل إلى القواعد ، فطاف الناس بتلك الأستار ، فلم تخل من طائف ، حتى لقد ذكر أن يوم قتل ابن الزبير اشتدت الحرب و اشتغل الناس فلم ير طائف يطوف بالكعبة إلا جمل يطوف بها . فلما استتم بنيانها ألصق بابها بالأرض و عمل لها خلفاً ، أي باباً من ورائها ، و أدخل الحجر فيها ، و ذلك لحديث حدثته به خالته عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " ألم تري قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم حين عجزت بهم النفقة ؟ . ثم قال عليه الصلاة و السلام : لولا حدثان قومك بالجاهلية لهدمتها و جعلت لها خلفاً ، و ألصقت بابها بالأرض ، و لأدخلت الحجر فيها " أو كما قال عليه الصلاة و السلام . قال ابن الزبير : فليس بنا اليوم عجز عن النفقة ، فبناها على مقتضى حديث عائشة . فلما قام عبد الملك بن مروان قال : لسنا من تخليط أبي خبيب بشيء ، فهدمها و بناها على ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم : فلما فرغ من بنائها جاءه الحارث بن أبي ربيعة المعروف بالقباع ، و هو أخو عمر بن أبي ربيعة الشاعر و معه رجل آخر ، فحدثاه عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحديث المتقدم ، فندم و جعل ينكت في الأرض بمخصرة في يده و يقول : و ددت أني تركت أبا خبيب و ما تحمل من ذلك . فهذه المرة الخامسة . فلما قام أبو جعفر المنصور أراد ان يبنيها على ما بناها ابن الزبير ، و شاور في ذلك . فقال له مالك بن أنس ، أنشدك الله ياأمير المؤمنين و أن تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك ، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره ، فتذهب هيبته من قلوب الناس ، فصرفه عن رأيه فيه . و قد قيل : إنه بني في أيام جرهم مرة أو مرتين ، لأن السيل كان قد صدع حائطه و لم يكن ذلك بنياناً ، و إنما كان إصلاحاً لما وهى منه و جداراً يبنى بينه و بين السيل ، بناه عامر الجارد . و كانت الكعبة قبل أن يبنيها شيث عليه السلام خيمة من ياقوتة حمراء يطوف بها آدم و يأنس بها ، لأنها أنزلت إليه من الجنة . و كان قد حج إلى موضعها من الهند . و قد قيل أيضاً : إن آدم هو أول من بناها . ذكره ابن إسحاق في غير رواية البكائي . و في الخبر أن موضعها كان غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله السموات و الأرض ، فلما بدأ الله يخلق الأشياء خلق التربة قبل السماء ، فلما خلق السماء و قضاهن سبع سماوات دحى الأرض ، أي : بسطها ، و ذلك قوله سبحانه و تعالى " والأرض بعد ذلك دحاها " [ النازعات : 30 ] . و إنما دحاها من تحت مكة ، و لذلك سميت أم القرى . و في التفسير : أن الله سبحانه حين قال للسماوات و الأرض " ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " [ فصلت : 11 ] لم يجبه بهذه المقالة إلا الأرض الحرم ، فلذلك حرمها . و في الحديث " أن الله حرم مكة قبل أن يخلق السماوات و الأرض " الحديث . |
ذكر شيء مما حفظ عن الأحبار و الرهبان و الكهان و عبدة الأصنام من أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم سوى ما تقدم
قال ابن إسحاق : و كانت الأحبار من يهود ، و الرهبان من النصارى ، و الكهان من العرب ، قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل مبعثه لما تقارب من زمانه . أما الأحبار من يهود و الرهبان من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفته و صفة زمانه ، و ما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه . و أما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين فيما تسترق من السمع ، إذ كانت لا تحجب عن ذلك ، و كان الكاهن و الكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره ، و لا تلقي العرب لذلك فيه بالاً ، حتى بعثه الله و وقعت تلك الأمور التي كانوا يذكروان فعرفوها ، فلما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم و حضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع و حيل بينها و بين المقاعد التي كانت تقعد فيها لاستراقه ، فرموا بالنجوم ، فعرف الجن ذلك لأمر حدث من أمر الله في العباد . يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم حين بعثه يقص عليه خبرهم إذ حجبوا : " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا * وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا * وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا * وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا * وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا * وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا * وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا * وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا " [ الجن : 1 ـ 10 ]. فلما سمعت الجن القرآن عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك لئلا يشكل الوحي بشيء من خبر السماء فيلبس على أهل الأرض ما جاءهم من الله فيه لوقوع الحجة وقطع الشبهة ، فآمنوا به وصدقوا ثم " ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم " [ الأحقاف : 29 ـ 30 ]. و قول الجن " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن " الآية [ الجن : 6 ] هو أن الرجل من العرب من قريش و غيرهم كان إذا سافر فنزل بطن واد من الأرض ليبيت فيه قال : إني أعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة من شر ما فيه . و ذكر أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمي بها ثقيف ، و أنهم جاؤوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج ، و كان أدهى العرب و أمكرها رأياً . فقالوا له : يا عمرو ! ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم ؟ قال : بلى ، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر و البحر ، و يعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها ، فهو و الله طي هذه الدنيا و هلاك هذا الخلق الذي فيها ، و إن كانت نجوماً غيرها و هي ثابتة على حالها ، فهذا لأمر أراد الله بهذا الخلق . و قد روى أبو عمر النمري من طريق أبو داود ، حدثنا وهب بن بقية ، عن خالد ، ح و حدثنا محمد بن العلاء ، عن ابن إدريس ، كلاهما عن حصين ، عن عامر الشعبي ، قال : لما بعث النبي صلى الله عليه و سلم رجمت الشياطين بنجوم لم يكن يرجم بها قبل . فأتوا عبد يا ليل بن عمرو الثقفي ، فقالوا : إن الناس قد فزعوا ، و قد أعتقوا رقيقهم و سيبوا أنعامهم لما رأوا في النجوم . فقال لهم : و كان رجلاً أعمى ، لا تعجلوا و انظروا ، فإن كانت النجوم التي تعرف فهي عند فناء الناس ، و إن كانت لا تعرف فهو من حدث . فنظروا فإذا هي نجوم لا تعرف . فقالوا : هذا من حدث . فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي صلى الله عليه و سلم . و روينا من طريق مسلم ، " حدثنا الحسن بن علي الحلواني ، و عبد بن حميد ، قال حسن : حدثنا يعقوب ، و قال عبد : حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا أبي ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، قال : حدثني علي بن حسين أن عبد الله بن عباس قال : أخبرني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم من الأنصار ، أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم رمي بنجم فاستنار ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم ، كنا نقول : ولد الليلة رجل عليم و مات رجل عظيم . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فإنها لا يرمى بها لموت أحد و لالحياته ، و لكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمراً سبح حملة العرش ، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا ، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ماذا قال . فيستخبر بعض أهل السماوات بعضاً حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا ، فتخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم ، و يرمون ، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ، و لكنهم يقذفون فيه ويزيدون " . أخبرنا أبو محمد بن إسماعيل المسكي قراءة عليه و أنا أسمع ، أخبرنا أبو عبد الله بن أبي المعالي بن محمد بن الحسين نزيل الاسكندرية سماعاً ، أخبرنا أحمد بن محمد الشافعي قراءة عليه و أنا أسمع ، أخبرنا أحمد بن علي بن الحسين ، أخبرنا الحسن بن أحمد ، أخبرنا عبد الله ابن حعفر ، أخبرنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا يوسف بن حماد المعني ، حدثنا عبد الأعلى ، عن محمد بن إسحاق ، ح و روينا من طريق البكائي عن ابن إسحاق ، و معناهما واحد ، و هذا اللفظ للبكائي عن ابن إسحاق ، قال : و حدثني صالح بن إبراهيم ، عن محمود بن لبيد ، عن سلمة بن سلامة بن وقش ، و كان من أصحاب بدر ، قال : كان لنا جار من يهود من بني عبد الأشهل ، فذكر القيامة و البعث و الحساب و الميزان و الجنة و النار ، فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت فقالوا له : ويحك يا فلان ! أوترى هذا كائناً أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم ؟ ! قال : نعم و الذي يحلف به ، و لود أن بحظه من تلك النار أعظم تنور في داره يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه بأن ينجو من تلك النار غداً . فقالوا له : و يحك يا فلان ! و ما آية ذلك ؟ قال : نبي مبعوث من نحو هذه البلاد و أشار بيده إلى مكة و اليمن . فقالوا : و متى نراه ؟ فنظر إلي و أنا من أحدثهم سناً فقال : إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه . قال سلمة : فو الله ماذهب الليل و النهار حتى بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه و سلم و هو بين أظهرنا ، فآمنا به و كفر به بغياً و حسداً ، فقلنا له : و يحك يا فلان : ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت ؟ قال : بلى و لكن ليس به . و روينا عن محمد بن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني الحجاج بن صفوان ، عن أبي حسين ، عن شهر بن حوشب ، عن عمرو بن عبسة السلمي قال : رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية ، و ذلك أنها باطل ، فلقيت رجلاً من أهل الكتاب من أهل تيماء ، فقلت : إني امرؤ ممن يعبد الحجارة ، فينزل الحي ليس معهم إله ، فيخرج الرجل منهم فيأتي بأربعة أحجارفينصب ثلاثة لقدره ويجعل أحسنها إلهاً يعبده ، ثم لعله يجد ما هو أحسن منه قبل أن يرتحل فيتركه و يأخذ غيره إذا نزل منزلاً سواه ، فرأيت أنه إله باطل لا ينفع و لا يضر ، فدلني على خير من هذا . فقال : يخرج من مكة رجل يرغب عن آلهة قومه و يدعو إلى غيرها ، فإذا رأيت ذلك فاتبعه ، فإنه يأتي بأفضل الدين . فلم يكن لي همة منذ قال لي ذلك إلا مكة ، فآتي فأسأل هل حدث ؟ فيقال لا . ثم قدمت مرة فسألت ، فقالوا : حدث فيها رجل يرغب عن آلهة قومه ، و يدعو إلى غيرها ، فشددت راحلتي برحلها ، ثم قدمت منزلي الذي كنت أنزل بمكة ، فسألت عنه فوجدته مستخفياً ، و وجدت قريشاً عليه أشداء ، فتلطفت له حتى دخلت عليه ، فسألته فقلت : أي شيء أنت ؟ قال : نبي . قلت : و من أرسلك ؟ قال : الله . قلت : و بم أرسلك ؟ قال : بعبادة الله وحده لا شريك له ، و بحقن الدماء ، و بكسر الأوثان ، و صلة الرحم ، و أمان السبيل . فقلت : نعم ما أرسلت به ، قد آمنت بك و صدقتك . أتأمرني أن أمكث معك أو أنصرف ؟ فقال : ألا ترى كراهة الناس ما جئت به ، فلا تستطيع أن تمكث ، كن في أهلك ، فإذا سمعت بي قد خرجت مخرجاً فاتبعني ، فمكثت في أهلي حتى إذا خرج إلى المدينة سرت إليه فقدمت المدينة ، فقلت : يا نبي الله ! تعرفني ؟ قال : " نعم أنت السلمي الذي أتيتني بمكة " ذكر باقي الحديث . و روينا عن ابن إسحاق قال : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن رجال من قومه قالوا : إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله لنا و هداه ، ما كنا نسمع من أخبار يهود ، كنا أهل شرك أصحاب أوثان ، و كانوا أهل كتاب ، عندهم علم ليس لنا ، و كانت لا تزال بيننا و بينهم شرور ، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا : إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن يقتلكم قتل عاد و إرم ، فكنا كثيراً نسمع ذلك منهم ، فلما بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه و سلم أجبناه حين دعانا إلى الله عز وجل ، و عرفنا ما كانوا يتواعدوننا به ، فبادرناهم إليه فآمنا به و كفروا ، ففي ذلك نزلت هذه الآيات في البقرة " ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين " [ البقرة : 89 ] . و ذكر الواقدي عن عطاء بن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم في التوراة . قال : أجل ، و الله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن ، يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً و مبشراً و نذيراً و حرزاً للأميين ، أنت عبدي و رسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ و لا غليظ و لا سخاب في الأسواق ، و لا يدفع السيئة بالسيئة ، و لكن يعفو و يغفر ، و لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ، يفتح بها أعيناً عمياً ، وآذاناً صماً ، و قلوباً غلفاً . قال عطاء : ثم لقيت كعب الأحبار فسألته فما اختلفا في حرف . و روينا عن ابن إسحاق قال : و حدثني عاصم بن عمر ، عن شيخ من بني قريظة ، قال : قال لي : هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية ، و أسيد بن سعية ، و أسيد بن عبيد ، نفر من هذل ، إخوة قريظة ، كانوا معهم في جاهليتهم ، ثم كانوا ساداتهم في الإسلام ؟ قال : قلت : لا . قال : فإن رجلاً من يهود من أهل الشام يقال له ابن الهيبان ، قدم علينا قبل الإسلام بسنين ، فحل بين أظهرنا ، لا و الله ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس أفضل منه ، فأقام عندنا فكنا إذا قحط المطر قلنا له : اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا . فيقول : لا و الله حتى تقدموا بين يدي نجواكم صدقة . فنقول له : كم ؟ فيقول : صاعاً من تمر أو مدين من شعير ، فنخرجها ، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقي لنا ، فو الله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب و نسقى ، قد فعل ذلك غير مرة و لا مرتين و لاثلاث ، ثم حضرته الفاة عندنا ، فلما عرف أنه ميت قال : يا معشر يهود ! ما ترونه أخرجني من أمر الخمر و الخمير إلى أرض البؤس و الجوع ، فقلنا : أنت أعلم . قال : فإنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه ، و هذه البلدة مهاجره ، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه ، و قد أظلكم زمانه ، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود ، فإنه يبعث بسفك الدماء ، وسبي الذراري و النساء ممن خالفه ، فلا يمنعنكم ذلك منه ، فلما بعث الله و رسوله محمداً صلى الله عليه و سلم و حاصر بني قريظة ، قال هؤلاء الفتية ـ و كانوا شباناً أحداثاً ـ : يا بني قريظة ، و الله إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان . فقالوا : ليس به . قالوا : بلى و الله إنه لهو بصفته ، فنزلوا و أسلموا ، فأحرزوا دماءهم و أموالهم و أهليهم . و ذكر الواقدي عن النعمان السبئي، قال : و كان من أخبار يهود باليمن ، فلما سمع بذكر النبي صلى الله عليه و سلم قدم عليه ، فسأله عن أشياء . ثم قال : إن أبي كان يختم على سفر يقول : لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب ، فإذا سمعت به فافتحه . قال نعمان : فلما سمعت بك فتحت ذلك السفر فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة ، و إذا فيه ما تحل و ما تحرم ، و إذا فيه أنك خير الأنبياء ، و أمتك خير الأمم ، و اسمك أحمد صلى الله عليك و سلم ، و أمتك الحمادون ، قربانهم دمائهم ، وأناجيلهم صدورهم ، لا يحضرون قتالاً إلا جبريل معهم ، يتحنن الله عليهم كتحنن الطير على أفراخه ، ثم قال لي : إذا سمعت به فاخرج إليه و آمن به وصدق به ، فكان النبي صلى الله عليه و سلم يحب أن يسمع أصحابه حديثه ، فأتاه يوماً فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : يا نعمان ! حدثنا . فابتدأ النعمان الحديث من أوله ، فرئي رسول الله صلى الله عليه و سلم يبتسم ثم قال : أشهد أني رسول الله . و يقال : إن النعمان هذا هو الذي قتله الأسود العنسي ، و قطعه عضواً عضواً و هو يقول : أشهد أن محمداً رسول الله و أنك كذاب مفتر على الله عز وجل ، ثم حرقه بالنار . أخبرنا الشخان أبو الفضل عبد الرحيم بن يوسف بن يحيى الموصلي ، و أبو الهيجاء غازي بن أبي الفضل بن عبد الوهاب قراءة على الأول و أنا أسمع ، و بقراءتي على الثاني ، قالا : أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن معمر بن طبرزد الدارقزي قراءة عليه ، قال الأول : و أنا الخامسة ، و قال الثاني : و أنا أسمع . قال : أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين الشيباني ، قال : أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزاز ، قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي ، حدثنا محمد بن يونس حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، حدثنا عبد العزيز بن عمران ، عن عبد الله بن جعفر ، عن أبي عون ، عن المسور بن مخرمة ، عن ابن عباس ، عن أبيه العباس ابن عبد المطلب ، قال : قال لي أبي عبد المطلب بن هاشم : خرجت إلى اليمن في رحلة الشتاء والصيف ، فنزلت على رجل من اليهود يقرأ الزبور ، فقال : يا عبد المطلب بن هاشم ! ائذن لي أنظر في بعض جسدك . قال : قلت انظر ما لم يكن عورة . قال : فنظر في منخري ، قال : أجد في إحدى منخريك ملكاً و في الأخرى نبوة ، فهل لك من شاعة ؟ قال : قلت : و ما الشاعة ؟ قال : الزوجة . قال : قلت : أما اليوم فلا . قال : فإذا قدمت مكة فتزوج . قال : فقدم عبد المطلب مكة فتزوج هالة بنت وهيب بن زهرة ، فولدت له حمزة وصفية ، و تزوج عبد الله آمنة بنت وهب ، فولدت له رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فكانت قريش تقول : فلج عبد الله على أبيه . |
خبرإسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه
روينا عن ابن إسحاق ، قال حدثني عاصم ، عن محمود ، عن ابن عباس قال : حدثني سلمان الفارسي من فيه ، قال : كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان من قرية يقال لها جي ، و كان أبي دهقان قريته ، و كنت أحب خلق الله إليه ، و لم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية ، و اجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها ، لا يتركها تخبو ساعة ، و كانت لأبي ضيعة عظيمة ، فشغل في بنيان له يوماً فقال لي : يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي ، فاذهب إليها فاطلعها و أمرني فيها ببعض ما يريد ، ثم قال لي : و لا تحتيس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلي من ضيعتي ، و شغلتني عن كل أمر من أمري . فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها ، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى ، فسمعت أصوائهم فيها يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس ، لحبس أبي إياي في بيته ، فلما سمعت أصوائهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ، و رغبت في أمرهم و قلت هذا و الله خير من الذي نحن عليه ، فو الله ما برحتهم حتى غربت الشمس ، و تركت ضيعة أبي فلم آتها ، ثم قلت لهم أين أصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام . فرجعت إلى أبي و قد بعث في طلبي ، و شغلته عن عمله كله ، فلما جئته قال : أي بني أين كنت ؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت ؟ قلت : يا أبت ! مررت بالناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فو الله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس . قال : أي بني ! ليس في ذلك الدين خير ، دينك و دين آبائك خير منه . فقلت له : كلا و الله ، إنه لخير من ديننا . قال : فخافني ، فجعل في رجلي قيداً ، ثم حبسني في بيته . رحلته في طلب الحق : و بعثت إلى النصاري ، فقلت لهم : إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم . فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبروني ، فقلت لهم : إذا قضوا حوائجهم و أرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم . قال : فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم . قال : فلما أرادوا الرجعة أخبروني بهم ، فألقيت الحديد من رجلي ، ثم قدمت معهم حتى قدمت الشام . مع أسقف الشام : فلما قدمتها قلت : من أفضل أهل هذا الدين علماً ؟ قالوا الأسقف في الكنيسة . فجئته فقلت له : إني قد رغبت في هذا الدين ، و أحببت أن أكون معك ، فأخدمك في كنيستك ، و أتعلم من علمك ، و أصلي معك . قال : ادخل فدخلت معه . فكان معه . فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة و يرغبهم فيها ، فإذا جمعوا إليه شيئاً منها اكتنزه لنفسه و لم يعطه المساكين ، حتى جمع سبع قلال من ذهب و ورق ، فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع ، ثم مات و اجتمعت النصارى ليدفنوه . قلت لهم إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة و يرغبكم فيها ، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ، و لم يعط المساكين منها شيئاً . فقالوا لي : و ما علمك بذلك ؟ قلت : أنا أدلكم على كنزه . فأريتهم موضعه ، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهباً و ورقاً ، فلما رأوها قالوا : و الله لا ندفنه أبداً ، فصلبوه و رموه بالحجارة . و جاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه ، فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه و أزهد في الدنيا ، و لا أرغب في الآخرة و لا أدأب ليلاً و نهاراً منه ، فأحببته حباً لم أحبه شيئاً قبله ، فأقمت معه زماناً ، ثم حضرته الوفاة ، فقلت له : يا فلان ! إني قد كنت معك و أحببتك حباً شديداً قبلك ، و قد حضرك من الأمر ما ترى فإلى من توصي بي ؟ و بم تأمرني ؟ فقال : أي بني ! و الله ما أعلم أحداً على ما كنت عليه ، و لقد هلك الناس ، و بدلوا و توكوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل ، و هو فلان ، و هو على ما كنت عليه . مع أسقف الموصل : فلما مات و غيب لحقت بصاحب الموصل ، فقلت له : يا فلان ! إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك ، و أخبرني أنك على أمره . فقال لي : أقم عندي ، فأقمت عنده ، فوجدته خير رجل ، على أمر صاحبه ، فلم يلبث أن مات ، فلما حضرته الوفاة قلت : يا فلان ! إن فلاناً أوصى بي إليك و أمرني باللحوق بك ، و قد حضرك من أمر الله ما ترى ، فإلى من توصي بي ؟ و بم تأمرني ؟ قال : يا بني و الله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصيبين ، و هو فلان ، فالحق به . مع أسقف نصيبين : فلما مات و غيب لحقت بصاحب نصيبين ، فأخبرته خبري و ما أمرني به صاحبي فقال أقم عندي ، فأقمت عنده ، فوجدته على أمر صاحبه ، فأقمت مع خير رجل ، فو الله ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حضر قلت له : يا فلان ؟ إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصي بي ؟ و بم تأمرني ؟ قال : يا بني و الله ما أعلم بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية من أرض الروم فإنه على مثل ما نحن عليه ، فإن أحببت فأته . مع أسقف عمورية : فلما مات و غيب لحقت بصاحب عمورية فأخبرته خبري . فقال : أقم عندي ، فأقمت عند خير رجل ، على هدي أصحابه و أمرهم ، و اكتسبت حتى كانت لي بقرات و غنيمة ، ثم نزل به أمر الله ، فلما حضر قلت له : يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي ؟ و بم تأمرني ؟ قال : أي بني ! و الله ما أعلمه أصبح على مثل ما كنا عليه أحد من الناس ، أمرك أن تأتيه ، و لكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب ، مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل ، به علامات لا تخفي ، يأكل الهدية ، و لا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل . ثم مات و غيب . إلى وادي القرى : فمكثت بعمورية ما شاء الله أن مكث ، ثم مر بي نفر من كلب تجار ، فقلت لهم : احملوني إلى أرض العرب و أعطيكم بقراتي هذه و غنيمتي هذه ، فقالوا : نعم . فأعطيتهموها و حملوني معهم ، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني ، فباعوني من رجل يهودي ، فكنت عنده ، فرأيت النخل ، فرجوت أن يكون البلدة التي وصف لي صاحبي و لم يحق في نفسي . في المدينة : فبينا أنا عنده إذا قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة ، فابتاعني منه ، فحملني إلى المدينة ، فو الله ماهو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها . و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ، ثم هاجر إلى المدينة ، فو الله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل له فيه بعض العمل ، و سيدي جالس تحتي ، إذا أقبل ابن عم له حتى وقف عليه . فقال : يا فلان ! قاتل الله نبي قيلة ، و الله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي . فلما سمعتها أخذتني العرواء ، حتى ظننت أني ساقط على سيدي ، فنزلت عن النخلة فحعلت أقول لابن عمه ذلك : ماتقول ؟ فغضب سيدي و لكمني لكمة شديدة ، ثم قال : ما لك و لهذا ؟ أقبل على عملك . فقلت : لا شيء ، إنما أردت أن أستثبته عما قال . لقاءه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم : و قد كان عندي شيء جمعته ، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بقباء ، فدخلت عليه ، فقلت له : إنه قد بلغني أنك رجل صالح و معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، و هذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم ، فقربته إليه . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه : " كلوا " ، و أمسك يده فلم يأكل . فقلت في نفسي هذه واحدة ، ثم انصرفت عنه ، فجمعت شيئاً ، و تحول رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة ، ثم جئته ، فقلت : إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة و هذه هدية أكرمتك بها ، فأكل رسول الله صلى الله عليه و سلم و أمر أصحابه فأكلوا معه ، فقلت في نفسي ، هاتان ثنتان . ثم جئت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه ، علي شملتان لي ، و هو جالس في أصحابه ، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ؟ فلما رآني رسول الله صلى الله عليه و سلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي ، فألقى الرداء عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فأكببت عليه أقبله و أبكي . فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : تحول ، فتحولت فجلست بين يديه ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس . فـأعجب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يسمع ذلك أصحابه . مكاتبته : ثم شغل سلمان الرق حتى فاته رسول الله صلى الله عليه و سلم بدر و أحد . قال سلمان : ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : " كاتب سلمان ! " فكاتبت صاحبي على ثلثمائة نخلة أحييها له بالفقير ، و أربعين أوقية ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " أعينوا أخاكم " ، فأعانوني بالنخل ، الرجل بثلاثين ودية ، و الرجل بعشرين ودية ، و الرجل بخمس عشرة ، و الرجل بعشر ، يعين الرجل بقدر ما عنده ، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية . فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : اذهب يا سلمان ففقر لها ، فإذا فرغت فأتني أكن أنا أضعها بيدي ، ففقرت ، و أعانني أصحابي ، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته ، فخرج معي إليها ، فجعلنا نقرب إليه الودي و يضعه رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده حتى فرغت ، فو الذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة ، فأديت النخل و بقي علي المال ، فأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن ، فقال : ما فعل الفارسي المكاتب ؟ فدعيت له ، فقال : " خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان " . قلت : و أين تقع هذه يا رسول الله مما علي ؟ قال : خذها فإن الله سيؤدي بها عنك . فأخذتها فوزنت لهم منها ، و الذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية ، فأوفيتهم حقهم ، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم الخندق حراً ثم لم يفتني معه مشهد . و ذكر أبو عمر في خبر سلمان ، من طرق زيد بن الحباب ، قال : " حدثني ابن واقد ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، أن سلمان أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و فيه : فاشتراه رسول الله صلى الله عليه و سلم من قوم من اليهود بكذا و كذا درهماً ، و على أن يغرس لهم كذا و كذا من النخل ، يعمل فيها سلمان حتى تدرك ، فغرس رسول الله صلى الله عليه و سلم النخل كله إلا نخلة غرسها عمر ، فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة التي غرسها عمر ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من غرسها ؟ قالوا : عمر . فقلعها و غرسها رسول الله صلى الله عليه و سلم فأطعمت من عامها " . و ذكر البخاري رحمه الله حديث سلمان كما ذكره ابن إسحاق ، غير أنه ذكر أن سلمان غرس بيده ودية واحدة ، و غرس رسول الله صلى الله عليه و سلم سائرها ، فعاشت كلها إلا التي غرس سلمان . هذا معنى حديث البخاري رحمه الله . عود للحديث عن رحلته إلى المدينة : و عن سلمان أنه قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم حين أخبره بخبره : أن صاحب عمورية قال له : إئت كذا و كذا من أرض الشام فإن بها رجلاً بين غيضتين ، يخرج في كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزاً ، يعترضه ذوو الأسقام ، فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي ، فسله عن هذا الدين الذي تبتغي فهو يخبرك عنه . قال سلمان : فخرجت حتى جئت حيث وصف لي ، فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك ، حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزاً من إحدى الغيضتين إلى الأخرى ، فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفي ، و غلبوني عليه فلم أخص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل إلا منكبه ، فتناولته . فقال : من هذا ؟ و التفت إلي ، فقلت : يرحمك الله ! أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم ؟ قال : إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم ، قد أظلك نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فأته فهو يحملك عليه . ثم دخل . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لئن كنت صدقت لقد لقيت عيسى بن مريم " . رواه ابن إسحاق عن داود بن الحصين قال حدثني من لا أتهم ، عن عمر بن عبد العزيز ، قال : قال سلمان ، فذكره . قيل : إن الرجل المطوي الذكر في هذا الإسناد هو الحسن بن عمارة ، فإن يكنه فهو ضعيف عندهم قاله السهيلي . و قال : و إن صح هذا الحديث فلا نكارة في متنه ، فقد ذكر الطبري أن المسيح عليه السلام نزل بعدما رفع ، و أمه و امرأة أخرى عند الجزع الذي فيه الصليب تبكيان ، فكلمهما و أخبرهما انه لم يقتل ، و أن الله رفعه و أرسله إلى الحواريين و وجههم إلى البلاد . و إذا جاز أن ينزل مرة جاز أن ينزل مرارا ، و لكن لا يعلم به أنه هو حتى ينزل النزول الظاهر فيكسر و يقتل الخنزير كما جاء في الصحيح ، و الله أعلم . و يروى أنه إذا نزل تزوج امرأة من جذام و يدفن إذا مات في روضة النبي صلى الله عليه و سلم . و قوله : " فقر لثلمائة ودية " معناه : حفر . و قوله : " أحييها له بالفقير " قيل : الوجه بالتفقير . " و قطن النار " خازن النار و خادمها . " و العرواء " : الرعدة . و رأيت بخط جدي رحمه الله فيما علقه على نسخته بكتاب السيرة الهشامية من حواشي كتاب أبي الفضل عياض بن موسى و غيره ، قال الصدقي : العرواء : الحمي النافض ، و البرحاء : الحمى الصالب ، و الرحضاء : الحمى التي تأخذ بالعروق ، و المطواء : التي تأخذ بالتمطي ، و الثوباء : التي تأخذ بالتثاؤب . |
ذكر خبر زيد بن نفيل
و ذكر ابن إسحاق في خبر زيد بن عمرو بن نفيل قال : و كان زيد قد أجمع الخروج من مكة ليضرب في الأرض ، يطلب الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام ، فكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما رأته تهيأ للخروج و أراده آذنت به الخطاب بن نفيل ، و كان الخطاب وكلها به فقال : إذا رأيته هم بأمر فآذنيني به . ثم خرج يطلب دين إبراهيم عليه السلام و يسأل الرهبان و الأحبار حتى بلغ الموصل و الجزيرة كلها ، ثم أقبل فجال الشام كلها حتى إذا انتهى إلى راهب بميفعة من الأرض البلقاء كان ينتهي إليه علم أهل النصرانية فيما يزعمون ، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام فقال : إنك لتطلب ديناً ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم ، و لكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها ، يبعث بدين إبراهيم الحنيفية ، فالحق به فإنه مبعوث الآن ، هذا زمانه . و قد كان زيد شام اليهودية و النصرانية فلم يرض منها شيئاً ، فخرج سريعاً حين قال له ذلك الراهب ما قال يريد مكة ، حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه . |
خبر رسول الله صلى الله عليه و سلم من الإنجيل
قال ابن إسحاق : و كان فيما بلغني عما كان وضع عيسى بن مريم فيما جاءه من الله من الإنجيل من صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، مما أثبت لهم يحنس الحواري حين نسخ لهم الإنجيل ، من عهد عيسى بن مريم إليهم في رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال : من أبغضني فقد أبغض الرب ، و لولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة ، و لكن من الآن بطروا و ظنوا أنهم يعزونني ، و أيضاً للرب ، و لكن لا بد أن تتم الكلمة التي في الناموس أنهم أبغضوني مجاناً ، أي باطلاً ، فلولا قد جاء المنحمنا ، هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب ، روح القسط هذا الذي من عند الرب خرج ، فهو شهيد علي و أنتم أيضاً ، لأنكم قديماً كنتم معي في هذا قلت لكم : لكي لا تشكوا . و المنحمنا بالسريانية هو محمد صلى الله عليه و سلم ، و هو بالرومية البرقليطس . |
خبر سليمان عليه السلام
أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المقدسي حضوراً في الرابعة بقراءة والدي رحمه الله عليه بالقاهرة ، و أبو عبد الله محمد بن عبد المؤمن بن أبي الفتح بقراءتي عليه بمرج دمشق ، قالا : " أخبرنا أبو البركات داود بن أحمد بن محمد بن ملاعب ، أخبرنا أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي ، أخبرنا أبو القاسم يوسف بن أحمد بن محمد المهرواني بانتقاء أبي بكر الخطيب البغدادي الحافظ عليه ، قال : أخبرنا أبو سهل محمود ابن عمر العكبري ، حدثنا أبو صالح سهل بن إسماعيل الموسوي ، حدثنا أبو العباس عبد الله ابن وهب الغزي بالرملة ، حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني ، حدثنا شيخ بن أبي خالد البصري ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كان نقش خاتم سليمان بن داود عليهما السلام : لا إله إلا الله محمد رسول الله " . |
خبر تميم الداري
و روينا عن محمد بن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، حدثني العطاف بن خالد ، عن خالد بن سعيد ، قال : قال تميم الداري : كنت بالشام حين بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فخرجت إلى بعض حاجتي فأدركني الليل ، فقلت : أنا في جوار عظيم هذا الوادي ، فلما أخذت مضجعي إذا مناد ينادي لا أراه : عذ بالله ، فإن الجن لا تجير أحداً على الله . فقلت : أيم تقول ؟ فقال : قد خرج رسول الأميين رسول الله ، و صلينا خلفه بالحجون و أسلمنا و اتبعناه ، و ذهب كيد الجن ، و رميت بالشهب ، فانطلق إلى محمد فأسلم . فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب ، فسألت راهباً به و أخبرته الخبر ، فقال : صدقوك ، نجده يخرج من الحرم ، و مهاجره الحرم ، و هو خير الأنبياء فلا تسبق إليه . قال تميم : فتكلفت الشخوص حتى جئت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلمت . |
خبر قس بن ساعدة الإيادي
قرئ على الشيخة الأصيلة أمة الحق شامية ابنة الإمام الحافظ أبي علي الحسن بن محمد ابن محمد بن محمد البكري ، و أنا أسمع بالقاهرة ، قالت : " أخبرنا أبو محمد عبد الجليل بن أبي غالب بن أبي المعالي بن مندوية الأصبهاني قراءة عليه و أنا أسمع سنة عشر و ستمائة ، قال : أخبرنا أبو المحاسن نصر بن المظفر بن الحسين البرمكي الجرجاني سماعاً عليه سنة تسع و أربعين و خمسمائة ، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن النقور ، أخبرنا أبو الحسين علي ابن عمر بن محمد بن الحسن الحربي ، حدثنا أبو القاسم عبد الله محمد بن عبد العزيز البغوي ، حدثنا محمد بن حسان بن خالد السمتي أبو جعفر سنة ثمان و عشرين و مائتين ، و فيها توفي . حدثنا محمد بن الحجاج اللخمي ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال : قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : أيكم يعرف القس بن ساعدة الإيادي ؟ قالوا : كلنا يا رسول الله يعرفه . قال : فما فعل ؟ قالوا : هلك . قال : ما أنساه بعكاظ على جمل أحمر ، و هو يقول : أيها الناس اجتمعوا و اسمعوا و عوا ، من عاش مات ، و من مات فات ، و كل ما هو آت آت ، إن في السماء لخبراً ، و إن في الأرض لعبراً ، مهاد موضوع و سقف مرفوع ، و نجوم تمور و بحار لا تغور ، أقسم قس قسماً حتماً : لئن كان في الأمر رضى ليكونن سخطاً ، إن لله لديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه ، ما لي أرى الناس يذهبون و لا يرجعون ، أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا ؟ . ثم قال : أيكم يروي شعراً ابن عباس فأنشدوه : في الذاهبين الأوليـ ن من القرون لنا بصائر لما رأيت موارداً للموت ليس لها مصادر و رأيت قومي نحوها تمضي الأصاغر و الأكابر لا يرجع الماضي إلي و لا من الباقين غابر أيقنت أني لا محالـ ـة حيث صار القوم صائر " و قرأت على أبي الفتح يوسف بن يعقوب الشيباني بدمشق ، أخبركم أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي قراءة عليه و أنتم تسمعون ، قال : أخبرنا الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي قراءة عليه و أنا أسمع ، أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن ، حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي ، حدثنا أبو العباس الوليد بن سعيد بن حاتم بن عيسى الفسطاطي بمكة من حفظه ، و زعم أن له خمساً و تسعين سنة في ذي الحجة سنة ست و ستين و ثلثمائة على باب إبراهيم ، أخبرنا محمد بن عيسى بن محمد الأخباري ، حدثنا أبو عيسى بن محمد بن سعيد القرشي ، حدثنا علي بن سليمان ، عن سليمان بن علي ، عن علي بن عبد الله ، عن عبد الله بن عباس قال : قدم الجارود بن عبد الله ، و كان سيداً في قومه على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : و الذي بعثك بالحق لقد وجدت صفتك في الإنجيل ، و لقد بشر بك ابن البتول ، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله و أنك محمد رسول الله . قال : فآمن الجارود و آمن من قومه كل سيد . فسر النبي بهم ، و قال : " يا جارود ! هل في جماعة وفد عبد القيس من يعرف لنا قساً ؟ " قالوا : كلنا نعرفه يا رسول الله ، و أنا من بين يدي القوم كنت أقفو أثره ، كان من أسباط العرب ، فصيحاً ، عمر سبعمائة سنة ، أدرك من الحواريين سمعان ، فهو أول من تأله من العرب ، كأني أنظر إليه يقسم بالرب الذي هو له ، ليبلغن الكتاب أجله ، و ليوفين كل عامل عمله ، ثم أنشأ يقول : هاج للقلب من جواه ادكار و ليال خلالهن نهار في أبيات آخرها : و الذي قد ذكرت دل على اللـ ـه نفوساً لها هدى و اعتبار فقال النبي صلى الله عليه و سلم : " على رسلك يا جارود ، فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل أورق ، و هو يتكلم بكلام ما أظن أني أحفظه " . فقال أبو بكر : يا رسول الله ! فإني أحفظه ، كنت حاضراً ذلك اليوم بسوق عكاظ ، فقال في خطبته : يا أيها الناس ! اسمعوا و عوا ، و إذا وعيتم فانتفعوا ، إنه من عاش مات و من مات فات و كل ما هو آت آت ، مطر و نبات و أرزاق و أقوات ، و آباء و أمهات و أحياء و أموات ، جمع و أشتات و آيات بعد آيات ، إن في السماء لخبراً و إن في الأرض لعبراً ، ليل داج ، و سماء ذات أبراج ، و أرض ذات رتاج ، و بحار ذات أمواج ، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون ، أرضوا بالمقام فأقاموا ، أم تركوا هناك فناموا ؟ أقسم قس قسماً لا حانثاً فيه و لا آثماً أن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه ، و نبياً قد حان حينه و أظلكم آو إنه ، فطوبى لمن آمن به فهداه ، و ويل لمن خالفه و عصاه . ثم قال : تباً لأرباب الغفلة من الأمم الخالية و القرون الماضية يا معشر إياد ! أين الآباء و الأجداد ؟ و أين المريض و العواد ؟ و أين الفراعنة الشداد ؟ أين من بنى و شيد ؟ و زخرف و نجد . و غره المال و الولد ؟ أين من بغى و طغى ، و جمع فأوعى ، و قال أنا ربكم الأعلى ؟ ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً ، و أطول منكم آجالا و أبعد منكم آمالاً ؟ طحنهم الثرى بكلكله ، و مزقهم بتطاوله ، فتلك عظامهم بالية و بيوتهم خاوية ، عمرتها الذئاب العاوية ، كلا بل هو الله الواحد المعبود ، ليس بوالد و لا مولود ، ثم أنشأ يقول : في الذاهبين الأوليـ ـن من القرون لنا بصائر لما رأيت موارداً للموت ليس لها مصادر و رأيت قومي نحوها تمضي الأصاغر و الأكابر لا يرجع الماضي إلي و لا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا لة حيث صار القوم صائر قال : ثم جلس و قام رجل أشدق أجش الصوت ، فقال : لقد رأيت من قس عجباً ، خرجت أطلب بعيراً لي حتى إذا عسعس الليل و كاد الصبح أن يتنفس ، هتف بي هاتف يقول : يا أيها الراقد في الليل الأحم قد بعث الله نبياً في الحرم من هاشم أهل الوفاء و الكرم يجلو دجنات الليالي و البهم قال : فأردت طرفي فما رأيت شخصا ، فأنشأت أقول : يا أيها الهاتف في داجي الظلم أهلاً و سهلاً بك من طيف ألم بين هداك الله في لحن الكلم من ذا الذي تدعو إليه يغتنم قال : فإذا أناة بنحنحة و قائل يقول : ظهر النور ، و بطل الزور ، و بعث الله محمداً صلى الله عليه و سلم بالحبور ، صاحب النجيب الأحمر ، و التاج و المغفر ، و الوجه الأزهر ، و الحاجب الأقمر ، و الطرف الأحور ، صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله ، فذلك محمد المبعوث إلى الأسود و الأحمر ، أهل المدر و الوبر ، ثم أنشأ يقو ل: الحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبث و لم يخلنا سداً من بعد عيسى و اكترث أرسل فينا أحمداً خير نبي قد بعث صلى عليه الله ما حج له ركب و حث قال : و لاح الصباح ، و إذا بالفنيق يشقشق إلى النوق ، فملكت خطامه و علوت سنامه ، حتى إذا لغب فنزل في روضة خضرة ، فإذا أنا بقس بن ساعدة في ظل شجرة ، و بيده قضيب من أراك ينكت به في الأرض و هو يقول : يا ناعي الموت و الملحود في جدث عليهم من بقايا بزهم خرق دعهم فإن لهم يوماً يصاح بهم فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا حتى يعودوا بحال غير حالهم خلقا جديداً كما من قبله خلقوا منهم عراة و منهم في ثيابهم منها الجديد و منها المنهج الخلق قال : فدنوت منه فسلمت عليه فرد علي السلام ، فإذا أنا بعين خرارة في أرض خوارة ، و مسجد بين قبرين ، و أسدين عظيمين يلوذان به ، و إذا بأحدهما قد سبق الآخر إلى الماء ، فتبعه الآخر يطلب الماء فضربه بالقضيب الذي في يده ، و قال : ارجع ثكلتك أمك حتى يشرب الذي ورد قبلك ، فرجع ثم ورد بعده . فقلت له : ما هذا القبران ؟ قال : هذان قبرا أخوين كانا لي يعبدان الله عز و جل معي في هذا المكان ، لا يشركان بالله شيئاً ، فأدركهما الموت فقبرتهما و ها أنا بين قبريهما حتى ألحق بهما ، ثم نظر إليهما و جعل يقول : خليلي هبا طالما قد رقدتما أجدكما لا تقضيان كراكما أم تعلما أني بسمعان مفرداً و ما لي فيه من خليل سواكما مقيم على قبريكما لست بارحاً طوال اليالي أو يجيب صداكما أبكيكما طول الحياة و ما الذي يرد علي ذي لوعة إن بكامكا كأنما و الموت أقرب غائب بروحي في قبريكما قد أتاكما أمن طول نوم لا تجيبان داعياً كأن الذي يسقي العقار سقاكما فلو جعلت نفس لنفس وقاية لجدت بنفسي أن تكون فداكما فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " رحم الله قساً إني لأرجو أن يبعثه الله عز و جل أمة وحده " . |
خبر سواد بن قارب : و كان يتكهن في الجاهلية ، و كان شاعراً ثم أسلم
قرأت على أبي عبد الله بن أبي الفتح بن وثاب الصوري بالزعيزعية بمرج دمشق ، قلت له : أخبركم الشيخان المؤيد هشام بن عبد الرحيم بن أحمد بن محمد البغدادي نزيل أصبهان و أم حبيبة عائشة بنت معمر بن الفاخر القرشية إجازة ؟ قالا : أخبرنا أبو الفرج سعيد بن أبي الرجاء الصيرفي قراءة عليه و نحن نسمع بأصبهان ، قال : أخبرنا أبو نصر إبراهيم بن محمد بن علي الأصبهاني الكسائي ، قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن المقرئ ، قال : أخبرنا أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي ، قال : حدثنا يحيى بن حجر بن النعمان السامي ، قال : حدثنا علي بن منصور الأنباري ، عن عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم جالساً إذ مر به رجل ، فقيل ، يا أمير المؤمنين ! أتعرف هذا المار ؟ قال : و من هذا ؟ قالوا : هذا سواد بن قارب الذي أتاه رئيه بظهور النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : فأرسل إليه عمر رضي الله عنه ، فقال له : أنت سواد بن قارب ؟ قال : نعم . قال أنت الذي أتاك رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم . قال : فأنت على ما كنت عليه من كهانتك ؟ قال : فغضب ؟ و قال : ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت يا أمير المؤمنين . فقال عمر : سبحان الله ؟ ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك ، فأخبرني بإتيانك رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال : نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا ذات ليلة بين نائم و اليقظان ، إذ أتاني رئيي فضربني برجله ، و قال : قم يا سواد ابن قارب فاسمع مقالتي ، و اعقل إن كنت تعقل ، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو الله عز و جل و إلى عبادته ، ثم أنشأ يقول : عجبت للجن و تطلابها و شدها العيس بأقتابها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ما صادق الجن ككذابها فارحل إلى الصفوة من هاشم ليس قداماها كأذنابها قال : قلت : دعني أنام فإني أمسيت ناعساً ، فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله ، و قال : قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي ، و اعقل إن كنت تعقل ، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز و جل و إلى عبادته ، ثم أنشأ يقول : عجبت للجن و تخبارها و شدها العيس بأكوارها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ما مؤمن الجن ككفارها فارحل إلى الصفوة من هاشم بين روابيها و أحجارها قال : قلت : دعني أنام فإني أمسيت ناعساً ، فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله ، و قال : قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي ، و اعقل إن كنت تعقل ، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز و جل و إلى عبادته ، ثم أنشأ يقول : عجبت للجن و تجساسها و شدها العيس بأحلاسها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ما خير الجن كأنجاسها فارحل إلىالصفوة من هاشم و اسم بعينيك إلى راسها فقمت فقلت : قد امتحن الله قلبي ، فرحلت ناقتي ، ثم أتيت المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم و صحبه حوله ، فدنوت فقلت : اسمع مقالتي ، يا رسول الله . قال : هات . فأنشأت أقول : أتاني نجيي بعد هدء و رقدة و لم يك فيما قد بلوت بكاذب ثلاث ليال قوله كل ليلة أتالك رسول من لؤي بن غالب فشمرت من ذيلي الإزار و وسطت بي الذعلب الوجناء بين السباسب فأشهد أن الله لا رب غيره و أنك مأمونه على كل غالب و أنك أدنى المرسلين وسيلة إلى الله يا بن الأكرمين الأطايب فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل و إن كان فيما جاء شيب الذوائب و كن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة سواك بمغن عن سواد بن قارب قال : ففرح رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه بمقالتي فرحاً شديداً ، حتى رؤي الفرح في وجوههم . قال : فوثب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فالتزمه و قال : قد كنت أشتهي أن أسمع هذا الحديث منك ، فهل يأتيك رئيك اليوم ؟ قال : أما منذ قرأت القرآن فلا ، و نعم العوض كتاب الله من الجن ، ثم أنشأ عمر يقول : كنا يوماً في حي من قريش يقال لهم آل ذريح و قد ذبحوا عجلا لهم ، و الجزار يعالجه ، إذ سمعنا صوتاً من جوف العجل و لا نرى شيئا : يا آل ذريح ، أمر نجيح ، صائح يصيح بلسان فصيح ، يشهد أن لا إله إلا الله . و قد روينا خبر سواد هذا من طريق البخاري ، حدثنا يحيى بن سليمان ، حدثني ابن وهب ، حدثني عمر أن سالمات حدثه عن عبد الله بن عمر فذكر الخبر أخصر مما سقنا و في الألفاظ اختلاف . قال السهيلي : و لسواد بن قارب هذا مقام حميد في دوس حين بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال : و من هذا الباب خبر سوداء بنت زهرة بن كلاب ، و ذلك أنها حين ولدت و رآها أبوها زرقاء شيماء أمر بوأدها ، و كانوا يئدون من البنات ما كانت على هذه الصفة ، فأرسلها إلى الحجون لتدفن هناك ، فلما حفر لها الحافر و أراد دفنها ، سمع هاتفاً يقول : لا تئد الصبية ، و خلها في البرية . فالتفت فلم ير شيئاً ، فعاد لدفنها ، فسمع الهاتف يسجع بسجع آخر في المعنى ، فرجع إلى أبيها و أخبره بما سمع . فقال : إن لها شأناً و تركها ، فكانت كاهنة قريش ، فقالت يوماً لبني زهرة ، إن فيكم نذيرة أو تلد نذيراً ، فاعرضوا علي بناتكم ، فعرضن عليها ، فقالت : في كل واحدة منهن قولاً ظهر بعد حين ، حتى عرضت عليها آمنة بنت وهب فقالت : هذه النذيرة أو ستلد نذيراً . و هو خبر طويل ذكر الزبير يسيراً منه . و ذكره بطوله أبو بكر النقاش ، رحمه الله تعالى . |
ذكر دعاء رسول الله صلى الله عليه و سلم قومه و غيرهم إلى الإسلام
قال ابن إسحاق : ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال و النساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة ، و تحدث الناس به ، ثم إن الله عز و جل أمر رسوله صلى الله عليه و سلم أن يصدع بما جاءه منه ، و أن ينادي في الناس بأمره و يدعو إليه ، و كان مدة ما أخفى رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره و استسر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهاره ثلاث سنين فيما بلغني من مبعثه ، ثم قال الله تعالى له : " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " [ الحجر : 94 ] ثم قال : " وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " [ الشعراء : 215 ـ 216 ] . " وقل إني أنا النذير المبين " [ الحجر : 89 ] . فلما بادى رسول الله صلى الله عليه و سلم قومه بالإسلام و صدع به كما أمره الله ، لم يبعد منه قومه و لم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم و عابها ، فلما فعل ذلك أعظموه و ناكروه و أجمعوا خلافه و عداوته صلى الله عليه و سلم إلا من عصم الله منهم بالإسلام ، و هم قليل مستخفون ، و حدب على رسول الله صلى الله عليه و سلم عمه أبو طالب و منعه و قام دونه . و مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم مظهراً له ، لا يرده عنه شيء ، فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم و عيب آلهتهم ، و رأزا أن عمه أبو طالب قد حدب عليه و قام دونه و لم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا و عاب ديننا و سفه أحلامنا و ضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا و إما أن تخلي بيننا و بينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً ، وردهم رداً جميلاً ، فانصرفوا عنه ، و مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما هو عليه يظهر دين الله و يدعوا إليه ، ثم شري الأمر بينه و بينهم ، حتى تباعد الرجال و تضاغنوا ، و أكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم بينها ، فتذامروا عليه و حض بعضهم بعضاً عليه . ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى ، فقالوا له : يا أبا طالب إن لك سناً و شرفاً و منزلة فينا ، و إنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، و إنا و الله لا نصبر على هذا من شتم آباءنا و تسفيه أحلامنا و عيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله و إياك في ذلك ، حتى يهلك أحد الفريقين أو كما قال . ثم انصرفوا عنه فعظم عل أبي طالب فراق قومه و عداوتهم و لم يطب نفساً بإسلام رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا خذلانه . و ذكر أن أبا طالب لما قالت له قريش هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال له : يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا و كذا ـ للذي قالوا له ـ فأبق علي و على نفسك و لا تحملني من الأمر مالا أطيق . فظن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء ، و أنه خاذله و مسلمه ، و أنه قد ضعف عن نصرته و القيام معه ، فقال له : " يا عم و الله لو وضعوا الشمس على يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته " . ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فبكى ، ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال له : أقبل يا ابن أخي . فأقبل عليه ، فقال : اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً . ثم إن قريشاً حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه و سلم و إسلامه ، و إجماعه لقراقهم في ذلك و عداوتهم ، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة ، فقالوا له : يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتىً من قريش و أجمله فخذه فلك عقله و نصره ، و اتخذه ولداً ، و أسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك و دين آبائك ، و فرق جماعة قومك و سفه أحلامهم ، فنقتله فإنما هو رجل كرجل . قال : و الله لبئس ما تسومونني ، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم و أعطيكم ابني تقتلونه ، هذا و الله ما لا يكون أبداً . فقال المطعم بن عدي : و الله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك و جهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً . فقال له أبو طالب و الله ما أنصفوني و لكنك قد أجمعت خذلاني و مظاهرة القوم علي ، فاصنع ما بدا لك ، فحقب الأمر ، و تنابذ القوم ، و بادى بعضهم بعضاً . قال : ثم إن قريشاً تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين اسلموا معه ، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم و يفتنونهم عن دينهم ، و منع الله تعالى منهم رسوله بعمه أبي طالب ، و قد قام أبو طالب حين رأى قريشاً يصنعون ما يصنعون في بني هاشم و بني المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه و سلم و القيام دونه ، فاجتمعوا إليه و أقاموا معه و أجابوه إلى ما دعاهم إليه ، إلا ما كان من أبي لهب . روينا عن أبي بكر الشافعي ، " حدثنا إسحاق بن الحسن بن ميمون الحربي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام ، حدثنا محمد بن المنكدر ، أنه سمع ربيعة بن عباد أو عباد الدؤلي يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يطوف على الناس في منازلهم قبل أن يهاجر إلى المدينة ، يقول : يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تعبدوه و لا تشركوا به شيئاً " . قال و وراءه رجل يقول : يا أيها الناس إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم . فسألت من هذا الرجل ؟ فقيل أبو لهب . قال ابن إسحاق : ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش و كان ذا سن فيهم ، و قد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم و إن وفود العرب ستقدم عليكم ، و قد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأياً و لا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً . قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل ، و أقم لنا رأياً نقول فيه . قال : بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا : نقول كاهن . قال : و الله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن و لا بسجعه . قالوا فنقول : مجنون . قال و الله ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون و عرفناه فما هو بحنقه و لا تخالجه و لا وسوسته . قالوا : فنقول شاعر . قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه و هزجه و قريضه و مقبوضه و مبسوطه ، فما هو بالشعر . قالوا : فنقول : ساحر ، قال : ما هو بساحر ، قد رأينا السحار و سحرهم ، فما هو بنفثه و لا عقده . قالوا : فما تقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : و الله إن لقوله لحلاوة ، و إن أصله لعذق و إن فرعه لجناة ، و ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا أعرف أنه باطل ، و إن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء و أبيه و بين المرء و أخيه و بين المرء و زوجه و بين المرء و عشيرته . فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، و ذكروا له أمره ، و صدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها . قوله : لعذق بفتح العين المهملة و سكون الذال إستعارة من النخلة التي ثبت أصلها و هو العذق . و رواية ابن هشام : لغدق بغين معجمة و كسر الدال المهملة من الغدق ، و هو الماء الكثير . قال السهيلي : و رواية ابن إسحاق أفصح لأنها استعارة تامة تشبه آخر الكلام بأوله . |
ذكر ما لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم من أذى قومه و صبره و ما من الله به من حمايته له
أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المقدسي ، و أبو محمد عبد العزيز بن عبد المنعم الحراني قراءة عليهما و أنا حاضر ، فالأول قال : أخبرنا أبو اليمن الكندي ، و الثاني قال : أخبرنا أبو علي بن أبي القاسم البغدادي ، قالا : أخبرنا محمد بن عبد الباقي ، أخبرنا ابن حسون ، أخبرنا أبو القاسم السراج هو موسى بن عيسى بن عبد الله ، حدثنا محمد ابن محمد بن سليمان ، حدثنا أبو طاهر أحمد بن عمر بن السرح ، حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني الليث بن سعد ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن أبان بن صالح ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن العباس بن عبد المطلب قال : كنت يوماً في المسجد فأقبل أبو جهل فقال : إن لله علي إن رأيت محمداً أن أطأعلى عنقه ، فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى دخلت عليه فأخبرته بقول أبي جهل ، فخرج غضبان حتى دخل المسجد ، فعجل أن يدخل من الباب ، فاقتحم من الحائط . فقلت هذا يوم شر نبشته ، فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ : " اقرأ باسم ربك الذي خلق " [ العلق : 1 ] حتى بلغ شأن أبي جهل " كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى " [ العلق : 6 ـ 7 ] قال : فقال إنسان لأبي جهل : يا أبا الحكم ! هذا محمد . فقال أبو جهل : ألا ترون ما أرى ؟ و الله لقد سد أفق السماء علي ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم آخر السورة سجد . قرأت على الإمام الزاهد أبي إسحاق إبراهيم بن علي أحمد بسفح قاسيون ، "أخبركم أبو بركات داود بن أحمد بن محمد البغدادي قراءة عليه و أنت تسمع ، فأقر به ، أخبرنا أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف ، أخبرنا أبو الغنائم عبد الصمد بن علي بن محمد بن المأمون ، أخبرنا الشيخ أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد الدار قطني ، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن سعيد البزاز ، و محمد بن هارون الحضرمي قالا : حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا عبد السلام هو ابن حرب ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزل " تبت يدا أبي لهب " جاءت امرأة لهب إلى النبي صلى الله عليه و سلم و معه أبو بكر رضي الله عنه ، فلما رآها قال : يا رسول الله إنها امرأة بذية ، فلو قمت لا تؤذيك . قال : إنها لن تراني . فجاءت فقالت يا أبا بكر صاحبك هجاني . قال : لا ، و ما يقول الشعر . قالت : أنت عندي تصدق و انصرفت . قلت : يا رسول الله ! لم ترك ؟ قال : لا ، لم يزل ملك يسترني منها بجناحه " . قرأت على أبي عبد الله محمد بن عثمان بن سلامة بدمشق ، "أخبرك أبو القاسم الحسن بن علي بن الحسين بن الحسن بن محمد بن البن الأسدي قراءة عليه و أنت تسمع ، فأقر به : أخبرنا جدي ، أخبرنا القاسم بن أبي العلاء ، أخبرنا أبو محمد بن أبي نصر ، أخبرنا خثيمة ، حدثنا هلال يعني ابن العلاء الرقي ، حدثنا سعيد بن عبد الملك ، حدثنا محمد ابن سلمة ، عن أبي عبد الرحيم ، عن زيد هو ابن أبي أنيسة ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو ابن ميمون الأودي ، حدثنا عبد الله بن مسعود ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد الحرام ، و رفقة من المشركين من قريش ، و نبي الله صلى الله عليه و سلم يصلي و قد نحر قبل ذلك جزور ، ، و قد بقي فرثه و قذره ، فقال أبو جهل : ألا رجل يقوم إلى هذا القذر يلقيه على محمد . و نبي الله صلى الله عليه و سلم ساجد ، إذ انبعث أشقاها ، فقام فألقاها عليه . قال عبد الله : فهبنا أن نلقيه عنه ، حتى جاءت فاطمة رضي الله عنها فألقته عنه ، فقام فسمعته يقول ، و هو قائم يصلي : اللهم اشدد وطأتك على مضر ، سنين كسني يوسف ، عليك بأبي الحكم بن هشام ـ و هو أبو جهل ـ و عتبة بن ربيعة ، و شيبة بن ربيعة ، و الوليد بن عتبة ، و عقبة ابن أبي معيط ، و أمية بن خلف و رجل آخر . ثم قال : رأيتهم من العام المقبل صرعى بالطوي طوي بدر ، صرعى بالقليب " . و أخبرنا ابن الواسطي فيما قرأت عليه ، أخبرنا ابن ملاعب أخبرنا الأرموي ، أخبرنا ابن المأمون ، أخبرنا الدارقطني ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن صالح الأزدي ، حدثنا الزبير بن بكار ، حدثني أبو يحيى هارون بن بكر بن عبد الله الزهري ، عن عبد الله بن سلمة ، عن عبد الله بن عروة بن الزبير ، قال : حدثني عمرو بن عثمان بن عفان ، عن أبيه عثمان بن عفان ، قال : أكثر ما نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه و سلم أني رأيته يوماً ـ قال عمرو : فرأيت عيني عثمان بن عفان زرفتا من تذكر ذلك ـ قال عثمان بن عفان : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يطوف بالبيت و يده في يد أبي بكر ، و في الحجر ثلاثة نفر جلوس : عقبة بن أبي معيط ، و أبو جهل بن هشام ، و أمية بن خلف ، فمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما حاذاهم أسمعوه بعض ما يكره ، فعرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه و سلم ، فدنوت منه حتى وسطته ، فكان بيني و بين أبي بكر ، و أدخل أصابعه في أصابعي حتى طفنا جميعاً ، فلما حاذاهم قال أبو جهل : و الله لا نصالحك ما بل بحر صوفة ، و أنت تنهى أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " أنا ذلك " . ثم مضى عنهم ، فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك ، حتى إذا كان في الشوط الرابع ناهضوه ، و وثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجامع ثوبه ، فدفعت في صدره ، فوقع على استه ، و دفع أبو بكر أمية بن خلف ، و دفع رسول الله صلى الله عليه و سلم عقبة بن أبي معيط ، ثم انفرجوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو واقف ، ثم قال : " أما و الله لا تنهون حتى يحل بكم عقابه عاجلاً " . قال عثمان : فو الله ما منهم رجل إلا و قد أخذه أفكل و هو يرتعد ، فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : بئس القوم أنتم لنبيكم ، ثم انصرف إلى بيته و تبعناه خلفه ، حتى انتهى إلى باب بيته و وقف على السدة ، ثم أقبل علينا بوجهه ، فقال : " أبشروا فإن الله عز و جل مظهر دينه ، و متم كلمته ، و ناصر نبيه ، و إن هؤلاء الذين ترون مما يذبح الله بأيديكم عاجلًا " ، ثم انصرفنا إلى بيوتنا ، فو الله لقد رأيتهم قد ذبحهم الله بأيدينا . |
خبر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه
و من ذلك خبر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه : روينا عن ابن إسحاق : حدثني رجل من أسلم ، و كان واعية ، أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه و سلم عند الصفا فآذاه و شتمه ، و نال منه بعض ما يكره ، من العيب لدينه و التضعيف لأمره ، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و مولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك ، ثم انصرف عنه ، فعمد إلى نادي قريش فجلس معهم ، ، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحاً سيفه راجعاً من قنص له ، و كان صاحب قنص يرميه و يخرج له ، و كان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة ، و كان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف و سلم و تحدث معهم ، و كان أعز فتى في قريش و أشده شكيمة ، فلما مر بالمولاة و قد رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيته . قالت له : يا أبا عمارة ، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفاً من أبي الحكم بن هشام ، وجده ها هنا جالساً فآذاه و سبه و بلغ منه ما يكره ، ثم انصرف عنه و لم يكلمه محمد . فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته ، فخرج يسعى و لم يقف على أحد معداً لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به ، فلما دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم فأقبل نحوه ، حتى إذا قام على رأسه ، رفع القوس فضربه بها ، فشجه شجة منكرة ، ثم قال : أتشتمه ؟ فأنا على دينه ، أقول ما يقول ، فرد علي ذلك إن استطعت . فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل ، فقال أبو جهل : دعوا أبا عمارة فإني و الله قد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً . و تم حمزة على إسلامه ، و على ما تابع عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم من قوله . فلما أسلم حمزة علمت قريش أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد عز و امتنع ، و أن حمزة سيمنعه ، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه . و روينا عن ابن إسحاق قال : حدثني يزيد بن أبي زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة ـ و كان سيداً ـ قال يوماً و هو جالس في نادي قريش و النبي صلى الله عليه و سلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه و أعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها ، فنعطيه أيها شاء و يكف عنا ، و ذلك حين أسلم حمزة ، و رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثرون و يزيدون ، فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، فقم إليه فكلمه ، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة ، و المكان في النسب و إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم و سفهت به أحلامهم ، و عبت به آلهتهم و دينهم ، و كفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها . قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : " قل يا أبا الوليد أسمع " . قال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أمولنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، و إن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ، و إن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا ، و إن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب ، و بذلنا فيه أموالنا ، حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ، أو كما قال له . حتى إذا فرغ عتبة و رسول الله صلى الله عليه و سلم يسمع منه ، قال : " أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ " قال : نعم . قال : " فاسمع مني " . قال : أفعل . " قال : " حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون " " [ فصلت : 1 ـ 4 ] . ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها يقرأها عليه ، فلما سمعها عتبة منه ، أنصت لها ، و ألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه ، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى السجدة منها ، فسجد . ثم قال : " قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت و ذاك " . فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض يحلف بالله : لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني سمعت قولاً و الله ما سمعت مثله قط ، و الله ما هو بالشعر و لا بالسحر ، و لا بالكهانة ، يا معشر أطيعوني و اجعلوها بي ، خلوا بين هذا الرجل و بين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، و إن يظهر على العرب فملكه ملككم ، و عزه عزكم ، و كنتم أسعد الناس به . قالوا : سحركم و الله يا أبا الوليد بلسانه . قال : هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لم . و روينا عن الطبراني ، " حدثنا القاسم بن عياش بن حماد أبو محمد الجهني الحذاء الموصلي ، حدثنا محمد بن موسى الحرشي ، حدثنا أبو خلف عبد الله بن عيسى الخزاز ، حدثنا داود بن أبي هند عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة ، و يزوجوه ما أراد من النساء . فقالوا : هذا لك عندنا يا محمد و كف عن شتم آلهتنا و لا تذكرها بسوء ، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة و لك فيها صلاح . قال : ما هي ؟ قالوا : تعبد آلهتنا سنةً ـ اللات و العزى ـ و نعبد إلهك سنة . قال : حتى أنظر ما يأتيني من ربي . فجاء الوحي من عند الله عز وجل من اللوح المحفوظ : " قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون " [ الكافرون : 1 ـ 2 ] السورة و أنزل الله عز وجل " قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " " بل الله فاعبد وكن من الشاكرين " [ الزمر : 64 و 66 ] " . و روينا " من طريق الترمذي ، حدثنا عبد بن حميد ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس [ سندع الزبانية ] قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن على عنقه . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لوفعل لأخذته الملائكة عياناً " . قال : " حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي ، فجاء أبو جهل ، فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ فانصرف النبي صلى الله عليه و سلم ، فزبره ، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني . فأنزل الله تعالى : " فليدع ناديه * سندع الزبانية " [ العلق : 17 ـ 18 ] قال ابن عباس : و الله لودعا ناديه لأخذته زبانية الله " . ===== |
و روينا عن ابن عباس ، من طريق محمد بن إسحاق ، اجتماع قريش و عرضهم على النبي صلى الله عليه و سلم ما عرضوا عليه من أموالهم و غير ذلك ، و قوله عليه الصلاة و السلام : " ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، و لا الشرف فيكم ، و لا الملك عليكم ، و لكن الله بعثني إليكم رسولاً ، و أنزل علي كتاباً ، و أمرني أن أكون لكم بشيراً و نذيراً ، فبلغتكم رسالات ربي و نصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا و الآخرة ، و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " ، أو كما قال صلى الله عليه و سلم . فقالوا له : فسل ربك أن يسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، و ليبسط علينا بلادنا ، و ليخرق فيها أنهاراً كأنهار الشام و العراق ، و ليبعث لنا من مضى من آبائنا ، و ليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ، فإنه كان شيخ صدق ، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل ؟ و فيه : قالوا له : سل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول و يراحعنا عنك ، و اسأله فليجعل لنا جناناً و قصوراً و كنوزاً من ذهب و فضة يغنيك بها عما تراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق و تلتمس المعاش . و ذكر قولهم : فأسقط السماء علينا كسفاً كما زعمت أن ربك إن شاء فعل . و قال قائلهم : نحن نعبد الملائكة ، و هي بنات الله . و قال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله و الملائكة قبيلاً . و قال : إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن ، و إنا و الله لن نؤمن بالرحمن أبداً . فلما قالوا له ذلك . قام رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهم و معه عبد الله بن أبي أمية المخزومي و هو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : و الله لانؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً ، ثم ترقى فيه و أنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك كما تقول ، و ايم الله أن لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك .
و قال أبو جهل : يا معشر قريش إني أعاهد الله لأجلسن له غداً بحجر ما أطيق حمله أو كما قال ، فإذا سجد في صلاته فضحت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني ، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم . قالوا : و الله لا نسلمك لشيء أبداً فامض لما تريد ، فلما أصبح أبو جهل أخذ حجراً كما وصف ، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه و سلم ينتظره ، و غدا رسول الله صلى الله عليه و سلم كما كان يغدو ، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه و سلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه مرعوباً قد يبست يداه على حجره ، حتى قذف الحجر من يده ، و قامت إليه رجال من قريش ، فقالوا له : مالك يا أبا الحكم ؟ قال : قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة ، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل لا و الله ما رأيت مثل هامته و لا قصرته و لا أنيابه بفحل قط ، فهم بي أن يأكلني . قال ابن إسحاق : فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " ذلك جبريل لودنا لأخذه " . و ذكر في الخبر بعث قريش النضر بن الحارث بن كلدة ، و بعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود و قالوا لهما : سلاهم عن محمد و صفا لهم صفته ، و أخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول ، و عندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى قدما المدينة ، و سألا أحبار يهود ، فقالت لهما : سلوا عن ثلاث ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، و إن لم يفعل فالرجل متقول . سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول : ما كان من أمرهم ؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب . و سلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض و مغاربها . ما كان نبؤه ؟ و سلوه عن الروح : ما هو ؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي و إن لم يفعل فهو رجل متقول . فأقبل النضر و عقبة فقالا : قد جئناكم بفصل ما بينكم و بين محمد ، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما يذكرون ، فقال عليه الصلاة و السلام : " أخبركم غداً ، و لم يستثن " . فانصرفوا ، فمكث رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحياً ، و لا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة و قالوا : وعدنا محمد غداً و اليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه . حتى أحزن رسول الله صلى الله عليه و سلم مكث الوحي عنه ، و شق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف ، قال ابن إسحاق : فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " لقد احتبست عني يا جبريل ، فقال : " وما نتنزل إلا بأمر ربك " [ مريم : 64 ] الآية . و افتتح السورة بحمده وء ذكر نبوة رسوله عليه الصلاة و السلام ، و فيها ذكر الفتية الذين ذهبوا و هم أصحاب الكهف ، و ذكر الرجل الطواف و هو ذو القرنين ، و قال فيما سألوه عنه من الروح " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " " [ الإسراء : 85 ] الحديث بطوله و أنا اختصرته . قال : و حدثت عن ابن عباس أنه قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة ، قالت أحبار يهود : يا محمد أرأيت قولك " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " [ الإسراء : 85 ] إيانا تريد أم قومك ؟ قال : " كلاً " . قالوا : فإنك تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إنها في علم الله قليل ، و عندكم من ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه " . قال : فأنزل الله عليه فيما سألوه عنه في ذلك " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم " [ لقمان : 27 ] أي : إن التوراة في هذا من علم الله قليل . قال : و أنزل الله فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال و تقطيع الأرض و بعث من مضى من آبائهم من الموتى " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا " [ الرعد : 31 ] أي لا أصنع من ذلك الأمر إلا ما شئت . و أنزل الله عليه فيما سألوه أن يأخذ لنفسه " قالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز " إلى " وكان ربك بصيرا " [ الفرقان : 7 ـ 20 ] . و أنزل الله فيما قال عبد الله بن أبي أمية " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب " إلى قوله " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " [ الإسراء : 90 ـ 93 ] . و أنزل عليه في قولهم إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له : الرحمن : " كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن " [ الرعد : 30 ] . و أنزل عليه فيما قال أبو جهل ، و ما هم به " أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى " [ العلق : 9 ـ 10 ] حتى آخر السورة . و أنزل عليه فيما عرضوا من أموالهم " قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد " [ سبأ : 47 ] . فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بما عرفوا من الحق حال الحسد بينهم و بين اتباعه . فقال قائلهم : لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلكم تغلبون ، أي : اجعلوه لغواً و باطلاً و اتخذوه هزواً لعلكم تغلبونه بذلك فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه غلبكم . فقال أبو جهل يوماً و هو يهزأ برسول الله صلى الله عليه و سلم و ما جاء به من الحق يا معشر قريش يزعم محمد أن جنود الله الذين يعذبونكم في النار و يحبسونكم فيها تسعة عشر ، و أنتم الناس كثرة و عدداً ، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم ؟ فأنزل الله عز و جل في ذلك من قوله " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا " [ المدثر : 31 ] إلى آخر القصة . فلما قال ذلك بعضهم لبعض جعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالقرآن و هو يصلي يتفرقون عنه و يأبون أن يستمعوا له ، فكان الرجل منهم إذا أراد ان يستمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم بعض ما يتلو من القرآن و هو يصلي استرق السمع دونهم فرقاً منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم فلم يستمع ، و إن خفض رسول الله صلى الله عليه و سلم صوته فظن الذي يستمع أنهم لا يسمعون شيئاً من قراءته و سمع هو شيئاً دونهم أصاخ له يستمع منه ، و روي عن داود بن الحصين ، عن عكرمة عن ابن عباس إنما نزلت هذه الآية " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " [ الإسراء : 110 ] في ذلك . قال أبو عمر : و كان المجاهرون بالظلم لرسول الله صلى الله عليه و سلم و لكل من آمن به : من بني هاشم : عمه أبو لهب ، و ابن عمه أبا سفيان بن الحارث . و من بني عبد شمس : عتبة و شيبة ابني ربيعة ، و عقبة بن أبي معيط ، و أبا سفيان بن حرب ، و ابنه حنظلة ، و الحكم بن أبي العاص بن أمية ، و معاوية بن المغيرة بن العاص بن أمية . و من بني عبد الدار : النضر بن الحارث . و من بني أسد بن عبد العزى : الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ، و ابنه زمعه ، و أبا البختري العاص بن هشام . و من بني زهرة : الأسود بن عبد يغوث . و من بني مخزوم : أبا جهل بن هشام ، و أخاه العاص بن هشام ، و عمهما الوليد بن المغيرة ، و ابنه أبا قيس بن الوليد بن المغيرة ، و ابن عمه قيس بن الفاكه بن المغيرة ، و زهير ابن أبي أمية بن المغيرة أخا أم سلمة ، و أخاه عبد الله بن أبي أمية ، و الأسود بن عبد الأسد أخا أبي سلمة ، و صيفي بن السائب . و من بني سهم : العاص بن وائل ، و ابنه عمراً ، و ابن عمه الحارث بن قيس بن عدي ، و نبيهاً و منبهاً ابني الحجاج . و من بني جمح : أمية و أبياً ابني خلف بن وهب بن حذافة بن جمح ، و أنيس بن معير أخا بني محذورة . و الحارث بن الطلاطلة الخزاعي ، و غدي بن الحمراء الثقفي . فهؤلاء كانوا أشد على المؤمنين مثابرة بالأذى ، و معهم سائر قريش ، فمنهم من يعذبون ـ ممن لا منعة له و لا جوار ـ من قومه ، و منهم من يؤذون . و لقي المسلمون من كفار قريش و حلفائهم من الأذى و العذاب و البلاء عظيماً ، و رزقهم الله من الصبر على ذلك عظيماً ، ليدخر لهم ذلك في الآخرة ، و يرفع به درجاتهم في الجنة . و الإسلام في كل ذلك يفشو و يظهر في الرجال و النساء . و أسلم الوليد بن الوليد ابن المغيرة ، و سلمة بن هشام أخو أبو جهل ، و أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، و جماعة أراد الله هداهم . و أسرف بنو جمح على بلال بالأذى و العذاب ، فاشتراه أبو بكر الصديق منهم و اشترى أمة حمامة ، فأعتقهما ، و أعتق عامر بن فهيرة . و روي أن قحافة قال لابنه أبي بكر : يا بني أراك تعتق قوماً ضعفاء فلو أعتقت قوماً جلداء يمنعوك ، فقال : يا أبت إني أريد ما أريد . فقيل : فيه نزلت " وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد " [ الليل : 17 ـ 19 ] إلى آخر السورة . ==== |
و ذكر الزهري أن أبا سفيان بن حرب و أبا جهل بن هشام و الأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يصلي من الليل في بيته ، فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، و كل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فتلاوموا و قال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ، ثم انصرفوا ، حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا مرة ، ثم انصرفوا ، حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود ، فتعاهدوا على ذلك ، ثم تفرقوا ، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم ذهب حتى أتى أبا سفيان في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد . فقال : يا أبا ثعلبة : و الله لقد سمعت أشياء أعرفها و أعرف ما يراد بها ، و سمعت أشياء ما عرفت معناها و لا ما يراد بها . قال الأخنس : و أنا و الذي حلفت به ، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته ، فقال : يا أبا الحكم ! ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ ! قال ماذا سمعت ؟ تنازعنا و نحن و بنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، و حملوا فحملنا ، و أعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاذينا على الركب ، و كنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ! و الله لا نؤمن به أبداً ، و لا نصدقه ، فقام عنه الأخنس و تركه .
و ذكر ابن إسحاق حديث الإراشي و الإراشي هذا اسمه : كهلة الأصغر بن عصام بن كهلة الأكبر بن وهب ، بن ذئبان بن سيلان ، بن مودع بن عبد الله ، و هو الذي ابتاع منه أبو جهل الإبل و مطله بأثمانها ، و دلالة قريش إياه على رسول الله صلى الله عليه و سلم لينصفه من أبي جهل استهزاء ، لما يعلمون من العداوة بينهما . قال : و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جاءه فضرب عليه بابه ، فقال : من هذا ؟ فقال : محمد . فخرج إليه و ما في وجهه من رائحة ، قد انتقع لونه . فقال : " أعط هذا حقه " . قال : نعم لا تبرح حتى أعطيته الذي له ، فدفعه إليه . فذكر له الإراشي ذلك ، فقالوا لأبي جهل : ويلك ! ما رأينا مثل ما صنعت . قال : ويحكم ! و الله ما هو إلا أن ضرب على بابي و سمعت صوته فملئت رعباً ، ثم خرجت إليه و إن فوق رأسه لفحلاً من الإبل ما رأيت مثل هامته . و لا قصرته و لا أنيابه لفحل قط ، و الله لو أبيت لأكلني . و ذكر الواقدي عن يزيد بن رومان ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس في المسجد معه رجال من أصحابه ، أقبل رجل من بني زبيد يقول : يا معشر قريش ! كيف تدخل عليكم المادة أو يجلب إليكم جلب ، أو يحل تاجر بساحتكم ، و أنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم ؟ يقف على الحلق حلقة حلقة حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في أصحابه ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " و من ظلمك ؟ " فذكر أنه قدم بثلاثة أجمال كانت خيرة إبله ، فسامه بها أبو جهل ثلث أثمانها ، ثم لم يسمه بها لأجله سائم . قال : فاكسد علي سلعتي و ظلمني . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " و أين أجمالك ؟ " قال : هي هذه بالحزورة . فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم معه و قام أصحابه ، فنظر إلى الجمال فرأى الجمال فرهاً ، فساوم الزبيدي حتى ألحقه برضاه ، فأخذها رسول الله صلى الله عليه و سلم فباع جملين منها بالثمن ، و أفضل بعيراً باعه و أعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه ، و أبو جهل جالس في ناحية من السوق لا يتكلم ، ثم أقبل إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : " يا عمرو ! إياك أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الأعرابي فترى مني ما تكره " . فجعل يقول : لا أعود يا محمد ، لا أعود يا محمد ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أقبل عليه أمية بن خلف و من حضر من القوم ، فقالوا : ذللت في يدي محمد ، فإما أن تكون تريد أن تتبعه ، و إما رعب دخلك منه ، قال : لا أتبعه أبداً ، إن الذي رأيتم مني ، لما رأيت معه ، لقد رأيت رجالاً عن يمينه و شماله معهم رماح يشرعونها إلي ، لو خالفتهم لكانت إياها ، أي لأتوا علي نفسي . قال أبو عمر : و كان المستهزئون الذي قال الله فيهم : " إنا كفيناك المستهزئين " [ الحجر : 95 ] عمه أبو لهب ، و عقبة بن معيط ، و الحكم بن أبي العاصي ، و الأسود بن المطلب بن أسد بن زمعة ، و الأسود بن عبد يغوث ، و العاص بن وائل ، و الوليد بن المغيرة ، و الحارث بن الغيطلة السهمي . فكان جبريل مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فمر بهما من المستهزئين الوليد بن المغيرة ، و الأسود بن المطلب ، و الأسود بن عبد يغوث ، و الحارث ابن الغيلطة ، و العاص بن وائل واحدا بعد واحد ، فشكاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جبريل ، فقال : كفيتكهم . فهلكوا بضروب من البلاء و العمى قبل الهجرة . و فيما لقي بلال و عمار و المقداد و خباب و سعد بن أبي وقاص و غيرهم ممن لم تكن له منعة من قومه من البلاء و الأذى . ما يطول ذكره . قرأت على أبي النور إسماعيل بن نور بن قمر الهيتي بالصالحية ، أخبركم أبو نصر موسى ابن الشيخ عبد القادر الجيلي قراءة عليه ، أخبرنا أبو القاسم سعيد بن أحمد بن البنا ، أخبرنا أبو نصر الزينبي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن علي بن خلف ، أخبرنا أبو بكر بن أبي داود ، حدثنا أبو موسى عيسى بن حماد زغبة ، عن الليث بن سعد ، عن هشام ، عن أبيه ، أنه قال : مر بورقة بن نوفل على بلال و هو يعذب ، يلصق ظهره برمضاء البطحاء في الحر ، و هو يقول : أحد أحد . فقال : يا بلال صبراً ، يا بلال صبراً ، لم تعذبونه فو الذي نفسي بيده لئن قتلتموه لأتخذنه حناناً . يقول : لأتمسحن به . |
ذكر انشقاق القمر
قال الله تعالى : " اقتربت الساعة وانشق القمر " [ القمر : 1 ] . و روينا من طريق البخاري : " حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن شعبة و سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود ، قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فرقتين ، فرقة فوق الجبل و فرقة دونه . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اشهدوا " . و ذكر القاضي عياض رحمه الله ، قال : و رواه عنه مسروق ، أنه كان بمكة ، و زاد : فقال كفار قريش : سحركم ابن أبي كبشة . فقال رجل منهم : إن محمداً إن كان سحر القمر فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها ، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر هل رأوا هذا ، فسألوا فأخبرهم أنهم رأوا مثل ذلك . و حكى المسرقندي ، عن الضحاك نحوه ، و قال : فقال أبو جهل : هذا سحر فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى تنظروا أرأوا ذلك أم لا ؟ فأخبر أهل الآفاق أنهم رأوه منشقاً . فقالوا يعني الكفار : هذا سحر مستمر . و روينا من طريق الترمذي ، حدثنا عبد بن حميد : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن أنس قال : سأل أهل النبي صلى الله عليه و سلم آية فانشق القمر بمكة مرتين ، فنزلت " اقتربت الساعة وانشق القمر " إلى قوله " سحر مستمر " [ القمر : 1 ـ 2 ] . يقول ذاهب . قال الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سليمان بن كثير ، عن حصين ، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه ، قال : انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه و سلم حتى صار فرقتين على هذا الجبل و على هذا الجبل ، فقالوا : سحرنا محمد . فقال بعضهم : لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم . و روي عن ابن عباس و ابن عمر و حذيفة و علي رضي الله عنهم . |
ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة
و كانت الهجرة إلى أرض الحبشة مرتين ، فكان عدد المهاجرين في المرة الأولى اثني عشر رجلاً و أربع نسوة ، ثم رجعوا عندما بلغهم عن المشركين سجودهم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عند قراءة سورة [ والنجم ] و سيأتي ذكر ذلك ، فلقوا من المشركين أشد مما عهدوا ، فهاجروا ثانية ، و كانوا ثلاثة و ثمانين رجلاً ، إن كان فيهم عمار ، ففيه خلاف بين أهل النقل . و ثماني عشرة امرأة ، إحدى عشرة قرشيات و سبعاً غرباء ، و بعثت قريش في شأنهم إلى النجاشي مرتين ، الأولى عند هجرتهم ، و الثانية عقيب وقعة بدر ، و كان عمرو بن العاص رسولاً في المرتين ، و معه في إحداهما عمارة بن الوليد ، و في الأخرى عبد الله بن أبي ربيعة المخزوميان . و روى عبد الرزاق ، " عن معمر ، عن الزهري ، قال : فلما كثر المسلمون و ظهر الإيمان أقبل كفار قريش على من آمن من قبائلهم يعذبونهم و يؤذونهم ليردوهم عن دينهم . قال : فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لمن آمن به : تفرقوا في الأرض فإن الله تعالى سيجمعكم . قالوا : إلى أين نذهب ؟ قال : إلى ها هنا . و أشار بيده إلى أرض الحبشة ، فهاجر إليها ناس ذوو عدد ، منهم من هاجر بأهله ، و منهم من هاجر بنفسه ، حتى قدموا أرض الحبشة " . فكان أول من خرج عثمان بن عفان ، معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم . و قد قيل إن أول من هاجر إلى أرض الحبشة حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود أخو سهيل بن عمرو . و قيل : هو سليط بن عمرو . و أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة هارباً عن أبيه بدينه ، و معه امرأته سهلة بنت سهيل مسلمة مراغمة لأبيها ، فارة عنه بدينها ، فولدت له بأرض محمد بن أبي حذيفة . و مصعب بن عمير . و عبد الرحمن بن عوف . و أبو سلمة بن عبد الأسد و معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية . و عثمان بن مظعون . و عامر بن ربيعة ، حليف آل الخطاب ، و معه امرأته ليلى أبي خيثمة بن غانم العدوية . و أبو سبرة بن أبي رهم العامري ، و امرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو ، و لم يذكرها ابن إسحاق فهي خامسة لهن . و سهيل بن بيضاء و هو سهيل بن و هب بن ربيعة الفهري . و عبد الله بن مسعود الهذلي . فخرجوا متسللين سراً حتى انتهوا إلى الشعيبة ، منهم الراكب و منهم الماشي ، فوفق الله لهم سفينتين للتجار حملوهم فيهما بنصف دينار ، و كان مخرجهم في رجب من السنة الخامسة من النبوة ، فخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤوا البحر من حيث ركبوا فلم يجدوا أحداً منهم . ثم خرج جعفر بن أبي طالب في المرة الثانية و معه امرأته أسماء بنت عميس فولدت له هناك بنيه : محمداً و عبد الله و عوناً . و عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية ، و معه امرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرث الكناني ، و أخوه خالد بن سعيد و معه امرأته أمينة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة الخزاعية فولدت له هناك ابنه سعيداً و ابنته أم خالد و اسمها أمة . و عبيد الله بن جحش ، و معه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فتنصر هناك ثم توفي على النصرانية ، و تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم أم حبيبة كما سيأتي إن شاء الله تعالى . و أخوه عبد الله بن جحش . و قيس بن عبد الله حليف لبني أمية بن أمية بن عبد شمس ، معه امرأته بركة بنت يسار مولاة أبي سفيان بن حرب . و معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي حليف لبني العاص بن أمية . و عتبة بن غزوان بن جابر المازني حليف بني نوفل . و يزيد ابن زمعة بن الأسود . و عمرو بن أمية بن الحارث بن أسد . و الأسود بن نوفل بن خويلد ابن أسد . و طليب بن عمير بن وهب أبي كبير بن عبد قصي . و سويبط بن سعد بن حرملة ـ و يقال : حريملة ـ بن مالك العبدري . و جهم بن قيس بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار العبدري ، معه امرأته أم حرملة بنت عبد الأسود بن خزيمة من خزاعة و ابناه عمرو بن جهم و خزيمة بن جهم . و أبو الروم بن عمير أخو مصعب بن عمير . و فراس بن النضر بن الحارث بن كلدة . و عامر بن أبي وقاص أخو سعد . و المطلب بن أزهر بن عبد عوف ، معه امرأته رملة بنت أبي عوف بن صبيرة السهمية ، ولدت له هناك عبد الله بن المطلب . و عبد الله بن مسعود الهذلي و هو حليف له فنسب إليه ، و هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة البهراني . و الحارث بن خالد بن صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ، و معه امرأته ريطة بنت الحارث التيمية ، فولدت له هناك : موسى و زينب و عائشة و فاطمة . و عمرو بن عثمان بن عمرو التيمي عم طلحة . و شماس بن عثمان بن الشريد المخزومي ، و اسمه عثمان بن عفان . و هبار بن سفيان بن عبد الأسد بن هلال المخزومي ، و أخوه عبد الله بن سفيان . و هشام بن أبي حذيفة بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم . و عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي . و معتب بن عوف بن عامر الخزاعي ، و بعض الناس يقول : معتب ، حليف بني مخزوم . و السائب ابن عثمان بن مظعون ، و عماه قدامة و عبد الله ابنا مظعون . و حاطب و حطاب ابنا الحارث ابن معمر الجمحي ، و مع حاطب زوجه فاطمة بنت المجلل العامري ، و ولدت له هناك محمداً و الحارث ابني حاطب ، و مع حطاب زوجه فكيهة بنت يسار . و سفيان بن معمر بن حبيب الجمحي ، و معه ابناه جابر و جنادة و أمهما حسنة و أخوهما لأمهما شرحبيل بن حسنة ، و هو شرحبيل بن عبد الله بن المطاع الكندي ، و قيل إنه من بني الغوث بن مر أخي تميم ابن مر . و عثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب بن حذافة بن جمح . و خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي السمي ، و سهم بن عمرو بن هصيص و أخوه عبد الله و قيس ابنا حذافة . و رجل من بني تميم اسمه سعيد بن عمرو ، و كان أخا بشر بن الحارث بن قيس بن عدي لأمه . و هشام بن العاص أخو عمرو و عمير بن رئاب بن حذيفة السهمي . و أبو قيس بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي و إخوته الحارث ومعمر و سعيد و السائب و بشر و أخ لهم من أمهم من تميم يقال له سعيد بن عمرو . و محمئة بن جزء الزبيدي حليف بني سهم . و معمر بن عبد الله بن نضلة ، و يقال ابن عبد الله بن نافع بن نضلة العدوي . و عروة بن عبد العزى بن حرثان العدوي . و عن مصعب الزبيري عروة بن أبي أثاثة بن عبد العزى ، أو عمرو بن أبي أثاثة . و عدي بن نضلة بن عبد العزى العدوي ، و ابنه النعمان . و مالك بن ربيعة بن قيس العامري ، و امرأته عمرة بنت أسعد بن وقدان بن عبد شمس العامرية . و سعد ابن خولة من أهل اليمن حليف لبني عامر بن لؤي . و عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى و عبد الله بن سهيل بن عمرو و عماه سليط و السكران ابنا عمرو العامريون ، و امرأته سودة بنت زمعة . و أبو عبيدة بن الجراح . و عمرو بن أبي سرح بن ربيعة . و عياض بن زهير ابن أبي شداد . و عثمان بن غنم بن زهير بن أبي شداد . و سعد بن عبد قيس بن لقيط ابن عامر الفهريون . و عمار بن ياسر و فيه خلاف بين أهل السير . و قال بعض أهل السير : إن أبا موسى الأشعري كان فيمن هاجر إلى أرض الحبشة و ليس كذلك ، و لكنه خرج في طائفة من قومه من أرضهم باليمن يريد المدينة فركبوا البحر فرمتهم الريح إلى أرض الحبشة ، فأقام هناك حتى قدم مع جعفر بن أبي طالب . فلم نزل هؤلاء بأرض الحبشة أمنوا على دينهم ، و أقاموا بخير دار عند خير جار ، و طلبتهم قريش عنده فكان ذلك سبب إسلامه . قرأت على الإمام الزاهد أبي إسحاق إبراهيم بن علي الحنبلي بالصالحية ، أخبركم أبو الحسن علي بن النفيس بن بورنداز ، أخبرنا أبو القاسم محمود بن عبد الكريم ، أخبرنا أبو بكر ابن ماجة ، أخبرنا أبو جعفر ، عن أبي جعفر أحمد بن محمد بن المرزبان ، عن محمد بن إبراهيم ابن يحيى بن الحكم الحزوري ، عن محمد بن سليمان لوين ، حدثنا حديج بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى النجاشي ثمانين رجلاً ، منهم عبد الله بن مسعود ، و جعفر ، و عبد الله بن عرفطة ، و عثمان بن مظعون رضي الله عنهم ، و بعثت قريش عمرو بن العاص ، و عمارة بن الوليد بهدية ، فقدما على النجاشي ، فدخلا عليه و سجدا له ، و ابتدراه فقعد واحد عن يمينه و الآخر عن شماله ، فقالا : إن نفراً من بني عمنا نزلوا أرضك ، فرغبوا عنا و عن ملتنا ، قال : و أين هم ؟ قالوا : بأرضك ، فأرسل في طلبهم ، فقال جعفر رضي الله عنه : أنا خطيبكم اليوم ، فاتبعوه ، فدخل فسلم ، فقالوا : ما لك لا تسجد للملك ؟ قال : إنا لا نسجد إلا لله عز و جل . قالوا . و لم ذاك ؟ قال : إن الله تعالى أرسل فينا رسولاً و أمرناً أن لا نسجد إلا لله عز و جل ، و أمرنا بالصلاة و الزكاة ، قال عمرو بن العاص : فإنهم يخالفونك في ابن مريم و أمه . قال : فما تقولون في ابن مريم و أمه ؟ قال : نقول كما قال الله عز و جل : روح الله و كلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول التي لم يمسها بشر و لم يفرضها ولد . قال : فرفع النجاشي عوداً من الأرض فقال : يا معشر الحبشة و القسيسين و الرهبان ! ما تزيدون على ما يقولون ، أشهد أنه رسول الله ، و أنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل ، و الله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته فأكون أنا الذي حمل نعليه و أوضئه ، قال : أنزلوا حيث شئتم . و أمر بهدية الآخرين فردت عليهما . قال : و تعجل عبد الله بن مسعود فشهد بدراً . و قال : إنه لما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم موته استغفر له . و لعمارة بن الوليد مع عمرو بن العاص في هذا الوجه خبر مشهور ، ذكره أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني و غيره . و قال عمرو يخاطب عمارة : إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه و لم ينه قلباً غاوياً حيث يمما قضى وطراً منه و غادر سبة إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما لم يذكر ابن إسحاق مع عمرو إلا عبد الله بن أبي ربيعة في رواية زياد . و في رواية ابن بكير لعمارة بن الوليد ذكر . فأقام المهاجرون بأرض الحبشة عند النجاشي في أحسن جوار ، فلما سمعوا بمهاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة رجع منهم ثلاثة و ثلاثون رجلاً و من النساء ثماني نسوة ، فمات منهم رجلان بمكة و حبس بمكة سبعة نفر ، و شهد بدراً منهم أربعة و عشرون رجلاً ، فلما كان شهر ربيع الأول و قيل المحرم سنة سبع من هجرة رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة ، كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى النجاشي كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام ، و بعث به مع عمرو بن أمية الضمري ، فلما قرئ عليه الكتاب أسلم ، و قال : لو قدرت أن آتيه لآتيته ، و كتب إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ففعل ، و أصدق عنه تسعمائة دينار و كان الذي تولى التزويج خالد بن سعيد بن العاص بن أمية ، و كتب إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه و يحملهم ، ففعل ، فجاؤوا حتى قدموا المدينة ، فيجدون رسول الله صلى الله عليه و سلم في خيبر ، فشخصوا إليه فوجدوه قد فتح خيبر فكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين أن يدخلوهم في سهمانهم ففعلوا . و كان سبب رجوع الأولين الاثني عشر رجلاً و من ذكر معهم من النساء فيما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ يوماً على المشركين " والنجم إذا هوى " حتى بلغ " أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى " [ النجم : 1 ـ 20 ] ألقى الشيطان كلمتين على لسانه [ تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترجى ] فتكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم بهما ، ثم مضى فقرأ السورة كلها فسجد ، و سجد القوم جميعاً ، و رفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه ، و كان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود ، و يقال : إن أبا أحيحة سعد بن العاص أخذ تراباً فسجد عليه ، و يقال كلاهما فعل ذلك ، فرضوا بما تكلم به رسول الله صلى الله عليه و سلم و قالوا : قد عرفنا أن الله يحيى و يميت و يخلق و يرزق ، و لكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فأما إذا جعلت لها نصيباً فنحن معك ، فكبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم من قولهم ، حتى جلس في البيت ، فلما أمسى " أتاه جبريل فعرض عليه السورة ، فقال جبريل : ما جئتك بهاتين الكلمتين . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قلت على الله ما لم يقل ، فأوحى الله إليه " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليل " . إلى قوله " ثم لا تجد لك علينا نصيرا " [ الإسراء : 73 ـ 75 ] " قالوا : ففشت تلك السجدة في الناس ، حتى بلغت أرض الحبشة ، فقال القوم عشائرنا أحب إلينا ، فخرجوا راجعين ، حتى إذا كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركباً من كنانة ، فسألوهم عن قريش . فقال الركب : ذكر محمد آلهتهم بخير فتابعه الملأ ، ثم ارتد عنها ، فعاد لشتم آلهتهم ، و عادوا له بالشر ، فتركناهم على ذلك . فائتمر القوم في الرجوع إلى أرض الحبشة ، ثم قالوا : قد بلغنا مكة فندخل فننظر ما فيه قريش ، و يحدث عهداً من أراد بأهله ثم يرجع ، فدخلوا مكة ، و لم يدخل أحد منهم إلا بحوار ، إلا ابن مسعود فإنه مكث يسيراً ، ثم رجع إلى أرض الحبشة . قال الواقدي : و كانوا خرجوا في رجب سنة خمس فأقاموا شعبان و شهر رمضان ، و كانت السجدة في سهر رمضان ، فقدموا في شوال سنة خمس . قال السهيلي : ذكر هذا الخبر يعني خبر هذه السجدة موسى بن عقبة و ابن إسحاق من غير طريق البكائي ، و أهل الأصول يدفعون هذا الحديث بالحجة ، و من صححه قال فيه أقوالاً : منها أن الشيطان قال ذلك و أشاعه ، و الرسول لم ينطق به ، و هذا جيد لولا أن في حديثهم أن جبريل قال لمحمد : ما أتيتك بهذا . و منها أن النبي صلى الله عليه و سلم قالها من قبل نفسه و عنى بها الملائكة أن شفاعتهم لترتجي ، و منها أن النبي صلى الله عليه و سلم قالها حاكياً عن الكفرة ، و أنهم يقولون ذلك ، فقالها متعجباً من كفرهم . قال : و الحديث على ما خيلت غير مقطوع بصحته . قلت : بلغني عن الحافظ عبد العظيم المنذري رحمه الله أنه كان يرد هذا الحديث من جهة الرواية بالكلية ، و كان شيخنا الحافظ عبد المؤمن الدمياطي يخالفه في ذلك . و الذي عندي في هذا الخبر أنه جار مجرى ما يذكر من أخبار هذا الباب من المغازي و السير . و الذي ذهب إليه كثير من أهل العلم الترخص في الرقائق ، و ما لا حكم فيه من أخبار المغازي ، و ما يجري مجرى ذلك ، و أنه يقبل فيها ما لا يقبل في الحلال و الحرام لعدم تعلق الأحكام بها و أما هذا الخبر فينبعي بهذا الاعتبار أن يرد ، لما يتعلق به ، إلا إن يثبت بسند لا مطعن فيه بوجه ، و لا سبيل إلى ذلك ، فيرجع إلى تأويله . |
ذكر إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قرأت على عبد الرحيم بن يوسف المزي ، أخبركم أبو حفص بن طبرزذ ، قال : " أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي ، أخبرنا أبو علي الحسن بن غالب الحربي ، حدثنا أبو عبد الله محمد ابن أحمد المالكي القاضي ، حدثنا الحسين بن إسحاق ، حدثنا أبو علقمة عبد الله بن عيسى الفروي ، حدثنا عبد المالك بن الماجشون ، عن الزنجي بن خالد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب " . و قرأت على أبي الفداء إسماعيل بن عبد الرحمن بن عمرو الفراء بسفح قاسيون ، أخبركم أبو القاسم الحسين بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى التغلبي فأقر به ، قال : أخبرنا الشيخان الشريف أبو طالب علي بن حيدرة بن جعفر الحسيني ، و أبو القاسم الحسين بن الحسن بن محمد بن البن الأسدي ، قالا : أخبرنا أبو القاسم علي بن محمد بن أبي العلاء ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن أبي نصر التميمي ، أخبرنا أبو خيثمة بن سليمان ، حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا سفيان الطائي ، قال : قرأت على إسحاق بن إبراهيم الحنيني ، قال : ذكره أسامة بن زيد ، عن أبيه ، عن جده أسلم ، قال : قال لنا عمر بن الخطاب : أتحبون أن أعلمكم كيف كان بدء إسلامي ؟ قلنا : نعم . قال : كنت من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فبينا أنا في يوم حار شديد الحر بالهاجرة في بعض طرق مكة إذ لقيني رجل من بعض قريش ، فقال لي أين تذهب يا ابن الخطاب ؟ أنت تزعم أنك هكذا ، و قد دخل عليك هذا الأمر في بيتك ! قال : قلت : و ما ذاك ؟ قال : أختك قد صبأت ، قال فرجعت مغضباً ، و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجمع الرجل و الرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوة، فيكونان معه و يصيبان من طعامه ، قال : و قد ضم إلى زوج أختي رجلين ، قال : فجئت حتى قرعت الباب ، فقيل : من هذا ؟ قلت : ابن الخطاب . قال : و كان القوم جلوساً يقرؤون صحيفة معهم ، قال : فلما سمعوا صوتي تبادروا و اختفوا ، و تركوا أو نسوا الصحيفة من أيديهم ، قال : فقامت المرأة ففتحت لي . قال : فقلت لها : يا عدوة نفسها قد بلغني أنك قد صبأت . قال : فأرفع شيئاً من يدي فأضربها به . قال : فسال الدم . قال : فلما رأت المرأة الدم بكت ثم قالت : يا ابن الخطاب ! ما كنت فاعلاً فافعل ، فقد أسلمت . قال : فدخلت و أنا مغضب . قال : فجلست على السرير ، فنظرت ، فإذا بكتاب في ناحية البيت . فقلت : ما هذا الكتاب أعطينه . فقالت : لا أعطيكه ، لست من أهله ، أنت لا تغتسل من الجنابة و لا تطهر ، و هذا لا يمسه إلا المطهرون ، قال : فلم أزل بها حتى أعطتنيه ، فإذا فيه " بسم الله الرحمن الرحيم " قال : فلما مررت بالرحمن الرحيم ذعرت و رميت بالصحيفة من يدي . قال : ثم رجعت إلي نفسي فإذا فيها " سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم " [ الحديد : 1 ] قال : فكلما مررت بالاسم من أسماء الله عز و جل ذعرت ، ثم ترجع إلي نفسي حتى بلغت " آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " حتى بلغ إلى قوله : " إن كنتم مؤمنين " [ الحديد : 7 ـ 8 ] قال : فقلت أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ، فخرج القوم يتباردون بالتكبير استبشاراً بما سمعوا مني ، و حمدوا الله عز و جل ، ثم قالوا : يا ابن الخطاب أبشر ، فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا يوم الاثنين ، فقال : " اللهم أعز الإسلام بأحد الرجلين ، إما بأبي جهل بن هشام ، و إما بعمر بن الخطاب " ، و إنا نرجو أن تكوني دعوة رسول الله صلى الله عليه و سلم لك فأبشر . قال : فلما أن عرفوا مني الصدق ، قلت لهم : أخبروني بمكان رسول الله صلى الله عليه و سلم . قالوا : هو في بيت في أسفل الصفا و صفوه . قال : فخرجت حتى قرعت الباب . قيل : من هذا ؟ قلت : ابن الخطاب . قال : قد عرفوا شدتي على رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يعلموا إسلامي . قال : فما اجترأ أحد منهم أن يفتح الباب . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " افتحوا له فإن يرد الله به خيراً يهده " . قال : ففتحوا لي و أخذ رجلان بعضدي حتى دنوت من النبي صلى الله عليه و سلم . فقال : " أرسلوه " . قال : فأرسلوني ، فجلست بين يديه . قال : " فأخذ بمجمع قميصي فجبذني إليه . ثم قال : أسلم يا ابن الخطاب ، اللهم اهده " . قال : قلت : أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله . فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بطرق مكة . قال : و قد كان الرجل إذا أسلم استخفى ، ثم خرجت فكنت لا أشاء أن أرى رجلاً إذا أسلم ضرب إلا رأيته ، قال : فلما رأيت ذلك قلت لا أحب أن لا يصيبني ما يصيب المسلمين ، قال : فذهبت إلى خالي و كان شريفاً فيهم ، فقرعت الباب عليه . فقال : من هذا ؟ قلت : ابن الخطاب . قال : فخرج إلي فقلت له : أشعرت أني قد صبأت . قال : نعم . فقلت : نعم ! قال : لا تفعل . قال : قلت : بلى قد فعلت . قال : لا تفعل . فأجاف الباب دوني و تركني . قال قلت : ما هذا بشيء ؟ قال : فخرجت حتى جئت رجلاً مع عظماء قريش فقرعت عليه الباب . قال : من هذا ؟ قلت : عمر بن الخطاب . قال فخرج إلي . فقلت له : أشعرت أني قد صبأت . فقال : أو فعلت ؟ قلت : نعم . قال : فلا تفعل . قلت : قد فعلت . قال : لا تفعل . ثم قام فدخل فأجاف الباب دوني . قال : فلما رأيت ذلك انصرفت . فقال لي رجل : تحب أن يعلم إسلامك ؟ قال : قلت : نعم . قال : فإذا جلس الناس في الحجر و اجتمعوا أتيت فلاناً ـ رجلاً لم يكن يكتم السر ـ فاصغ إليه ، فقل له فيما بينك و بينه : إني قد صبأت . فإنه سوف يظهر عليك ذلك و يصيح و يعلنه . قال : فلما اجتمع الناس في الحجر جئت إلى الرجل ، فدنوت منه فأصغيت إليه فيما بيني و بينه ، فقلت : أعلمت أني قد صبأت . قال : فقال : أصبأت ؟ قلت : نعم . قال : فرفع صوته بأعلاه ، فقال : ألا إن ابن الخطاب قد صبأ . قال : فما زال الناس يضربوني و أضربهم . قال : فقال خالي : ما هذا ؟ قال : فقيل : ابن الخطاب . قال : فقام علي في الحجر فأشار بكلمه ، فقال : ألا إني قد أجرت ابن أختي . قال : فانكشف الناس عني . قال : و كنت لا أشاء أن أرى أحد من المسلمين يضرب إلا رأيته ، و أنا لا أضرب . قال : فقلت : ما هذا بشيء حتى يصيبني مثل ما يصيب المسلمين . قال : فأمهلت حتى إذا جلس الناس في الحجر وصلت إلى خالي فقلت : اسمع ؟ قال : قلت : جوارك عليك رد . قال : فقال : لا تفعل يا ابن أختي . قال : قلت : بلى هو ذاك . فقال : ما شئت . قال : فما زلت أضرب و أضرب حتى أعز الله الإسلام . و روينا هذا الخبر من طريق ابن إسحاق ، و فيه قال : و كان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة ، و كانت عند سعيد بن زيد ، كانت قد أسلمت و أسلم زوجها سعيد ، و هم مستخفون بإسلامهم من عمر ، و كان نعيم النحام ـ رجل من قومه ـ قد أسلم ، و فيه : أن عمر خرج متوشحاً سيفه يقصد رسول الله صلى الله عليه و سلم و من معه ، و هم قريب من أربعين بين رجال و نساء ، و أن الذي قال له ما قال نعيم ، و أن خباباً كان في بيت أخته يقرئهم القرآن ، و أن الذي كان في الصحيفة سورة " طه " و أن الذي أذن في دخوله على رسول الله صلى الله عليه و سلم حمزة بن عبد المطلب ، و الرجل الذي صرح بإسلام عمر عندما قاله له جميل بن معمر الجمحي الذي يقال له ذو القلبين ، و فيه نزلت " ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه " [ الأحزاب : 4 ] على أحد الأقوال و فيه يقول الشاعر : و كيف ثوائي بالمدينة بعد ما قضى وطراً منها جميل بن معمر ؟ و رويناه من طريق ابن عائذ ، قال : أخبرني الوليد بن مسلم ، قال : حدثني عمر بن محمد ، قال : حدثني أبي محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر فذكر القصة ، و فيها : فأتيته بصحيفة فيها " طه " فقرأ فيها ما شاء الله . قال عمر : فلما بلغ " فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى " [ طه : 16 ] قال : أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً عبده و رسوله . و فيها : قالوا يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب يستفتح . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ائذنوا له ، فإن يرد الله به خيراً بهذه ، و إلا كفيتكموه بإذن الله " . قال محمد يعني ابن عائذ ـ و هذا وهم ، و إنما الذي قال : فإن يرد الله به خيراً يهده و إلا كفيتكموه : حمزة . و في الخبر عن ابن عائذ ، قال عمر : فحدثني أبي محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر أن أباه زيد بن عبد الله بن عمر حدثه ، عن عبيد الله بن عمر ، قال : فبينا هو خائف على نفسه إذا جاءه العاص بن وائل عليه حلة و قميص مكفف بالحرير ، فقال : ما لك يا ابن الخطاب . قال : زعم قومك أنهم سيقتلونني إذا أسلمت . قال العاص : لا سبيل إليك ، فما عدا أن قالها العاص ، فأمنت عليه ، قال عبد الله بن عمر فخرج عمر و العاص فإذا الوادي قد سال بالناس . فقال لهم : أين تريدون ؟ قالوا : هذا الذي خالف دين قومه . قال : لا سبيل إليه فارجعوا فرجعوا . و ذكر محمد بن عبد الله بن سنجر الحافظ فيما رأيته عنه بإسناده إلى شريح بن عبيد قال : قال عمر بن الخطاب : خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن أسلم ، فوجدته قد سبقني إلى المسجد ، فقمت خلفه ، فاستفتح سورة الحاقة ، فجعلت أتعجب من تأليف القرآن ، فقلت هذا و الله شاعر كما قالت قريش ، فقرأ " إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون " [ الحاقة : 40 ـ 41 ] قال : قلت : كاهن علم ما في نفسي ، فقرأ " ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون " [ الحاقة : 42 ] إلى آخر السورة . قال : فوقع الإسلام في قلبي كل موقع . و قد ذكر غير هذا في خبر إسلام عمر رضي الله عنه أيضاً ، فالله أعلم أي ذلك كان . أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المقدسي ، و أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحراني قراءة عليهما و أنا حاضر في الرابعة . قال الأول : أخبرنا أبو اليمن الكندي قراءة عليه و أنا أسمع ، و قال الثاني : أخبرنا أبو علي بن الخريف قراءة عليه و أنا حاضر أسمع في الخامسة ، قالا : أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري ، أخبرنا أبو الحسين محمد ابن أحمد بن حسنون ، أخبرنا معافى بن إبراهيم بن زكريا بن طرار ، أخبرنا أبو عبد الله يعني البغوي ، حدثنا عبيد الله بن عمر ، حدثنا عبد الله بن خراش ، عن العوام بن حوشب ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : لما أسلم عمر رضي الله عنه نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر رضي الله عنه . رواه ابن ماجه عن إسماعيل بن محمد الطلحي ، عن عبد الله بن خراش . |
ذكر الخبر عن دخول بني هاشم و بني المطلب ابني عبد مناف في الشعب و ما لقوا من سائر قريش في ذلك
قال أبو عمر : أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن سلمة المرادي ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة ، عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود ، و أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا مطرف ابن عبد الرحمن بن قيس ، حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب ، و أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي ، قالا : حدثنا محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب دخل حديث بعضهم في بعض ، قال : ثم إن كفار قريش أجمعوا أمرهم و اتفق رأيهم على قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و قالوا : قد أفسد أبناءنا و نساءنا ، فقالوا لقومه : خذوا منا دية مضاعفة و يقتله رجل من غير قريش ، و تريحوننا و تريحون أنفسكم ، فأبى قومه بنو هاشم من ذلك ، فظاهرهم بنو المطلب بن عبد مناف ، فأجمع المشركون من قريش على منابذتهم و إخراجهم من مكة إلى الشعب ، فلما دخلوا الشعب أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم من كان بمكة من المؤمنين أن يخرجوا إلى أرض الحبشة و كانت متجراً لقريش ، و كان يثنى على النجاشي بأنه لا يظلم عنده أحد ، فانطلق إليها عامة من آمن بالله و رسوله ، و دخل بنو هاشم و بنو المطلب شعبهم ، مؤمنهم و كافرهم ، فالمؤمن ديناً و الكافر حمية ، فلما عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد منعه أجمعوا على أن لا يبايعوهم و لا يدخلوا إليهم شيئاً من الرفق ، و قطعوا عنهم الأسواق ، و لم يتركوا طعاماً و لا إداماً و لا بيعاً إلا بادروا إليه و اشتروه دونهم ، و لا يناكحوهم و لا يقبلوا منهم صلحاً أبداً ، و لا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه و سلم للقتل ، و كتبوا بذلك صحيفة و علقوها في الكعبة ، و تمادوا على العمل بما فيها من ذلك ثلاث سنين ، فاشتد البلاء على بني هاشم في شعبهم و على كل من معهم ، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم قوم من قصي ممن ولدتهم بنو هاشم و من سواهم ، فأجمعوا أمرهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر و البراءة ، و بعث الله على صفيحتهم الأرضة فأكلت و لحست ما في الصحيفة من ميثاق و عهد ، و كان أبو طالب في طول مدتهم في الشعب يأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فيأتي فراشه كل ليلة حتى يراه من أراد به شراً أو غائلة ، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه ، فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها ، فلم يزالوا في الشعب على ذلك إلى تمام ثلاث سنين ، و لم تترك الأرضة في الصحيفة اسماً لله عز و جل إلا لحسته و بقي ما كان فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم ، فأطلع الله رسوله على ذلك فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي طالب ، فقال أبو طالب : لا و الثواقب ما كذبتني ، فانطلق في عصابة من بني عبد المطلب حتى أتوا المسجد و هم خائفون لقريش ، فلما رأتهم قريش في جماعة أنكروا ذلك ، و ظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه و سلم برمته إلى قريش ، فتكلم أبو طالب فقال : قد جرت أمور بيننا و بينكم لم نذكرها لكم ، فائتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم فلعله أن يكون بيننا و بينكم صلح ، و إنما قال ذلك أبو طالب خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها ، فأتوا بصحيفتهم معجبين ، لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يدفع إليهم ، فوضعوها بينهم و قالوا لأبي طالب قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا و على أنفسكم ، فقال أبو طالب : إنما أتيتكم في أمر هو نصف بيننا و بينكم ، إن ابن أخي أخبرني و لم يكذبني ، أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد بعث الله عليها دابة فلم تترك فيها اسماً إلا لحسته ، و تركت فيها غدركم و تظاهرتم علينا بالظلم ، فإن كان الحديث كما يقول فأفيقوا ، فلا و الله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا ، و إن كان الذي يقول باطلاً دفعنا إليكم صاحبنا فقلتم أو استحييتم ، فقالوا : قد رضينا بالذي تقول : ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم قد أخبر بخبرها قبل أن تفتح ، فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب عن النبي صلى الله عليه و سلم قالوا : هذا سحر ابن أخيك . و زادهم ذلك بغياً و عدوانا . و قال ابن هشام : و ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأبي طالب : يا عم إن ربي قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسماً إلا أثبتته ، و نفت منها القطيعة و الظلم و البهتان ، قال : أربك أخبرك بهذا ؟ قال : نعم . قال فو الله ما يدخل عليك أحد . ثم خرج إلى قريش ، فقال : يا معشر قريش ! إن ابن أخي أخبرني . و ساق الخبر بمعنى ما ذكرناه . و قال ابن إسحاق و ابن عقبة و غيرهما : و ندم منهم قوم فقالوا : هذا بغي منا على إخواننا و ظلم لهم ، فكان أول من مشى في نقض الصحيفة هشام بن عمرو بن الحارث العامري و هو كان كاتب الصحيفة ، و أبو البختري العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى و المطعم بن عدي . إلى هنا انتهى خبر ابن لهيعة عن أبي الأسود يتيم عروة ، و موسى ابن عقبة عن ابن شهاب . و ذكر ابن إسحاق فيهم زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي ، و زمعة بن الأسود بن المطلب . و ذكر ابن إسحاق في أول هذا الخبر قال : و قد كان أبو جهل فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام و معه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة ، و هي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشعب ، فتعلق به و قال : أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ؟ قال له أبو البختري : طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن تأتيها بطعامها ، خل سبيل الرجل ، فأبي أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه ، فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه به فشجه و وطئه وطئاً شديداً . و ذكر أبو عبد الله محمد بن سعد : هشام بن عمرو العامري المذكور و قال : كان أوصل قريش لبني هاشم حين حصروا في الشعب ، أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أحمال طعاماً ، فعلمت بذلك قريش ، فمشوا إليه حين أصبح ، فكلموه في ذلك ، فقال : إني غير عائد لشيء خالفكم ، فانصرفوا عنه ، ثم عاد الثانية ، فأدخل عليهم ليلاً حملاً أو حملين ، فغالظته قريش وهمت به ، فقال أبو سفيان بن حرب : دعوه ، رجل وصل أهل رحمه ، أما إني أحلف بالله لو فعلنا مثا ما فعل كان أحسن بنا . و عن ابن سعد : و كان الذي كتب الصحيفة بغيض بن عامر بن هاشم بن عبد مناف ابن عبد الدار بن قصي فشلت يده . و حصروا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من حين نبئ رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و كان خروجهم في السنة العاشرة ، و قيل مكثوا في الشعب سنتين . |
ذكر خبر أهل نجران
قال ابن إسحاق : ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بمكة عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة ، فوجدوه في المسجد ، فجلسوا إليه و كلموه و سألوه ، و رجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ، فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه و سلم عما أرادوا ، دعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الله ، و تلا عليهم القرآن ، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له و آمنوا به و صدقوه ، و عرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره ، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش ، فقالوا لهم : خيبكم الله من ركب ، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل ، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم و صدقتموه بما قال ، ما نعلم ركباً أحمق منكم أو كما قالوا . فقالوا لهم : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه و لكم ما أنتم عليه ، لم نأل من أنفسنا خيراً . و يقال : إن النفر من النصارى من أهل نجران ، و يقال : فبهم نزلت " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به " إلى قوله " لا نبتغي الجاهلين " [ القصص : 52 ـ 55 ] . و قال الزهري ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي و أصحابه . |
ذكر وفاة خديجة وأبي طالب
روينا عن الدولابي ، حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي ، حدثنا زهير بن العلاء ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، قال : توفيت خديجة بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين ، و هي أول من آمن بالنبي صلى الله عليه و سلم . قال : و حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثني يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق قال : ثم إن خديجة بنت خويلد و أبا طالب ماتا في عام واحد ، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه و سلم مصيبتان ، هلاك خديجة و أبي طالب ، و كانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام ، و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يسكن إليها . قال : و قال زياد البكائي عن ابن إسحاق : إن خديجة و أبا طالب هلكا في عام واحد ، و كان هلاكهما بعد عشر سنين مضين من مبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ذلك قبل مهاجره صلى الله عليه و سلم إلى المدينة بثلاث سنين . و ذكر ابن قتيبة أن خديجة توفيت بعد أبي طالب بثلاثة أيام . و ذكر البيهقي نحوه ، و عن الواقدي : توفيت خديجة قبل أبي طالب بخمس و ثلاثين ليلة . و قيل غير ذلك . فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأذى ما لم تكن تطمع فيه من حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً ، فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم بيته و التراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب و هي تبكي ، و رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك ، و يقول بين ذلك : ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب " . قال : و لما اشتكى أبو طالب و بلغ قريشاً ثقله ، قال بعضهم لبعض : إن حمزة و عمر قد أسلما و قد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها ، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه و ليعطه منا ، فإنا و الله ما نأمن أن ببتزونا أمرنا ، فمشوا إلى أبي طالب و كلموه و هم أشراف قومه : عتبة و شيبة ابنا ربيعة ، و أبو جهل بن هشام ، و أمية بن خلف ، و أبو سفيان بن حرب ، في رجال من أشرافهم ، فقالوا : يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت و قد حضرك ما ترى و تخوفنا عليك ، و قد علمت الذي بيننا و بين ابن أخيك ، فادعه و خذ له منا و خذ لنا منه ليكف عنا و نكف عنه ، و ليدعننا و ديننا ، و ندعه و دينه ، فبعث إليه أبو طالب فجاءه ، فقال : يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك و قد اجتمعوا لك ليعطوك و ليأخذوا منك ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعم . كلمة واحدة تعطونيها و تملكون بها العرب ، و تدين لكم بها العجم . فقال أبو جهل : نعم و أبيك ، وعشر كلمات . قال : " تقولون لا إله إلا الله ، و تخلعون ما تعبدون من دونه " . قال : فصفقوا بأيديهم ثم قالوا : يا محمد ، أتريد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً ، إن أمرك لعجب . ثم قال بعضهم لبعض : و الله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون ، فانطلقوا و امضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم و بينه . ثم تفرقوا ، فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه و سلم : و الله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شحطاً . فلما قال طمع رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه ، فجعل يقول له : " أي عم فأنت فقلها ، أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة " . فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال له : يا ابن أخي و الله لولا مخافة السبة عليك و على بني أبيك من بعدي ، و أن تظن قريش أني إنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها لا أقولها إلا لأسرك بها . فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه ، فأصغى إليه بأذنه ، فقال : يا ابن أخي و الله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته بقولها . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لم أسمع " . كذا في رواية ابن إسحاق أنه أسلم عند الموت . و قد روي أن عبد الله بن عبد المطلب و آمنة بنت وهب أبوي النبي صلى الله عليه و سلم أسلما أيضاً و أن الله قد أحياهما له فآمنا به . و روي ذلك أيضاً في حق جده عبد المطلب ، و هي روايات لا معول عليها . و الصحيح من ذلك ما رويناه من طريق مسلم : " حدثني حرملة بن يحيى التجيبي ، أخبرنا عبد الله بن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سعيد ابن المسيب ، عن أبيه ، أنه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجد عنده أبا جهل و عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا عم قا لا إله إلا الله ، كلمة أشهد لك بها عند الله . فقال أبو جهل و عبد الله بن أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرضها عليه ، و يعيدان له تلك المقالة ، حتى قال أبو طالب ـ آخر ما كلمهم ـ هو على ملة عبد المطلب و أبى أن يقول لا إله إلا الله . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أما و الله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك . فأنزل الله عز و جل " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " [ التوبة : 113 ] و أنزل الله في أبي طالب ، فقال لرسول الله صلى الله عليه و سلم " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " [ القصص : 56 ] " . و رواه مسلم من حديث أبي هريرة أيضاً و فيه : لولا أن تعيرني قريش ، يقولون : إنما حمله على ذلك الخرع لأقررت بها عينك . و في الصحيح " من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر عنده عمه أبو طالب ، فقال : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فيجعل في ضحضاح من النار " . " و عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أهون أهل النار في النار عذاباً أبو طالب ، و هو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه " . " أخبرنا عبد الرحيم المزي . بقراءة والدي عليه ، أخبركم أبو علي حنبل بن عبد الله بن الفرج ، أخبرنا أبو القاسم بن الحصين ، أخبرنا أبو علي بن المذهب ، أخبرنا أبو بكر القطيعي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت ناجية بن كعب يحدث عن علي ، أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن أبا طالب مات فقال له النبي صلى الله عليه و سلم اذهب فواره . فقال : إنه مات مشركاً . قال : اذهب فواره . فلما واريته رجعت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال لي : اغتسل " . و أخبرنا أبو الفضل بن الموصلي ، قال : " أخبرنا أبو علي بن سعادة الرصافي ، أخبرنا هبة الله بن محمد الشيباني ، أخبرنا الحسن بن علي التميمي ، أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، أخبرنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن وكيع بن عدس ، عن أبي رزين عمه ، قال : يا رسول الله ! أين أمي ؟ قال : أمك في النار قال : فأين من أهلك ؟ قال : أما ترضى أن تكون أمك مع أمي ؟ ! " . قال عبد الله : قال أبي : الصواب حدس . و ذكر بعض أهل العلم في الجمع بين هذه الروايات ما حصله أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يزل راقياً في المقامات السنية ، صاعداً في الدرجات العلية إلى أن قبض الله روحه الطاهرة إليه و أزلفه بما خصه به لديه من الكرامة حين القدوم عليه ، فمن الجائز أن تكون هذه درجة حصلت له صلى الله عليه و سلم بعد أن لم تكن ، و أن يكون الإحياء و الإيمان متأخراً عن تلك الأحاديث فلا تعارض . و قال السهيلي : شهادة العباس لأبي طالب لو أداها بعدما أسلم كانت مقبولة ، لأن العدل إذا قال سمعت و قال من هو أعدل منه لم أسمع ، أخذ بقول من أثبت السماع ، و لكن العباس شهد بذلك قبل أن يسلم . قلت : قد أسلم العباس بعد ذلك ، و سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن حال أبي طالب فيما أخبرنا عبد الرحيم بن يوسف ، بقراءة أبي عليه ، و قرأت على أبي الهيجاء غازي بن أبي الفضل ، قال : " أخبرنا أبو حفص بن طبرزد ، قال : أخبرنا ابن الحصين ، أخبرنا أبو طالب ابن غيلان ، أخبرنا أبو بكر الشافعي ، حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عبد الملك بن عمير ، قال : سمعت عبد الله بن الحارث بن نوفل ، قال : سمعت العباس يقول : قلت يا رسول الله ، إن أبا طالب كان يحفظك و ينصرك ، فهل نفعه ذلك قال : نعم ، و جدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح " . صحيح الإسناد مشهور ، متفق من حديث العباس في الصحيحين . و لو كانت هذه الشهادة عنده لأداها بعد إسلامه ، و علم حال أبي طالب و لم يسأل ، و المعتبر حالة الأداء دون التحمل . و فيما ذكره السهيلي ، أن الحارث بن عبد العزى أبا رسول الله صلى الله عليه و سلم من الرضاعة قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة ، فأسلم و حسن إسلامه ، في خبر ذكره من طريق يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، عن أبيه ، عن رجال من بني سعد بن بكر . |
ذكر خروج النبي صلى الله عليه و سلم إلى الطائف
و ذلك في ليال بقين من شوال سنة عشر من النبوة ، قال ابن إسحاق : " و لما هلك أبو طالب و نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه و سلم ما لم تكن تنال منه في حياته ، خرج إلى الطائف و حده ـ و قال ابن سعد : و معه زيد بن حارثه ـ يلتمس النصرة من ثقيف و المنعة بهم من قومه ، و رجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله ، فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف ، و هم يومئذ سادة ثقيف و أشرافهم ، و هم إخوة ثلاثة : عبد ياليل ، و مسعود ، و حبيب ، بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف ، و عند أحدهم من قريش من بني جمح ، فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و كلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، و القيام معه على من خالفه من قومه . فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك . و قال الآخر : أما وجد الله أحداً يرسله غيرك . و قال الثالث : و الله لا أكلمك أبداً ، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام ، و لئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك . فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم من عندهم و قد يئس من خير ثقيف ، و قد قال لهم ـ فيما ذكر لي ـ إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي ، و كره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبلغ قومه عنه . فيذئرهم ذلك عليه ، فلم يفعلوا و أغروا به سفهاءهم و عبيدهم يسبونه و يصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس . قال موسى بن عقبة : قعدوا له صفين على طريقه ، فلما مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بين صفيهم جعل لا يرفع رجليه و لا يضعها إلا رضخوهما بالحجارة ، حتى أدموا رجليه . زاد سليمان التيمي : أنه صلى الله عليه و سلم كان إذا أذلقته الحجارة قعد إلى الأرض ، فيأخذون بعضديه فيقيمونه ، فإذا مشى رجموه و هم يضحكون . و قال ابن سعد : و زيد بن حارثة يقيه بنفسه ، حتى لقد شج في رأسه شجاجاً . قال ابن عقبة : فخلص منهم ، و رجلاه تسيلان دماً ، فعمد إلى حائط من حوائطهم فاستظل في ظل حبلة منه و هو مكروب موجع ، و إذا في الحائط عتبة و شيبة ابنا ربيعة ، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عدواتهما لله و رسوله . قال : فلما رآه ابنا ربيعة و ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له عداس ، فقالا له : خذ قطفاً من هذا العنب ، فضعه في هذا الطبق ، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه ، ففعل عداس ، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ثم قال له : كل ، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه يده قال : بسم الله ، ثم أكل ، فنظر عداس في وجهه ، ثم قال : و الله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد . فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : و من أي البلاد أنت يا عداس ؟ و ما دينك ؟ قال : نصراني و أنا من أهل نينوى . فقال له : كل ، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم في يده قال : بسم الله ، ثم أكل ، فنظر عداس في وجهه ، ثم قال : و الله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد . فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : و من أي البلاد أنت يا عداس ؟ و ما دينك ؟ قال : نصراني و أنا من أهل نينوى . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أهل قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ قال له عداس : و ما يدريك لقد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبي . قالا : ويحك يا عداس ، لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه " . و روينا في الصحيح ، " من حديث عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت للنبي صلى الله عليه و سلم : هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟ فقال : لقد لقيت من قومك ، و كان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت على وجهي و أنا مهموم ، فلم أستفق إلا و أنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فإذا فيها جبريل ، فناداني ، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك و ما ردوا عليك ، و قد بعث إليك ملك الجبال ، لتأمره بما شئت فيهم . فناداني ملك الجبال ، فسلم علي فقال : يا محمد ، ذلك لك فما شئت ؟ و إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً " . و ذكر ابن هشام : " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما انصرف عن أهل الطائف و لم يجيبوه لما دعاهم إليه من تصديقه و نصرته ، صار إلى حراء ، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق لجيره ، فقال : أنا حليف ، و الحليف لا يجير . فبعث إلى سهيل بن عمرو ، فقال : إن بني عامر لا تجير على بني كعب . فبعث إلى المطعم بن عدي فأجابه إلى ذلك ، ثم تسلح المطعم و أهل بيته ، و خرجوا حتى أتوا المسجد ، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ادخل ، فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فطاف بالبيت و صلى عنده ، ثم انصرف إلى منزله . و لأجل هذه السابقة التي سلفت للمطعم بن عدي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في أسارى بدر : لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له " . |
ذكر إسلام الجن
و في انصراف رسول الله صلى الله عليه و سلم من الطائف راجعاً إلى مكة حين يئس من خير ثقيف مر به النفر من الجن و هو بنخلة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى . و هم فيما ذكر ابن إسحاق سبعة من جن نصيبين ، و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قام من جوف الليل و هو يصلي . و الخبر بذلك ثابت "من طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : قرأت على أبي عبد الله بن أبي الفتح الصوري بمرج دمشق ، أخبركم أبو القاسم بن الحرستاني سماعاً عليه ؟ فأقر به . أخبرنا أبو محمد طاهر بن سهل ، أخبرنا أبو الحسين بن مكي ، أخبرنا القاضي أبو الحسن الحلبي ، قال : حدثني إسحاق بن محمد بن يزيد ، قال : حدثنا أبو داود ـ يعني سليمان بن سيف ـ حدثنا أيوب بن خالد ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني إبراهيم ابن طريف ، حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري ، حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : حدثني عبد الله بن مسعود ، قال : كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم ليلة صرف الله النفر من الجن . . . " الحديث . و روينا من حديث أبي المعلى ، " عن عبد الله بن مسعود ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة فخط لي خطاً ، و قال : لا تحدثن شيئاً حتى آتيك . ثم قال : لا يروعنك أو لا يهولنك شيء تراه . ثم جلس ، فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط . قال : و كانوا كما قال الله : " كادوا يكونون عليه لبدا " [ الجن : 19 ] فأردت أن أقوم فأذب عنه ، بالغاً ما بلغت ، ثم ذكرت عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فمكثت ، ثم إنهم تفرقوا عنه ، فسمعتهم يقولون : يا رسول الله ، إن شقتنا بعيدة و نحن منطلقون ، فزودنا . . الحديث . و فيه : فلما و لوا قلت : من هؤلاء ؟ قال هؤلاء جن نصيبين " . " و روينا من حديث أبي عبد الله ، و فيه قال : ثم شبك أصابعه في أصابعي و قال : إني و عدت أن تؤمن بي الجن و الإنس ، فأما الإنس فقد آمنت بي و أما الجن فقد رأيت " . و روى أبو عمر " من طريق أبي داود ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال : لما كانت ليلة الجن أتت النبي صلى الله عليه و سلم سمرة فآذنته بهم ، فخرج إليهم " . قال أبو داود حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا سفيان عن مسعر ، عن عمرو بن مرة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، أن مسروقاً قال له : أبوك أخبرنا أن شجرة أنذرت النبي صلى الله عليه و سلم بالجن . و روينا حديث أبي فزارة ، "عن أبي زيد عمرو بن مولى بن حريث ، حدثنا عبد الله بن مسعود ، قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال : إني قد أمرت أن أقرأ على إخوانكم من الجن ، فليقم معي رجل منكم ، و لا يقم رجل في قلبه مثقال حبة خردل من كبر ، فقمت معه ، و أخذت إداوة فيها نبيذ ، فانطلقت معه فلما برز خط لي خطاً و قال لي : لا تخرج منه فإنك إن خرجت لم ترني و لم أراك إلى يوم القيامة . قال : ثم انطلق فتوارى عني حتى لم أره ، فلما سطع الفجر أقبل ، فقال لي : أراك قائماً . فقلت ما قعدت . فقال : ما عليك لو فعلت . قلت : خشيت أن أخرج منه . فقال : أما إنك لو خرجت منه لم ترني و لم أراك إلى يوم القيامة . هل معك وضوء ؟ قلت : لا ، فقال : ما هذه الإداوة ؟ قلت : فيها نبيذ . قال : تمرة طيبة و ماء طهور . فتوضأ و أقام الصلاة ، فلما قضى الصلاة قام إليه رجلان من الجن فسألاه المتاع . فقال : ألم آمر لكما و لقومكما بما يصلحكما ؟ قالا : بلى ، و لكن أحببنا أن يشهد بعضنا معك الصلاة . فقال : ممن أنتما ؟ قالا : من أهل نصيبين . فقال : أفلح هذان و أفلح قومهما ، و أمر لهما بالروث و العظم طعاماً ولحماً ، و نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن يستنجي بعظم أو روثة " . رويناه من حديث قيس بن الربيع و هذا لفظه . و من حديث الثوري و إسرائيل و شريك و الجراح بن مليح و أبي عميس كلهم عن أبي فزارة . و غير طريق أبي فزارة عن أبي زيد لهذا الحديث أقوى منها ، للجهالة الواقعة في أبي زيد ، ولكن أصل الحديث مشهور عن ابن مسعود من طرق حسان متظافرة يشهد بعضها لبعض ويشد بعضها بعضاً ، و لم تتفرد طريق أبي زيد إلا بما فيها من التوضؤ بنبيذ التمر ، وليس ذلك مقصودنا الآن . و يكفي من أمر الجن مافي سورة الرحمن ، و سورة قل أوحي إلي ، و سورة الأحقاف " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " [ الأحقاف : 29 ] الآيات . و ذكر ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يشعر بالجن و هم يستمعون له يقرأ حتى نزلت عليه " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " الآية . و روينا عن ابن هشام قال : حدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسي ، و غيره من مشائخ بكر بن وائل من أهل العلم ، أن أعشى بني قيس بن ثعلبة ، خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد الإسلام فقال يمدح رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألم تغتمض عيناك ليلة أرمداو بت كما بات السليم مسهداً ألا أيهذا السائلي أين يممت فإن لها في أهل يثرب موعدا و آوليت لا آوي لها من كلالة و لا من حفا حتى تلاقي محمدا متى ما تناخى عند باب ابن هاشم تراحي و تلقي من فواضله ندى نبياً يرى ما لا ترون و ذكرهأغار لعمري في البلاد و أنجدا له صدقات ما تغب و نائل و ليس عطاء اليوم مانعه غدا أجدك لم تسمع وصاة محمدنبي الإله حين أوصى و أشهدا إذا أنت لم ترحل بزاد من التقىو لاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا فلما كان بمكة أو قريباً منها اعترضه بعض المشركين من قريش ، فسأله عن أمره ، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم ليسلم ، فقال له : يا أبا صبير ! فإنه يحرم الزنا . فقال الأعشى : و الله إن ذلك لأمر مالي فيه من أرب . فقال : يا أبا بصير ، فإنه يحرم الخمر . قال الأعشى : أما هذه فو الله إن في النفس منها لعلالات ، و لكني منصرف أرتوي منها عامي هذا ، ثم آتيه فأسلم . فانصرف فمات في عامه ذلك ، و لم يعد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم . قوله : [ لا آوي لها من كلالة ] أي لا أرق . و في هذه الأبيات عن غير ابن هشام بعد قوله أغار لعمري في البلاد و أنجدا : به أنقذا الله الأنام من العمى و ما كان فيهم من يريع إلى هدى و قوله : فلما كان بمكة و هم ظاهر ، لأن تحريم الخمر إنما كان بعد أحد ، و في الأبيات : [ فإن لها في أهل يثرب موعداً ] ، و هو أيضا مما يبين ذلك ، و الله أعلم . |
خبر الطفيل بن عمرو الدوسي
روينا عن محمد بن سعد ، " أخبرنا محمد بن عمر ، حدثني عبد الله بن جعفر ، عن عبد الواحد بن أبي عوف الدوسي ، و كان له حلف في قريش ، قال : كان الطفيل شريفاً شاعراً نبيلاً كثير الضيافة ، فقدم مكة و رسول الله صلى الله عليه و سلم بها ، فمشى إليه رجال من قريش ، فقالوا : يا طفيل ، إنك قدمت بلادنا ، و هذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا ، و فرق جماعتنا ، و شتت أمرنا ، و إنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل و أبيه و بين الرجل و أخيه . قال : فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ، و لا أكلمه ، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله ، فمكثت حتى انصرف إلى بيته ، فقلت : يا محمد ! إن قومك قالوا لي كذا و كذا حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك . فاعرض علي أمرك . فعرض عليه الإسلام و تلا عليه القرآن ، فقال : لا و الله ما سمعت قولاً قط أحسن من هذا ، و لا أمراً أعدل منه ، فأسلمت . فقلت : يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي ، و أنا راجع إليهم فداعبهم إلى الإسلام ، فادع الله أن يكون لي عوناً عليهم . قال: اللهم اجعل له آية . فخرجت حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح ، فقلت اللهم في غير وجهي ، فإني أخشى أن يظنوا أنها مثلة ، فتحول في رأسي سوطي ، فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور كالقنديل المعلق . قال : فأتاني أبي ، فقلت له . قال : ديني دينك فأسلم . ثم ائتني صاحبتي ، فذكر مثل ذلك ، فأسلمت ، ثم دعوت دوساً إلى الإسلام فأبطؤوا علي ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة ، فقلت يا رسول الله ! قد غلبتني دوس ، فادع الله عليهم . فقال : اللهم اهد دوساً ، فخرجت إليهم ، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم بمن أسلم من قومي و هو بخيبر بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس ، فأسهم لنا مع المسلمين ، و قلنا : يا رسول الله ! اجعلنا ميمنتك ، و اجعل شعارنا [ مبرور ] . ففعل ، ثم قلت بعد فتح مكة يا رسول الله ! ابعثني إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه ، فبعثه . و جعل الطفيل يقول : يا ذا الكفين لست من عبادكا ميلادنا أكبر من ميلادكا إن حشت النار في فؤادكا قال : فلما أحرقته أسلموا جميعاً ، ثم قتل الطفيل باليمامة شهيداً " . و الخبر عند ابن سعد طويل و أنا اختصرته . |
ذكر الحديث عن مسرى رسول الله صلى الله عليه و سلم و معراجه و فرض الصلاة
قرأت على أبي عبد الله بن أبي الفتح الصوري ، أخبركم الشيخان أبو مسلم المؤيد ابن عبد الرحيم بن أحمد بن محمد بن الإخوة ، و أم حبيبة عائشة بنت معمر بن الفاخر القرشية إجازة ، قالا : " أخبرنا أبو الفرج سعيد بن الرجاء الصيرفي قراءة عليه و نحن نسمع بأصبهان ، أخبرنا أبو نصر إبراهيم بن محمد بن علي الأصبهاني الكسائي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المقرئ ، أخبرنا أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن علي الوساوسي ، حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني ، عن أبي صالح مولى أم هانئ ، عن أم هانىء ، قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم بغلس و أنا على فراشي ، فقال : أشعرت أني نمت الليلة في السمجد الحرام ، فأتاني جبريل عليه السلام فذهب بي إلى باب المسجد ، فإذا دابة أبيض فوق الحمار و دون البغل ، مضطرب الأذنين ، فركبته ، فكان يضع حافره مد بصره ، إذا أخذ في هبوط طالت يداه و قصرت رجلاه ، و إذا أخذ في صعود طالت رجلاه و قصرت يداه ، و جبريل عليه السلام لا يفوتني ، حتى إذا انتهينا إلى بيت المقدس ، فأوثقته بالحلقة التي كانت الأنبياء توثق بها ، فنشر لي رهط من الأنبياء ، فيهم إبراهيم و موسى و عيسى عليهم السلام ، فصليت بهم و كلمتهم ، و أتيت بإناءين أحمر و أبيض ، فشربت الأبيض ، فقال لي جبريل عليه السلام : شربت اللبن و تركن الخمر ، لو شربت الخمر لارتدت أمتك . ثم ركبته فأتيت المسجد الحرام فصليت به الغداة . فتعلقت بردائه و قلت أنشدك الله ابن عم إن تحدث بهذا قريشاً ، فيكذبك من صدقك . فضرب بيده على ردائه فانتزعه من يدي ، فارتفع عن بطنه فنظرت إلى عكنه فوق ردائه ، و كأنه طي القراطيس و إذا نور ساطع عند فؤاده كاد يخطف بصري ، فخررت ساجدت ، فلما رفعت رأسي إذا هو قد خرج ، فقلت لجاريتي نبعة ، ويحك ! اتبعيه فانظري ماذا يقول ؟ و ماذا يقال له ؟ فلما رجعت نبعة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم انتهى إلى نفر من قريش في الحطيم ، فيهم المطعم بن عدي بن نوفل ، و عمرو بن هشام ، و الوليد بن المغيرة . فقال : إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد ، و صليت به الغداة ، و أتيت فيما بين ذلك بيت المقدس ، فنشر لي رهط من الأنبياء ، منهم إبراهيم و موسى و عيسى عليهم السلام ، فصليت بهم و كلمتهم . فقال عمرو بن هشام كالمستهمزئ ، صفهم لي . فقال : أما عيسى ففوق الربعة و دون الطويل ، عريض الصدر ، ظاهر الدم ، جعد الشعر ، يعلوه صهبة كأنه عروة بن مسعود الثقفي ، و أما موسى عليه السلام فضخم آدم ، طويل كأنه من رجال شنوءة ، كثير الشعر ، غائر العينين ، متراكب الأسنان ، مقلص الشفتين ، خارج اللثة ، عابس ، و أما إبراهيم عليه السلام فو الله إنه لأشبه الناس بي خلقاً و خلقاً ، فضجوا و أعظموا ذلك ، فقال المطعم بن عدي بن نوفل : كل لأمرك قبل اليوم كان أمماً ، غير قولك اليوم ، أشهد أنك كاذب ، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعداً شهراً و منحدراً شهراً ، تزعم أنك أتيته في ليلة ، و اللات و العزى لا أصدقك ، و ما كان هذا الذي تقول قط . و كان للمطعم بن عدي حوض على زمزم ، أعطاه إياه عبد المطلب فهدمه ، فأقسم باللات و العزى لا يسقي منه قطرة أبداً ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا مطعم ، بئس ما قلت لابن أخيك ، جبهته و كذبته ، أنا أشهد أنه صادق فقال : يا محمد ، صف لنا بيت المقدس . قال : دخلته ليلا و خرجت منه ليلا ، فأتاه جبريل عليه السلام فصوره في جناحه ، فجعل يقول باب منه كذا في موضع كذا ، و باب منه كذا في موضع كذا ، و أبو بكر رضي الله عنه يقول : صدقت صدقت . قالت نبعة فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يومئذ : يا أبا بكر إن الله عز و جل قد سماك الصديق ، قالوا : يا مطعم دعنا نسأله عما هو أغنى لنا من بيت المقدس ، يا محمد أخبرنا عن عيرنا . فقال : أتيت على عير بني فلان بالروحاء قد أضلوا ناقة لهم ، و انطلقوا في طلبها ، فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد ، و إذا قدح ماء فشربت منه ، فسلوهم عن ذلك . فقالوا : هذه و اللات و العزى آية ، ثم انتهيت إلى عير بني فلان مني الإبل ، و برك منها جمل أحمر عليه جوالق ، مخطط ببياض ، و لا أدري أكسر البعير أم لا ؟ فاسألوهم عن ذلك . فقالوا : هذه و الآلهة آية . ثم انتهيت إلى عير بني فلان بالأبواء ، يقدمها جمل أوراق ، ها هي تطلع عليكم من الثنية . فقال الوليد بن المغيرة : ساحر . فانطلقوا فنظروا فوجدوا كما قال ، فرموه بالسحر . و قالوا : صدق الوليد بن المغيرة فيما قال ، و أنزل الله تبارك و تعالى " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن " . قلت يا أم هانئ ما الشجرة الملعونةفي القرآن ؟ قالت : الذين خوفوا فلم يزدهم التخويف إلا طغياناً كبيراً ". و روينا من طريق البخاري ، " حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، قال سمعت جابر بن عبد الله ، أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : لما كذبتني قريش قمت في الحجر ، فجلى الله لي بيت المقدس فطففت أخبرهم عن آياته و أنا أنظر إليه " . و قرأت على أبي حفص عمر بن عبد المنعم بن القواس بعربيل بغوطة دمشق ، أخبركم أبو القاسم بن الحرستاني في الرابعة ، فأقر به . قال " أخبرنا جمال الإسلام أبو الحسن علي ابن المسلم السلمي ، قال أخبرنا أبو نصر الحسين بن محمد بن أحمد بن طلاب الخطيب سماعاً ، أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن جميع ، حدثنا محمد بن صالح بن زكريا ابن يحيى بن داود بن زكريا العثماني ، حدثنا أحمد بن العلاء ، حدثنا زيد بن أسامة ، عن سفيان ، عن مسعر ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه و سلم : أتي بدابة فوق الحمار و دون البغل ، خطوه مد البصر ، فلما دنا منه اشمأز ، فقال جبريل : اسكن ، فما ركبك أحد أكرم على الله من محمد " . " و عن عائشة و أم سلمة و أم هانئ و ابن عمرو و ابن عباس رضي الله عنهم ، قالوا : أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة من شعب أبي طالب إلى بيت المقدس . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حملت على دابة بيضاء بين الحمار و بين البغل ، في فخذيها جنحان تحفز بهما رجليها ، فلما دنوت لأركبها شمست ، فوضعت جبريل يده على معرفتها ، ثم قال : ألا تستحيين يا براق مما تصنعين ؟ و الله ما ركب عليك أحد قبل محمد أكرم على الله منه . فاستحييت حتى أرفضت عرقاً ، ثم قرت حتى ركبتها . . " الحديث . و في رواية يونس بن بكير : " عن ابن إسحاق في هذا الخبر أنه عليه السلام وعد قريشاً بقدوم العير الذين أرشدهم إلى البعير ، و شرب إناءهم ، أن يقدموا يوم الأربعاء ، فلما كان ذلك اليوم لم يقدموا حتى كربت الشمس أن تغرب ، فدعا الله فحبس الشمس حتى قدموا كما وصف . قال : و لم تحبس الشمس إلا له ذلك اليوم و ليوشع بن نون " . |
حديث المعراج
روينا من طريق مسلم ، " حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أتيت بالبراق و هو دابة أبيض طويل فوق الحمار و دون البغل علي بن أبي طالب يضع حافره عند منتهى طرفه ، قال : فركبته حتى أتيت بيت المقدس . قال : فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء . قال : ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر و إناء لبن ، فاخترت اللبن . فقال جبريل صلى الله عليه و سلم : اخترت الفطرة ، ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل عليه السلام ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . قيل : و من معك ؟ قال محمد صلى الله عليه و سلم . قيل : و قد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي و دعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . قيل : و من و معك ؟ قال : محمد . قيل : و قد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . قال : ففتح لنا ، فإذا أنا بابني الخالة عيسى بن مريم و يحيى بن زكريا صلوات الله عليهما ، فرحبا بي و دعوا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . قيل : و من معك ؟ قال : محمد . قيل : و قد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه و سلم ، و إذا هو قد أعطي شطر الحسن . قال : فرحب بي و دعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة ، فاستفتح جبريل . قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قال : و من معك ؟ قال : محمد . قال : و قد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بإدريس ، فرحب بي و دعا لي بخير . قال الله عز و جل : " ورفعناه مكانا عليا " [ مريم : 57 ] ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة ، فاستفتح جبريل . قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : و من معك ؟ قال : محمد . قيل : و قد بعث إليه . قال : قد بعث إليه . ففتح لنا فإذا أنا بهارون صلى الله عليه و سلم ، فرحب بي و دعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السادسة ، فاستفتح جبريل . قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : و من معك ؟ قال : محمد . قيل : و قد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بموسى صلى الله عليه و سلم فرحب بي و دعا لي بخير . ثم عرج بنا إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل . فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : و من معك ؟ قال : محمد . قيل : و قد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه و سلم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور ، و إذا هو يدخله كل يوم سبعين ألف ملك لا يعودون إليه ، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى ، فإذا ورقها كآذان الفيلة و إذا ثمرها كالقلال . قال : فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، فأوحى الله إلي ما أوحى ، ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم و ليلة ، ، فنزلت إلى موسى ، فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت : خمسين صلاة . قال : ارجع إلى ربك فسله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني قد بلوت بني إسرائيل و خبرتهم . قال : فرجعت إلى ربي ، فقلت : يا رب ، خفف عن أمتي . فحط عني خمساً ، فرجعت إلى موسى . فقلت : حط عني خمساً . قال : إن أمتك لا يطيقون ذلك ، فارجع إلى ربك فسله التخفيف . قال : فلم أزل أرجع بين ربي تبارك و تعالى و بين موسى حتى قال : يا محمد ، إنهن خمس صلوات في كل يوم و ليلة ، بكل صلاة عشر ، فذلك خمسون صلاة . و من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً . و من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه شيئاً ، فإن عملها كتبت السيئة واحدة . قال : فنزلت حتى انتهيت إلى موسى ، فأخبرته . فقال : ارجع إلى ربك فسله التخفيف . فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه " . قال الشيخ : أبو أحمد ، حدثنا أبو العباس الماسرجسي حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا حماد بن سلمة بهذا الحديث . و قد روينا " من طريق ابن شهاب عن أنس بن مالك قال : كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فرج سقف بيتي و أنا بمكة ، فنزل جبريل عليه السلام ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة و إيمانا فأفرغها في صدري ، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء .. " الحديث . قال ابن شهاب : " و أخبرني ابن حزم أن ابن عباس و أبا حبة الأنصاري يقولان : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام و فيه : ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، و إذا ترابها المسك " . و في حديث مالك بن صعصعة : " فلما جاوزته ـ يعني موسى ـ بكى ، فنودي ما يبكيك ؟ قال ، رب هذا غلام بعثته بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي . و فيه : ثم رفع لي البيت المعمور . فقلت : يا جبريل ! ما هذا ؟ قال هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم " . و في حديث أبي هريرة : " و قد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فحانت الصلاة فأممتهم ، فقال قائل : يا محمد : هذا مالك خازن النار فسلم عليه ، فالتفت ، فبدأني بالسلام " . و كلها في الصحيح ، و حديث ثابت عن أنس أحسنها مساقاً . و روينا من طريق الترمذي ، " حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا أبو تميلة ، عن الزبير بن جنادة ، عن ابن بريدة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما انتهينا إلى بيت المقدس ، قال جبريل بأصبعه فخرق بها الحجر و شد به البراق " . و ذكر ابن إسحاق " في حديث أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه و سلم رؤيته آدم في سماء الدنيا تعرض عليه أرواح بنيه فيسر بمؤمنيها ، و يعبس بوجهه عند رؤية كافريها ، ثم قال : رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل ، في أيديهم قطع من نار كالأفهار ، يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم . قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلماً . قال : ثم رأيت رجالاً لهم بطون لم أر مثلها قط ، بسبيل آل فرعون ، يمرون عليهم كالإبل المهيومة ، حين يعرضون على النار يطؤونهم ، لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك . قال : قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا . قال : ثم رأيت رجالاً بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن يأكلون من الغث المنتن ، و يتركون السمين الطيب . قال : قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله له من النساء و يذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن . قال : ثم رأيت نساء معلقات بثديهن . فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال ما ليس من أولادهم " . و قد اختلف العلماء في المعارج و الإسراء هل كانا في ليلة واحدة أو لا ؟ و أيهما كان قبل الآخر ؟ و هل كان ذلك كله في اليقظة أو في المنام . أو بعضه في اليقظة و بعضه في المنام ؟ و هل كان المعراج مرة أو مرات ؟ و اختلفوا في تاريخ ذلك . و الذي روينا عن ابن سعد في المعراج ، " عن محمد بن عمر ، عن أبي بكر بن عبد الله ابن أبي سبرة و غيره من رجاله ، قالوا : كان عليه الصلاة و السلام يسأل ربه أن يريه الجنة و النار ، فلما كانت ليلة السبت لسبع عشرة خلت من شهر رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً ، و رسول الله صلى الله عليه و سلم نائم في بيته ظهراً ، أتاه جبريل و ميكائيل ، فقالا : انطلق إلى ما سألت الله . فانطلقا به إلى ما بين المقام و زمزم ، فأتي بالمعراج فإذا هو أحسن شيء منظراً ، فعرجا به إلى السموات سماء سماء .. " الحديث . و ذكر السهيلي رحمه الله خلاف السلف في الإسراء : هل كان يقظة أو مناماً ؟ و حكى القولين و ما يحتج به لكل قول منهما ، ثم قال : و ذهبت طائفة ثالثة منهم شيخنا أبو بكر ابن العربي إلى تصديق المقالتين و تصحيح المذهبين ، و أن الإسراء كان مرتين إحداهما في نومه توطئة له و تيسيراً عليه ، كما كان بدء نبوته الرؤيا الصالحة ليسهل عليه أمر النبوة فإنه عظيم تضعف عنه القوى البشرية ، و كذلك الإسراء سهله عليه الرؤيا ، لأن هوله عظيم فجاء في اليقظة على توطئة و تقدمة رفقاً من الله بعبده و تسهيلاً عليه . و رجح هذا القول أيضاً للجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك ، فإن في ألفاظها اختلافاً ، و تعدد الواقعة أقرب لوقوع جميعها . و حكى قولاً رابعاً ، قال : كان الإسراء بجسده إلى بيت المقدس في اليقظة ثم أسري بروحه عليه السلام إلى فوق سبع سماوات ، و لذلك شنع الكفار قوله : أتيت بيت المقدس في ليلتي هذه . و لم يشنعوا قوله فيما سوى ذلك . ====== |
قال : و قد تكلم العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه و سلم لربه ليلة الإسراء ، فروي عن مسروق عن عائشة أنها أنكرت أن يكون رآه ، قالت : و من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله ، و احتجت بقوله سبحانه و تعالى : " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " [ الأنعام : 103 ] .
و روينا من طريق الترمذي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن مجالد ، عن الشعبي ، قال : لقي ابن عباس كعباً بعرفة ، فسأله عن شيء ، فكبر حتى جاوبته الجبال .فقال ابن عباس : إنا بنو هاشم نقول إن محمداً رأى ربه . فقال كعب : إن الله قسم رؤيته و كلامه بين محمد و موسى ، فكلم موسى مرتين و رآه محمد مرتين . و روينا من طريق مسلم " عن أبي ذر ، قلت : يا رسول الله ، هل رأيت ربك ؟ قال : رأيت نوراً " . و في حديث آخر عند مسلم قال : " نور أنى أراه " . و في تفسير النقاش عن ابن عباس : أنه سئل هل رأى محمد ربه ؟ فقال رآه رآه . حتى انقطع صوته . و في تفسير عبد الرزاق عن معمر عن الزهري و ذكر إنكار عائشة أنه رآه ، فقال الزهري : ليست عائشة أعلم عندنا من ابن عباس . و في تفسير ابن سلام عن عروة ، انه كان إذا ذكر إنكار عائشة يشتد ذلك عليه . و قول أبي هريرة في هذه المسألة كقول ابن عباس أنه رآه . قال أبو القاسم : و المتحصل من هذه الأقوال أنه رآه لا على أكمل ما تكون الرؤية ، على نحو ما يراه في حظيرة القدس عند الكرامة العظمى و النعيم الأكبر ، و لكن دون ذلك ، و إلى هذا يومىء قوله : رأيت نوراً . قلت : و قوله تعالى " لا تدركه الأبصار " لا يعارض هذا لأنه لا يلزم من الرؤية الإدراك . و أما فرض الصلاة فكان ليلة المعراج ، و قد ذكرنا عن الواقدي من طريق ابن سعد : أنه كان ليلة السبت لسبع عشرة خلت من رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً من مكة إلى السماء . ومن يرى أن المعراج من بيت المقدس و أنه هو الإسراء في تاريخ واحد ، فقد ذكرنا في الإسراء أنه ليلة سبع عشرة من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة ، و بعد المبعث بتسع ، أو اثنتي عشرة على حسب اختلافهم في ذلك ، و هذا هو المشهور . قال أبو عمر : و قد روى الوقاصي عن الزهري ، أن الإسراء و فرض الصلاة كان بعد المبعث بخمس سنين . و أبعد من ذلك ما حكاه أبو عمر أيضاً ، قال : و قال أبو بكر محمد بن علي بن القاسم في تاريخه : ثم أسري بالنبي صلى الله عليه و سلم من مكة إلى بيت المقدس ، و عرج به إلى السماء بعد مبعثه بثمانية عشر شهراً . قال : و لا أعلم أحداً من أهل السير قال ذلك و لا أسند قوله إلى أحد ممن يضاف إليه هذا العلم . و في صبيحة ليلة المعراج كان نزول جبريل و إمامته بالنبي صلى الله عليه و سلم ليريه أوقات الصلوات الخمس ، كما هو مروي من حديث ابن عباس و أبي هريرة و بريدة و أبي موسى و أبي مسعود و أبي سعيد و جابر وعمرو بن حزم و البراء و غيرهم . و كان ذلك عند البيت و أم به مرتين ، مرة أول الوقت و مرة آخره ليعلمه بذلك كله . و أما عدد ركعاتها حين فرضت ، فمن الناس من ذهب إلى أنها فرضت أول ما فرضت ركعتين ركعتين ، ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعاً و أقرت صلاة السفر على ركعتين ، روي ذلك عن عائشة و الشعبي و ميمون بن مهران و محمد بن إسحاق و غيرهم . و منهم من ذهب إلى أنها فرضت أول ما فرضت أربعاً إلا المغرب ففرضت ثلاثاً و الصبح ركعتين . كذلك قال الحسن البصري و نافع بن جبير بن مطعم و ابن جريج . و منهم من ذهب إلى أنها فرضت في الحضر أربعاً و في السفر ركعتين و يروي ذلك عن ابن عباس . و قال أبو إسحاق الحربي : أول ما فرضت الصلاة بمكة فرضت ركعتين أول النهار و ركعتين آخره ، و ذكر في ذلك حديث عائشة : فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلاة ركعتين ركعتين ، ثم زاد فيها في الحضر . هكذا حدث به الحربي ، عن أحمد بن الحجاج ، عن ابن المبارك ، عن ابن عجلان ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة ، عن عائشة . حكى ذلك أبو عمر . قال : و ليس في حديث عائشة دليل على صحة ما ذهب إليه الحربي و لا يوجد هذا في أثر صحيح ، بل فيه دليل على أن الصلاة التي فرضت ركعتين ركعتين هي الصلوات الخمس ، لأن الإشارة بالألف و اللام في الصلاة إشارة إلى معهود . و روينا عن الطبراني ، حدثنا الحسن بن علي بن الأشعث المصري ، حدثنا محمد بن يحيى بن سلام الإفريقي ، حدثني أبي ، حدثني عثمان بن مقسم ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد بن يسار ، عن عمر بن عبد العزيز ، حدثني عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : فرضت الصلاة ركعتين ، فزيد في صلاة المقيم ، و أثبتت صلاة المسافر كما هي . و قد روينا عن السائب بن يزيد مثل ذلك ، روينا عن أبي العباس بن السراج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد العزيز ، عن سعيد بن سعيد ، عن السائب بن يزيد ، أنه قال : فرضت الصلاة ركعتين ، ثم زيد في صلاة المقيم و أقرت صلاة المسافر . قال أبو عمر : قول الشعبي في هذا ، أصله من حديث عائشة ، و يمكن أن يكون قد أخذه عن مسروق أو الأسود عنها ، فأكثر ما عنده عن عائشة فهو عنهما . قلت : قد وقع لنا ذلك من حديثه عن مسروق كما ظن أبو عمر . روينا من طريق السراج ، حدثنا أحمد بن سعيد الرباطي ، حدثنا محبوب بن الحسن ، حدثنا داود عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : فرضت صلاة الحضر و السفر ركعتين ركعتين ، فلما أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان . وتركت صلاة الفجر لطول القراءة ، و صلاة المغرب لأنها وتر النهار . و أما ابن إسحاق فخبر عائشة عنده عن صالح بن كيسان ، عن عروة ، عنها . فيمكن أن يكون أخذه من هناك . و أما ميمون بن مهران فروي ذلك عنه من طريق سالم مولى أبي المهاجر ، و سالم غير سالم من الجرح ، و من قال بهذا من أهل السير قال : إن الصلاة أتمت بالمدينة بعد الهجرة بشهر و عشرة أيام ، و قيل بشهر . و أما من قال : فرضت أربعاً ثم خفف عن المسافر ، فأخبرنا الإمام الزاهد أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد الواسطي قراءة عليه و أنا أسمع بسفح قاسيون ، أخبركم الشيخان أبو البركات داود بن أحمد بن محمد بن ملاعب قراءة عليه و أنت تسمع بدمشق ، و أبو علي بن الحسن بن إسحاق بن موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي سماعاً عليه ببغداد . قال الأول : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن سلامة بن الرطبي قراءة عليه و أنا أسمع . و قال الثاني : أخبرنا أبو بكر محمد بن عبيد الله بن الزاغوني ، قالا : " أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد بن البسري ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص ، حدثنا يحيى ـ يعني ابن محمد بن صاعد ـ حدثنا لوين بن محمد بن سليمان ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن رجل من بني عامر ، قال : و الرجل حي فاسمعوه منه ، يقال له أنس بن مالك ، قال ابن صاعد : هو القشيري : أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث خيلاً فغارت على إبل جار لي ، فانطلق في ذلك أبي و عمي أو قرابة لي قريبة . قال : فقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يطعم فقال : هلم إلى الغذاء . قال : إني صاثم . قال صلى الله عليه و سلم : هلم أحدثك عن ذلك ، إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة و الصيام و عن الحبلى و المرضع .. " الحديث . خالف أيوب يحيى بن أبي كثير ، فرواه عن أبي قلابة ، عن جعفر بن عمرو ابن أمية الضمري ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه و سلم . ===== |
و قد رويناه من طريق السراج ، حدثنا داود بن رشيد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عنه .
و مع صحة الإسنادين فتصويب الأول من جعلهما حديثين عند أبي قلابة ، لاشتهار هذا الخبر من طريق أنس القشيري ، و بعد تعدد هذه الواقعة و الله أعلم . قالوا : و وضع ، لا يكون إلا من فرض ثابت ، و بما روينا " من طريق أبي العباس الثقفي حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا عبد الله بن إدريس ، حدثنا ابن جريج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابيه ، عن يعلى بن أمية ، قال : قلت لعمر بن الخطاب : ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خففتم ؟ فقد أمن الناس . فقال عمر : عجبت مما عجبت منه ، فسالت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك . فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " . رواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم ، فوقع لنا مواقفة عالية له . قالوا : و لم يقصر رسول الله صلى الله عليه و سلم آمناً إلا بعد نزول آية القصر في صلاة الخوف ، و كان نزولها بالمدينة ، و فرض الصلاة بمكة . فظاهر هذا يقتضي أن القصر طارئ على الإتمام . و أما قول ابن عباس إنها فرضت في الحضر أربعاً ، و في السفر ركعتين ، و في الخوف ركعة ، فقرأت على أبي العباس أحمد بن هبة الله بن عساكر بجامع دمشق ، أخبرتكم زينب بن عبد الرحمن الشعري إجازة ، قالت : أخبرنا الشيخان أبو محمد إسماعيل بن القاسم ابن أبي بكر القارئ سماعاً ، و أبو عبد الله الفراوي إجازة ، قالا : أخبرنا عبد الغافر الفارسي ، أخبرنا بشر بن أحمد الإسفرايني ، أخبرنا أبو سليمان داود بن الحسين البيهقي ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا أبو عوانة ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : فرض الله عز و جل الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً ، و في السفر ركعتين ، و في الخوف ركعة . رواه مسلم عن يحيى فوافقناه بعلو . و قرأت على الشيخة الأصيلة مؤنسة خاتون بنت الملك العادل سيف الدين أبي بكر ابن أيوب إجازة ، أخبرتك أم هانئ عفيفة بنت أحمد بن عبد الله الفارقانية إجازة ، أخبرنا أبو طاهر عبد الواحد بن محمد الصباغ ، أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، أخبرنا ابن الصواف أخبرنا بشر بن موسى ، حدثنا محمد بن سعيد ـ يعني ابن الأصبهان ـ ، حدثنا شريك و أبو وكيع ، عن زبيد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عمر ، قال : صلاة السفر ركعتان ، و صلاة الجمعة ركعتان ، و صلاة العيد ركعتان ، تمام غير قصر على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم . و قال أبو وكيع : على لسان نبيكم صلى الله عليه و سلم . و روينا عن الطبراني ، حدثنا محمد بن سهل الرباطي ، حدثنا سهل بن عثمان ، حدثنا شريك ، عن قيس بن وهب ، عن أبي الكنود ، سألت ابن عمر عن صلاة السفر ، فقال : ركعتان نزلت من السماء فإن شئتم فردوها . و أما قول الحربي فبعيد ، غير أنه قد قيل : إن الصلاة قبل فرضها كانت كذلك و سيأتي . قال أبو عمر : و قد أجمع المسلمون أن فرض الصلاة في الحضر أربعاً إلا المغرب و الصبح ، لا يعرفون غير ذلك عملاً و نقلاً مستفيضاً ، و لا يضرهم الاختلاف فيما كان أصل فرضها إذ لا خلاف بينهم فيما آل إليه أمرها و استقر عليه حالها . و أما الصلاة طرفي النهار : فروينا عن ابن الصواف بالسند المذكور آنفاً ، " حدثنا أبو علي بشر بن موسى ، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الضبي ، حدثنا محمد بن أبان ، عن أبي إسحاق ، عن عمارة بن روبية الثقفي ، قال : سمع أذناي و وعى قلبي من رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من صلى قبل طلوع الشمس و قبل غروبها و جبت له الجنة و من ذلك قوله تعالى " وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار " [ غافر : 55 ] " . |
الساعة الآن 11:47 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
][ ملاحظة: جميع المشاركات تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تمثل راي ادارة المنتدى بالضرورة، نأمل من الجميع الالتزام بقوانين الحوار المحترم ][