![]() |
بحث((( موسوعة سيرة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام )))
قصص الأولين والآخرين
ومن أوضح ما يكون لذوي الفهم : قصص الأولين والآخرين . قصص من أطاع الله وما فعل بهم ، وقصص من عصاه ، وما فعل بهم ، فمن لم يفهم ذلك ، ولم ينتفع به فلا حيلة فيه ، كما قال تعالى : " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص " . وقال بعض السلف : القصص جنود الله، يعني أن المعاند لا يقدر يردها . فأول ذلك : ما قص الله سبحانه عن آدم ، وإبليس ، إلى أن هبط آدم ، وزوجه إلى الأرض ، ففيها من إيضاح المشكلات ما هو واضح لمن تأمله . وآخر القصة قوله تعالى : " قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " وفي الآية الأخرى : " فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا " إلى قوله : " ولعذاب الآخرة أشد وأبقى " . وهداه الذي وعدنا به : هو إرساله الرسل . وقد وفى بما وعد سبحانه ، فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . فأولهم : نوح ، وآخرهم : نبينا صلى الله عليه وسلم . فاحرص يا عبد الله على معرفة هذا الحبل ، الذي بين الله وبين عباده ، الذي من استمسك به سلم ، ومن ضيعه عطب . فاحرص على معرفة ما جرى لأبيك آدم ، وعدوك إبليس ، وما جرى لنوح وقومه ، وهود وقومه ، وصالح وقومه ، وإبراهيم وقومه ، ولوط وقومه ، وموسى وقومه ، وعيسى وقومه ومحمد صلى الله عليه وسلم وقومه . واعرف ما قص أهل العلم من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وقومه ، وما جرى له معهم في مكة ، وما جرى له في المدينة . واعرف ما قص العلماء عن أصحابه ، وأحوالهم ، وأعمالهم ، لعلك أن تعرف الإسلام والكفر ، فإن الإسلام اليوم غريب ، وأكثر الناس لا يميز بينه وبين الكفر ، وذلك هو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح . |
قصة آدم وإبليس
وأما قصة آدم ، وإبليس : فلا زيادة على ما ذكر الله في كتابه . ولكن قصة ذريته ، فأول ذلك : أن الله أخرجهم من صلبه أمثال الذر ، وأخذ عليهم العهود ، أن لا يشركوا به شيئاً ، كما قال تعالى : " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا " . "ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج ، ورأى فيهم رجلاً من أنورهم ، فسأله عنه ؟ فأعلمه أنه داود . فقال : كم عمره ؟ قال : ستون سنة ، قال : وهبت له من عمري أربعين سنة ، وكان عمر آدم ألف سنة . ورأى فيهم الأعمى ، والأبرص ، والمبتلى. قال : يا رب، لم لا سويت بينهم ؟ قال : إني أحب أن أشكر. فلما مضى من عمر آدم ألف سنة إلا أربعين ، أتاه ملك الموت . فقال : إنه بقي من عمري أربعون سنة ، فقال : إنك وهبتها لابنك داود . فنسي آدم ، فنسيت ذريته ، وجحد آدم ، فجحدت ذريته" . فلما مات أدم ، بقي أولاده بعده عشرة قرون على دين أبيهم ، دين الإسلام ، ثم كفروا بعد ذلك . وسبب كفرهم : الغلو في حب الصالحين ، كما ذكر الله تعالى في قوله : " وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا " وذلك أن هؤلاء الخمسة قوم صالحون كانوا يأمرونهم وينهونهم ، فماتوا في شهر ، فخاف أصحابهم من نقص الدين بعدهم ، فصوروا صورة كل رجل في مجلسه ، لأجل التذكرة بأقوالهم وأعمالهم إذا رأوا صورهم ، ولم يعبدوهم . ثم طال الزمان ، ومات أهل العلم ، فلما خلت الأرض من العلماء ألقى الشيطان في قلوب الجهال : "أن أولئك الصالحين ما صوروا صور مشايخهم إلا ليستشفعوا بهم إلى الله ، فعبدوهم" . |
قصة نوح عليه السلام
فلما فعلوا ذلك أرسل الله إليهم نوحاً عليه السلام ، ليردهم إلى دين آدم وذريته ، الذين مضوا قبل التبديل ، فكان من أمرهم ماقص الله في كتابه ، ثم عمر نوح وأهل السفينة الأرض ، وبارك الله فيهم ، وانتشروا في الأرض أمماً وبقوا على الإسلام مدة لا ندري ما قدرها ؟ ثم حدث الشرك ، فأرسل الله الرسل ، وما من أمة إلا وقد بعث الله فيها رسولاً يأمرهم بالتوحيد ، وينهاهم عن الشرك ، كما قال تعالى : " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " ، وقال تعالى " ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه " الآية . ولما ذكر القصص في سورة الشعراء ختم كل قصة بقوله " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين " ، فقص الله سبحانه ما قص لأجلنا ، كما قال تعالى : " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى " الآية . ولما أنكر الله على أناس من هذه الأمة ، في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء فعلوها ، قال : " ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين " الآية ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على أصحابه قصص من قبلهم ، ليعتبروا بذلك . وكذلك أهل العلم في نقلهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جرى له مع قومه ، وما قال لهم ، وما قيل له . وكذلك نقلهم سيرة الصحابة ، وما جرى لهم مع الكفار والمنافقين ، وذكرهم أحوال العلماء بعدهم ، كل ذلك لأجل معرفة الخير والشر . إذا فهمت ذلك ، فاعلم : أن كثيراً من الرسل وأممهم لا نعرفهم ، لأن الله لم يخبرنا عنهم، لكن أخبرنا عن عاد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ، فبعث الله إليهم هوداً عليه السلام ، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه ، وبقي التوحيد في أصحاب هود إلى أن عدم بعد مدة ، لا ندري كم هي ، وبقي في أصحاب صالح ، إلى أن عدم بعد مدة لا ندري كم هي ؟ |
قصة إبراهيم عليه السلام
ثم بعث الله إبراهيم -عليه السلام- وليس على وجه الأرض يومئذ مسلم ، فجرى عليه من قومه ما جرى ، وآمنت به امرأته سارة . ثم أمن له لوط -عليه السلام- ومع هذا نصره الله ، ورفع قدره وجعله إماماً للناس ، ومنذ ظهر إبراهيم -عليه السلام- لم يعدم التوحيد في ذريته ، كما قال تعالى : " وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون " ، فإذا كان هو الإمام ، فنذكر شيئاً من أحواله لا يستغني مسلم عن معرفتها ، فنقول : في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"لم يكذب إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم قط ، إلا ثلاث كذبات : ثنتين منهن في ذات الله، قوله : " إني سقيم "، وقوله : " بل فعله كبيرهم هذا ". وواحدة في شأن سارة ، فإنه قدم أرض جبار ، ومعه سارة ، وكانت من أحسن الناس ، فقال لها : إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك ، فإن سألك فأخبريه أنك أختي ، فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك. فلما دخل أرضه رأها بعض أهل الجبار فأتاه ، فقال : لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك. فأرسل إليها ، فأتي بها. فقام إبراهيم إلى الصلاة ، فلما دخلت عليه ، لم يتمالك أن بسط يده إليها ، فقبضت يده قبضة شديدة ، فقال لها : دعي الله أن يطلق يدي ، فلك الله أن لا أضرك. ففعلت ، فعاد . فقبضت يده أشد من القبضة الأولى ، فقال لها مثل ذلك ، فعاد . فقبضت يده أشد من القبضتين الأوليين ، فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ، ولك الله أن لا أضرك . ففعلت فأطلقت يده . ودعا الذي جاء بها ، فقال : إنك إنما جئتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان . فأخرجها من أرضي ، وأعطاها هاجر . فأقبلت ، فلما رآها إبراهيم ، انصرف . فقال لها : مهيم ؟ قالت : خيراً ، كف الله يد الفاجر ، وأخدم خادماً". قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء . وللبخاري : "أن إبراهيم لما سئل عنها ؟ قال : هي أختي ، ثم رجع إليها فقال : لا تكذبي حديثي ، فإني أخبرتهم أنك أختي والله ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك . فأرسل بها إليه فقام إليها ، فقامت تتوضأ وتصلي . فقالت : اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك ، وأحصنت فرجي إلا على زوجي ، فلا تسلط علي يد الكافر . فغط حتى ركض برجله الأرض ، فقالت : اللهم إن يمت ، يقال : هي قتلته ، فأرسل ، ثم قام إليها ، فقامت تتوضأ وتصلي ، وتقول : اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك ، وأحصنت فرجي إلا على زوجي ، فلا تسلط علي هذا الكافر . فغط حتى ركض برجله ، فقالت : اللهم ثم إن يمت يقال : هي قتلته . فأرسل في الثانية ، أو الثالثة ، فقال : والله ما أرسلتم إلي إلا شيطاناً ، أرجعوها إلى إبراهيم ، وأعطوها هاجر . فرجعت إلى إبراهيم ، فقالت : أشعرت ؟ إن الله كبت الكافر ، وأخدم وليدة" وكان عليه السلام في أرض العراق ، وبعدما جرى عليه من قومه ما جرى هاجر إلى الشام ، واستوطنها ، إلى أن مات فيها . وأعطته سارة الجارية التي أعطاها الجبار ، فواقعها . فولدت له إسماعيل عليه السلام ، فغارت سارة ، فأمره الله بإبعادها عنها ، فذهب بها وبإبنها فأسكنهما في مكة . ثم بعد ذلك وهب الله له ولسارة إسحاق عليه السلام ، كما ذكر الله بشارة الملائكة له ولها بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب . وفي الصحيح عن ابن عباس ، قال : "لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان ، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ، ومعه شنة فيها ماء ، فجعلت أم اسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها ، حتى قدم مكة. فوضعها تحت دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد -وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء- ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء . ثم قفى إبراهيم منطلقاً ، فتبعته أم إسماعيل ، فلما بلغوا كداء ، نادته من ورائه : يا إبراهيم ! أين تذهب ، وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شئ ؟ فقالت له ذلك مراراً ، وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : الله الذي أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذن لا يضيعنا وفي لفظ : إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله . قالت : رضيت ، ثم رجعت . فانطلق إبراهيم ، حتى إذا كان عند الثنية ، حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ، ورفع يديه فقال : " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون "، وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من الشنة ، فيدر لبنها على صبيها ، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت ، وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى -أو قال : يتلبط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل إليها ، فقامت واستقبلت الوادي تنظر : هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ، فهبطت من الصفا ، حتى إذا بلغت الوادي ، رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود ، حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة ، فقامت عليها ، فنظرت هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم :فذلك سعي الناس بينهما - ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل -تعني الصبي- فذهبت فنظرت ، فإذا هو على حاله ، كأنه ينشغ للموت ، فلم تقرها نفسها. فقالت : لو ذهبت لعلي أحس أحداً ؟ فذهبت فصعدت الصفا ، فنظرت فلم تحسن أحداً ، حتى أتمت سبعاً ، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل؟ فإذا هي بصوت، فقالت : أغث إن كان عندك خير . فإذا بجبريل ، قال : فقال بعقبه على الأرض ، فانبثق الماء فذهبت أم إسماعيل ، فجعلت تحفر، فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : يرحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم -أو قال : لو لم تغرف من الماء- لكانت زمزم عيناً معيناً- وفي حديثه : فجعلت تغرف الماء في سقائها- قال : فشربت ، وأرضعت ولدها . فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة، فإن ها هنا بيتاً لله ، يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله . وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالزابية ، تأتيه السيول ، فتأخذ عن يمينه وشماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم ، مقبلين من طريق كداء ، فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جرياً ، أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا ، وقالوا لأم إسماعيل : أتاذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء ، قالوا : نعم - قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس - فنزلوا ، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم ، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، وشب الغلام ، وتعلم العربية منهم . وأنفسهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم ، وماتت أم إسماعيل . وجاء إبراهيم - بعدما تزوج إسماعيل - يطالع تركته فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه ؟ فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ؟ فقالت : نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة ، فشكت إليه . قال : فإذا جاء زوجك أقرئي عليه السلام ، وقولي له : يغير عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل ، كأنه آنس شيئاً ، فقال : هل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم جاءنا شيخ -كذا وكذا- فسألنا عنك ؟ فأخبرته . وسألني : كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة ، قال: فهل أوصاك بشئ ؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول : غير عتبة بابك ، قال : ذاك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك ، الحقي بأهلك . فطلقها وتزوج منهم امرأة أخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، فقال لأهله : إني مطلع تركتي ، فجاء فقال لامرأته : أين إسماعيل ؟ قالت : ذهب يصيد . قالت : ألا تنزل فتطعم ، وتشرب؟ قال: وما طعامكم وما شرابكم ؟ قالت : طعامنا اللحم ، وشرابنا الماء . قال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم - قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بركة دعوة إبراهيم، فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ولم يكن لهم يومئذ حب . ولو كان لهم حب دعا لهم فيه - وسألها عن عيشهم وهيئتهم ؟ فقالت : نحن بخير وسعة وأثنت على الله ، قال : إذا جاء زوجك ، فاقرئي عليه السلام ، ومريه يثبت عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل قال : هل آتاكم من أحد ؟ قالت : نعم ، شيخ حسن الهيئة -وأثنت عليه- فسألني عنك ؟ فأخبرته فسألني : كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير . قال : هل أوصاك بشئ ؟ قالت : نعم ، هو يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك . قال : ذاك أبي ، وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك . ثم لبث عنهم ما شاء الله ، فقال لأهله : إني مطلع تركتي ، فجاء ، فوافق إسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم ، فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد ، والولد بالوالد ، ثم قال : يا إسماعيل ! إن الله أمرني بأمر ، قال : فاصنع ما أمرك ربك . قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتاً -وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها - قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت . فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " "، هذا آخر حديث ابن عباس |
ولاية البيت ومكة لإسماعيل عليه السلام ، ثم لذريته من بعده
فصارت ولاية البيت ومكة لإسماعيل ، ثم لذريته من بعده وانتشرت ذريته في الحجاز وكثروا ، وكانوا على الإسلام دين إبراهيم وإسماعيل قروناً كثيرة . ولم يزالوا على ذلك حتى كان في آخر الدنيا : نشأ فيهم عمرو بن لحي ، فابتدع الشرك ، وغير دين إبراهيم ، وتأتي قصته إن شاء الله . وأما إسحاق عليه السلام فإنه بالشام ، وذريته : هم بنو إسرائيل والروم . أما بنو إسرائيل : فأبوهم يعقوب عليه السلام ابن إسحاق ، ويعقوب هو إسرائيل . وأما الروم ، فأبوهم : عيص بن إسحاق . ومما أكرم الله به إبراهيم عليه السلام : أن الله لم يبعث بعده نبياً إلا من ذريته ، كما قال تعالى : " وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب " ، وكل الأنبياء والرسل من ذرية إسحاق . وإما إسماعيل : فلم يبعث من ذريته إلا نببنا محمداً صلى الله عليه وسلم ، بعثه الله إلى العالمين كافة . وكان من قبله من الأنبياء كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وفضله الله على جميع الأنبياء بأشياء غير ذلك. |
قصة عمرو بن لحي وتغييره دين إبراهيم عليه السلام
وأما قصة عمرو بن لحي ، وتغييره دين إبراهيم : فإنه نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة ، والحرص على أمور الدين ، فأحبه الناس حباً عظيماً ، ودانوا له لأجل ذلك ، حتى ملكوه عليهم ، وصار ملك مكة وولاية البيت بيده ، وظنوا أنه من أكابر العلماء ، وأفاضل الأولياء . ثم إنه سافر إلى الشام ، فرأهم يعبدون الأوثان ، فاستحسن ذلك وظنه حقاً ، لأن الشام محل الرسل والكتب ، فلهم الفضيلة بذلك على أهل الحجاز وغيرهم ، فرجع إلى مكة ، وقدم معه بهبل ، وجعله في جوف الكعبة ، ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله ، فأجابوه . وأهل الحجاز في دينهم تبع لأهل مكة ، لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم . فتبعهم أهل الحجازعلى ذلك ، ظناً أنه الحق . فلم يزالوا على ذلك حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بدين إبراهيم عليه السلام ، وإبطال ما أحدثه عمرو بن لحي . وكانت الجاهلية على ذلك ، وفيهم بقايا من دين إبراهيم لم يتركوه كله ، وأيضاً يظنون أن ما هم عليه ، وأن ما أحدثه عمرو بدعة حسنة ، لا تغير دين إبراهيم . وكانت تلبية نزار : لبيك ، لا شريك لك ، إلا شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك ، فأنزل الله تعالى : " ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون " . ومن أقدم أصنامهم مناة وكان منصوباً على ساحل البحر بقديد ، تعظمه العرب كلها ، لكن الأوس والخزرج كانوا أشد تعظيماً له من غيرهم . وبسبب ذلك أنزل الله تعالى : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " . ثم اتخذوا اللات في الطائف ، وقيل : إن أصله رجل صالح كان يلت السويق للحاج ، فمات فعكفوا على قبره . ثم اتخذو العزى بوادي نخلة ، بين مكة والطانف ، فهذه الثلاثة أكبر أوثانهم . ثم كثر الشرك ، وكثرت الأوثان في بقعة من الحجاز ، وكان لهم أيضاً بيوت يعظمونها كتعظيم الكعبة ، وكانوا كما قال تعالى : " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " . ولما دعاهم رسول الله إلى الله اشتد إنكار الناس له ، علماؤهم وعبادهم ، وملوكهم وعامتهم ، حتى إنه لما دعا رجلاً إلى الإسلام قال له : من معك على هذا ؟ قال : حر وعبد، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال رضي الله عنهما . |
حديث " بدأ الإسلام غريباً . . . "
وأعظم فائدة لك أيها الطالب ، وأكبر العلم وأجل المحصول ، إن فهمت ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "بدأ الإسلام غريباً ، وسيعود غريباً كما بدأ" . |
حديث " لتتبعن سنن من كان قبلكم . . . "
وقوله : "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . قالوا : يا رسول الله ! اليهود والنصارى ؟ قال : فمن" . وقوله : "ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة". فهذه المسألة أجل المسائل ، فمن فهمها فهو الفقيه . ومن عمل بها فهو المسلم ، فنسأل الله الكريم المنان أن يتفضل علينا وعليكم بفهمها والعمل بها . |
بناء بيت الله الحرام
أما البيت المحرم : فإن إبراهيم واسماعيل -عليهما السلام- لما بنياه ، صارت ولايته في إسماعيل وذريته ، ثم غلبهم عليه أخوالهم من جرهم ، ولم ينازعهم بنو إسماعيل ، لقرابتهم وإعظامهم للحرمة ، أن لا يكون بها قتال ، ثم إن جرهم بغوا في مكة ، وظلموا من دخلها ، فرق أمرهم ، فلما رأى بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة ، وغبشان من خزاعة ، أجمعوا على جرهم ، فاقتتلوا فغلبهم بنو بكر وغبشان ونفوهم من مكة . وكانت مكة في الجاهلية لا يقر فيها ظلم ، ولا يبغي فيها أحد إلا أخرج ، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك . ثم إن غبشان -من خزاعة- وليت البيت دون بني بكر . وقريش إذ ذاك حلول وصرم ، وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة . فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك ، حتى كان آخرهم حليل بن حبيشة ، فتزوج قصي بن كلاب ابنته . فلما عظم شرف قصي ، وكثر بنوه وماله ، هلك حليل ، فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وأمر مكة ، من خزاعة وبني بكر ، وأن قريشاً رؤوس آل إسماعيل وصريحهم ، فكلم رجالاً من قريش وكنانة في إخراج خزاعة وبني بكر من مكة ، فأجابوه . |
الحج في الجاهلية
وكان الغوث بن مرة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر يلي الإجازة للناس بالحج من عرفة ، وولده من بعده ، لأن أمه كانت جرهمية لا تلد ، فنذرت لله إن ولدت رجلاً : أن تتصدق به على الكعبة يخدمها ، فولدت الغوث ، فكان يقوم على الكعبة مع أخواله من جرهم ، فولي الإجازة بالناس ، لمكانه من الكعبة ، فكان إذا رفع يقول : اللهم إني تابع تباعة إن كان إثماً فعلى قضاعة وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة ، وتجيزهم إذا نفروا من منى . فإذا كان يوم النفر أتوا رمي الجمار ورجل من صوفة يرمي لهم ، لا يرمون حتى يرمي لهم ، فكان المتعجلون يأتونه يقولون : ارم حتى نرمي ، فيقول : لا والله ، حتى تميل الشمس . فإذا مالت الشمس رمى ورمى الناس معه ، فإذا فرغوا من الرمي وأرادوا النفر من منى أخذت صوفة بالجانبين ، فلم يجز أحد حتى يمروا ، ثم يخلون سبيل الناس . فلما انقرضوا ورثهم بنو سعد بن زيد مناة من بني تميم . وكانت الإفاضة من مزدلفة في عدوان يتوارثونها ، حتى كان آخرهم كرب بن صفوان بن جناب : الذي قام عليه الإسلام . فلما كان ذلك العام ، فعلمت صوفة ما كانت تفعل ، قد عرفت العرب ذلك لهم ، هو دين لهم من عهد جرهم وولاية خزاعة، فأتاهم قصي بمن معه من قريش وقضاعة وكنانة عند العقبة ، فقال : نحن أولى بهذا منكم ، فقاتلوه . فاقتتل الناس قتالاً شديداً ، ثم انهزمت صوفة وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم . وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي ، وعرفوا أنه سيمنعهم ، كما منع صوفة ، ويحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة . فلما انحازوا بادأهم وأجمع لحربهم ، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً ، ثم تداعوا إلى الصلح ، فحكموا يعمر بن عوف ، أحد بني بكر، فقضى بينهم بأن قصياً أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة . وكل دم أصابه قصي منهم موضوع شدخه تحت قدميه ، وما أصابت خزاعة وبنو بكر ففيه الدية وأن يخلى بين قصي وبين الكعبة ، فسمي يومئذ يعمر الشداخ . |
جمع قصي قومه من منازلهم إلى مكة
فوليها قصي ، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة ، وتملك عليهم ، وملكوه ، لأنه أقر للعرب ما كانوا عليه ، لأنه يراه ديناً لا يغير ، فأقر النسأة وآل صفوان وعدوان ، ومرة بن عوف على ما كانوا عليه ، حتى جاء الإسلام ، فهدم ذلك كله ، وفيه يقول الشاعر : قصي لعمري كان يدعى مجمعاً به جمع الله القبائل من فهر فكان قصي أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكاً أطاع له به قومه ، فكانت إليه الحجابة ، والسقاية ، والرفادة ، والندوة ، واللواء وقطع مكة رباعاً بين قومه ، فأنزل كل قوم منهم منازلهم . وقيل : إنهم هابوا قطع الشجر عن منازلهم ، فقطعها بيده وأعوانه ، فسمته قريش مجمعاً لما جمع من أمرهم ، وتيمنت بأمره فلا تنكح امرأة منهم ولا يتزوج رجل ولا يتشاورون فيما نزل بهم ، ولا يعقدون لواء حرب إلا في داره يعقده لهم بعض ولده . فكان أمره في حياته -وبعد موته- عندهم كالدين المتبع ، واتخد لنفسه دار الندوة . فلما كبر قصي ورق عظمه -وكان عبد الدار بكره - وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه ، وعبد العزى وعبد الدار . فقال قصي لعبد الدار : لألحقنك بالقوم ، وإن شرفوا عليك ، لا يدخل أحد منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له ، ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت . ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك ، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاماً إلا من طعامك ، ولا تقطع قريش أمراً من أمورها إلا في دارك . فأعطاه دار الندوة ، والحجابة ، واللواء ، والسقاية ، والرفادة : وهي خرج تخرجه قريش في الموسم من أموالها إلى قصي ، فيصنع به طعاماً للحاج ، يأكله من لم يكن له سعة ولا زاد ، لأن قصياً فرضه على قريش . فقال لهم : إنكم جيران الله وأهل بيته . وإن الحاج ضيف الله ، وهم أحق الضيف بالكرامة . فاجعلوا لهم طعاماً وشراباً أيام الحج حتى يصدروا عنكم . ففعلوا . وكان قصي لا يخالف ، ولا يرد عليه شئ صنعه فلما هلك أقام بنوه أمره لا نزاع بينهم . ثم إن بني عبد مناف أرادوا أخذ ما بيد عبد الدار ورأوا أنهم أولى بذلك ، فتفرقت قريش ، بعضهم معهم ، وبعضهم مع عبد الدار، فكان صاحب أمر عبد مناف : عبد شمس بن عبد مناف ، لأنه أسنهم ... وصاحب أمر بني عبد الدار : عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ، فعقد كل قوم حلفاً مؤكداً . فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيباً ، فغمسوا أيديهم فيها ، ومسحوا بها الكعبة ، فسموا المطيبين وتعاقد بنو عبد الدار وحلفاؤهم فسموا الأحلاف . ثم تداعوا إلى الصلح ، على أن لبني عبد مناف السقاية والرفادة ، وأن الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار ، فرضوا ، وثبت كل قوم مع من حالفوا ، حتى جاء الله بالإسلام . "فقال صلى الله عليه وسلم : كل حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة |
حلف الفضول :
وأما حلف الفضول ، فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه ، وهم: بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب ، وتيم بن مرة ، تعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها ، أو ممن دخلها ، إلا قاموا معه ، حتى ترد إليه مظلمته ، فقال الزبير بن عبد المطلب : إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا أن لا يقيم ببطن مكة ظالم أمر عليه تحالفوا وتعاقدوا فالجار والمعتز فيهم سالم فولي السقاية والرفادة : هاشم بن عبد مناف ، لأن عبد شمس سفار ، قلما يقيم بمكة . وكان مقلاً ذا ولد وكان هاشم موسراً، وهو أول من سن الرحلتين ، رحلة الشتاء والصيف ، وأول من أطعم الثريد بمكة ، فقال بعضهم : عمرو الذي هشم الثريد لقومه قوم بمكة مسنتين عجاف ولما مات هاشم ولي ذلك المطلب بن عبد مناف ، فكان ذا شرف فيهم ، يسمونه الفياض لسماحته . وكان هاشم قدم المدينة، فتزوج سلمى بنت عمرو ، من بني النجار ، فولدت له عبد المطلب ، فلما ترعرع خرج إليه المطلب ليأتي به ، فأبت أمه ، فقال : إنه يلي ملك أبيه . فأذنت له ، فرحل به ، وسلم إليه ملك أبيه ، فولي عبد المطلب ما كان أبوه يلي . وأقام لقومه ما أقام آباؤه ، وشرف فيهم شرفاً لم يبلغه أحد من آبائه ، وأحبوه وعظم خطره فيهم . |
قصة حفر زمزم ثم ذكر قصة حفر زمزم ، وما فيها من العجائب .
ثم ذكر قصة نذر عبد المطلب ذبح ولده ، وما جرى فيها من العجائب . ثم ذكر الآيات التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولادته ، وبعدها وما جرى له وقت رضاعه وبعد ذلك . ثم ذكر كفالة أمه له ، ثم كفالة جده ، ثم كفالة عمه أبي طالب . ثم ذكر قصة بحيرى الراهب وغيرها من الآيات . ثم ذكر تزوجه خديجة ، وما ذكر لها غلامها ميسرة ، وما ذكرته هي لورقة ، وقول ورقة : لججت وكنت في الذكرى لجوجاً لهم طالما بعث النشيجا إلى آخرها . . . ثم ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم بين قريش في الحجر الأسود عند بنائها الكعبة . وذكر قصة بنائها . وما فيها من العجائب |
ذكر أمر الحمس
وذكر أمر الحمس - وقال : إن قريشاً ابتدعته رأياً رأوه ، فقالوا : نحن بنو إبراهيم ، وأهل الحرم ، وولاة البيت ، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، فلا تعظموا أشياء من الحل مثلما تعظمون الحرم ، لئلا تستخف العرب بحرمتكم . فتركوا الوقوف بعرفة ، والإفاضة منها ، ومع معرفتهم أنها من المشاعر ، ومن دين إبراهيم . ويرون لسائر العرب أن يقفوا بها ، ويفيضوا منها ، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم ، فلا ينبغي لنا أن نخرج منه . نحن الحمس . و الحمس أهل الحرم . ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من أهل الحرم ، مثل ما لهم بولادتهم إياهم ، أي : يحل لهم ما يحل لهم ، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم . وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك . ثم ابتدعوا في ذلك أموراً ، فقالوا : لا ينبغي للحمس أن يقطوا الأقط ، ولا أن يسلوا السمن وهم حرم ، ولا يدخلوا بيتاً من شعر ، ولا يستظلوا إلا في بيوت الأدم ما داموا حرماً . ثم قالوا : لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به من الحل إلى الحرم ، إذا جاءوا حجاجاً أو عماراً ، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا -أول طوافهم- إلا في ثياب الحمس ، فإن لم يجدوا منها شيئاً طافوا بالبيت عراة ، فإن لم يجد القادم ثياب الحمس : طاف في ثيابه ، وألقاها إذا فرغ من طوافه ، ولم ينتفع بها ولا أحد غيره . فكانت العرب تسميها اللقى وحملوا على ذلك العرب ، فدانت به . أما الرجال : فيطوفون عراة . وأما النساء : فتضع المرأة ثيابها كلها إلا درعاً مفرجاً ثم تطوف فيه ، فقالت امرأة وهي تطوف : اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله فلم يزالوا كذلك حتى جاء الله بالإسلام ، فأنزل الله : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " ، وأنزل فيما حرموا : " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم " إلى قوله : " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد " إلى قوله : " لقوم يعلمون " . وذكر حدوث الرجوم ، وإنذار الكهان به صلى الله عليه وسلم ، ونزول سورة الجن وقصتهم |
ذكر إنذار اليهود
ثم ذكر إنذار اليهود ، وأنه سبب إسلام الأنصار ، وما نزل في ذلك من القرآن ، وقصة ابن الهيبان ، وقوله : يا معشر يهود ، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع ؟، وقوله : إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه ، وهذه البلدة مهاجره إلى آخرها . ثم ذكر قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه . ثم ذكر الأربعة المتفرقين عن الشرك في طلب الدين الحق ، وهم : ورقة بن نوفل ، وعبيد الله بن جحش ، وعثمان بن الحويرث ، وزيد بن عمرو بن نفيل . |
وصية عيسى عليه السلام باتباع محمد صلى الله عليه وسلم
ثم ذكر وصية عيسى ابن مريم . عليه السلام باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أخذ الله على الأنبياء من الإيمان به والنصر له، وأن يؤدوه إلى أممهم ، فأدوا ذلك ، وهو قول الله تعالى : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين " الآية . |
بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم ذكر قصة بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقصة في الصحيحين ، وفيها : "أن أول ما أنزلفمن فهم أن هذه أول آية أرسله الله بها ، عرف أنه سبحانه أمره أن ينذر الناس عن الشرك الذي يعتقدون أنه عبادة الأولياء ليقربوهم إلى الله قبل إنذاره عن نكاح الأمهات والبنات ، وعرف أن قوله تعالى : " وربك فكبر " أمر بالتوحيد قبل الأمر بالصلاة وغيرها ، وعرف قدر الشرك عند الله وقدر التوحيد . فلما أنذر صلى الله عليه وسلم الناس استجاب له قليل . وأما الأكثر فلم يتبعوا ولم ينكروا ، حتى بادأهم بالتنفير عن دينهم وبيان نقائصه وعيب آلهتهم ، فاشتدت عداوتهم له ولمن تبعه ، وعذبوهم عذاباً شديداً ، وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم . فمن فهم هذا : عرف أن الإسلام لا يستقيم إلا بالعداوة لمن تركه وعيب دينه وإلا لو كان لأولئك المعذبين رخصة لفعلوا . وجرى بينه وبينهم ما يطول وصفه ، وقص الله سبحانه بعضه في كتابه . ومن أشهر ذلك : قصة عمه أبي طالب لما حماه بنفسه وماله وعياله وعشيرته ، وقاسى في ذلك الشدائد العظيمة ، وصبر عليها ، ومع ذلك كان مصدقاً له ، مادحاً لدينه : محباً لمن اتبعه ، معادياً لمن عاداه ، لكن لم يدخل فيه ، ولم يتبرأ من دين آبائه ، واعتذر عن ذلك بأنه لا يرضى بمسبة آبائه ، ولولا ذلك لاتبعه ، ولما مات وأراد النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار له أنزل الله عليه : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " . فيا لها من عبرة ما أبينها ؟ ومن عظة ما أبلغها ! ومن بيان ما أوضحه ! لما يظن كثير ممن يدعي اتباع الحق فيمن أحب الحق وأهله ، من غير اتباع للحق لأجل غرض من أغراض الدنيا . عليه : " اقرأ باسم ربك الذي خلق " إلى قوله : " ما لم يعلم "، ثم أنزل عليه : " يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر* والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر " ". |
قصته صلى الله عليه وسلم مع قريش حين قرأ سورة النجم
ومما وقع أيضاً : قصته صلى الله عليه وسلم معهم لما قرأ سورة النجم بحضرتهم - فلما وصل إلى قوله : " أفرأيتم اللات والعزى* ومناة الثالثة الأخرى " ، ألقى الشيطان في تلاوته : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً ، وتلقاها الصغير والكبير منهم ، وقالوا كلاماً معناه : هذا الذي نريد ، نحن نقر أن الله هو الخالق الرازق ، المدبر للأمور ، ولكن نريد شفاعتها عنده ، فإذا أقر بذلك فليس بيننا وبينه أي خلاف . واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ، فلما بلغ السجدة سجد وسجدوا معه ، وشاع الخبر : أنهم صافوه ، حتى إن الخبر وصل إلى الصحابة الذين بالحبشة ، فركبوا البحر راجعين ، لظنهم أن ذلك صدق ، فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاف أن يكون قاله فخاف من الله خوفاً عظيماً ، حتى أنزل الله عليه : " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " إلى قوله : " عذاب يوم عظيم " . فمن عرف هذه القصة ، وعرف ما عليه المشركون اليوم ، وما قاله ويقوله علماؤهم ، ولم يميز بين الإسلام الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين دين قريش الذي أرسل الله رسوله ينذرهم عنه ، وهو الشرك الأكبر: فأبعده الله ، فإن هذه القصة في غاية الوضوح ، إلا من طبع الله ، على قلبه وسمعه ، وجعل على بصره غشاوة ، فذلك لا حيلة فيه ، ولو كان من أفهم الناس ، كما قال الله تعالى في أهل الفهم الذين لم يوفقوا : " ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء " الآية . ثم لم أراد الله إظهار دينه ، وإعزاز المسلمين : أسلم الأنصار -أهل المدينة- بسبب العلماء الذين عندهم من اليهود ، وذكرهم لهم النبي وصفته ، وأن هذا زمانه وقدر الله سبحانه أن أولئك العلماء الذين يتمنون ظهوره وينتظرونه ، ويتوعدونهم به - لمعرفتهم أن العز لمن اتبعه- يكفرون به ويعادونه ، فهو قول الله سبحانه : " ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين " . فلما أسلم الأنصار أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من المسلمين بالهجرة إلى المدينة ، فهاجروا إليها . وأعزهم الله تعالى بعد تلك الذلة ، فهو قوله تعالى : " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره " الآية |
فوائد الهجره والمسائل التي فيها كثيرة
وفوائد الهجره ، والمسائل التي فيها كثيرة ، لكن نذكر منها مسألة واحدة ، وهي : أن ناساً من المسلمين لم يهاجروا ، كراهة مفارقة الأهل ، والوطن والأقارب ، فهو قوله تعالى : " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين " . فلما خرجت قريش إلى بدر خرجوا معهم كرهاً ، فقتل بعضهم بالرمي ، فلم علم الصحابة أن فلاناً قتل ، وفلاناً قتل ، تأسفوا على ذلك ، وقالوا : قتلنا إخواننا ، فأنزل الله تعالى فيهم : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض " إلى قوله : " وكان الله غفورا رحيما " . فليتأمل الناصح لنفسه هذه القصة ، وما أنزل الله فيها من الآيات ، فإن أولئك لو تكلموا بكلام الكفر ، وفعلوا كفراً ظاهراً يرضون به قومهم : لم يتأسف الصحابة على قتلهم ، لأن الله بين لهم -وهم بمكة- لما عذبوا قوله تعالى : " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " . فلو سمعوا عنهم كلاماً أو فعلا يرضون به المشركين من غير إكراه ، ما كانوا يقولون : قتلنا إخواننا |
تفسير قوله تعالى : " قالوا فيم كنتم "
ويوضحه قوله تعالى : " قالوا فيم كنتم " ، ولم يقولوا : كيف عقيدتكم أو كيف فعلكم ؟ بل قالوا : في أي الفريقين كنتم ؟ فاعتذروا بقولهم : " كنا مستضعفين في الأرض "، فلم تكذبهم الملائكة في قولهم هذا ، بل قالوا لهم : " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " ، ويوضحه قوله : " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا " . فهذا في غاية الوضوح ، فإذا كان هذا في السابقين الأولين من الصحابة ، فكيف بغيرهم ؟ ولا يفهم هذا إلا من فهم أن أهل الدين اليوم لا يعدونه ذنباً ، فإذا فهمت ما أنزل الله فهماً جيداً ، وفهمت ما عند من يدعي الدين اليوم ، تبين لك أمور : منها : أن الإنسان لا يستغني عن طلب العلم ، فإن هذه وأمثالها لا تعرف إلا بالتنبيه . فإذا كانت قد أشكلت على الصحابة قبل نزول الآية ، فكيف بغيرهم ؟ ومنها : أنك تعرف أن الإيمان ليس كما يظنه غالب الناس اليوم ، بل كما قال الحسن البصري - فيما روى عنه البخاري : " ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال" . نسأل الله أن يرزقنا علماً نافعاً ، ويعيذنا من علم لا ينفع . قال عمر بن عبد العزيز : يا بني ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ، ولكن الخير : أن تعقل عن الله ثم تطيعه . ولما هاجر المسلمون إلى المدينة ، واجتمع المهاجرون والأنصار : شرع الله لهم الجهاد ، وقبل ذلك نهوا عنه ، وقيل لهم : " كفوا أيديكم "، فأنزل الله تعالى : " كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " ، فبذلوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى رضي الله عنهم ، فشكر الله لهم ذلك ، ونصرهم على من عاداهم مع قلتهم وضعفهم ، وكثرة عدوهم وقوته |
الوقائع المشهورة التي أنزل الله تعالى فيها القرآن
فمن الوقائع المشهورة التي أنزل الله فيها القرآن : وقعة بدر ، قد أنزل الله فيها سورة الأنفال . وبعدها وقعة قينقاع ، ثم وقعة أحد بعد سنة ، وفيها الآيات التي في آل عمران . وبعدها وقعة بني النضير ، وفيها الآيات التي في سورة الحشر . ثم وقعة الخندق ، وبني قريظة ، وفيها الآيات التي في سورة الأحزاب . ثم وقعة الحديبية ، وفتح خيبر ، وأنزل الله فيها سورة الفتح ، وفتح مكة ، ووقعة حنين ، وأنزل الله فيها سورة النصر ، وذكر حنين في سورة براءة ، ثم غزوة تبوك ، وذكرها الله في سورة براءة . ولما دانت له العرب ، ودخلوا في دين الله أفواجاً ، وابتدأ في قتال العجم اختار الله له ما عنده ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعدما أقام بالمدينة عشر سنين ، وقد بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة فوقعت الردة المشهورة . وذلك أنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد غالب من أسلم وحصلت فتنة عظيمة ، ثبت الله فيها من أنعم عليهم بالثبات ، بسبب أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فإنه قام فيها قياماً لم يدانه فيه أحد من الصحابة ، ذكرهم فيه ما نسوا ، وعلمهم ما جهلوا ، وشجعهم لما جبنوا ، فثبت الله به دين الإسلام جعلنا الله من أتباعه ، وأتباع ما حمله أصحابه . قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله " الآية ، قال الحسن : هم والله أبو بكر وأصحابه . |
قتال أهل الردة :
وصورة الردة : أن العرب افترقت في ردتها ، فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام ، وقالوا : لو كان نبياً لما مات . وفرقة قالت : نؤمن بالله ولا نصلي . وطائفة أقروا بالإسلام وصلوا ، ولكن منعوا الزكاة . وطائفة شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ولكن صدقوا مسيلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه معه في النبوة . وذلك : أنه أقام شهوداً معه بذلك ، وفيهم رجل من أصحابه معروف بالعلم والعبادة ، يقال له الرجال ، فصدقوه لأجل ما عرفوا فيه من العلم والعبادة ، ففيه يقول بعضهم ممن ثبت منهم : يا سعاد الفؤاد بنت أثال طال ليلي بفتنة الرجال فتن القوم بالشهادة والله عزيز ذو قوة ومحال وقوم من أهل اليمن ، صدقوا الأسود العنسي في ادعائه النبوة ، وقوم صدقوا طليحة الأسدي . ولم يشك أحد من الصحابة في كفر من ذكرنا ، ووجوب قتالهم ، إلا مانع الزكاة ، ولما عزم أبو بكر رضي الله عنه على قتالهم ، قيل له : "كيف نقاتلهم ؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحقها، قال أبو بكر : فإن الزكاة من حقها ، والله ! لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه" . ثم زالت الشبهة عن الصحابة رضي الله عنهم ، وعرفوا وجوب قتالهم ، فقاتلوهم ونصرهم الله عليهم ، فقتلوا من قتلوا منهم، وسبوا نساءهم وعيالهم . فمن أهم ما على المسلم اليوم : تأمل هذه القصة التي جعلها الله من حججه على خلقه إلى يوم القيامة . فمن تأمل هذه تأملاً جيداً - خصوصاً إذا عرف أن الله شهرها على ألسنة العامة ، وأجمع العلماء على تصويب أبي بكر في ذلك ، وجعلوا من أكبر فضائله ، وعلمه : أنه لم يتوقف في قتالهم ، بل قاتلهم من أول وهلة ، وعرفوا غزارة فهمه في استدلاله عليهم بالدليل الذي أشكل عليهم ، فرد عليهم بدليلهم بعينه ، مع أن المسألة موضحة في القرآن والسنة . أما القرآن ، فقوله تعالى : " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم " . وفي الصحيحين أن "رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى" . فهذا كتاب الله الصريح ، للعامي البليد ، وهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا إجماع العلماء الذين ذكرت لك . والذي يعرفك هذا جيداً : هو معرفة ضده ، وهو أن العلماء في زماننا يقولون : من قال لا إله إلا الله فهو المسلم ، حرام المال والدم ، لا يكفر ولا يقاتل ، حتى إنهم يصرحون بذلك في شأن البدو الذين يكذبون بالبعث ، وينكرون الشرائع ، ويزعمون أن شرعهم الباطل : هو حق الله ، ولو طلب أحد منهم خصمه أن يخاصمه عند شرع الله لعدوه من أنكر المنكرات ، بل من حيث الجملة : إنهم يكفرون بالقرآن من أوله إلى آخره ، ويكفرون بدين الرسول كله ، معه إقرارهم بذلك بألسنتهم ، وإقرارهم : أن شرعهم أحدثه آباؤهم لهم كفراً بشرع الله . وعلماء الوقت يعترفون بهذا كله ، ويقولون : ما فيهم من الإسلام شعرة ، وهذا القول تلقته العامة عن علمائهم ، وأنكروا به ما بينه الله ورسوله ، بل كفروا من صدق الله ورسوله في هذه المسألة ، وقالوا : من كفر مسلماً فقد كفر ، والمسلم عندهم : الذي ليس معه من الإسلام شعرة ، إلا أنه يقول بلسانه : لا إله إلا الله ، وهو أبعد الناس عن فهمها وتحقيق مطلوبها علماً وعقيدة وعملاً . فاعلم -رحمك الله- أن هذه المسألة : أهم الأشياء كلها عليك ، لأنها هي الكفر والإسلام ، فإن صدقتهم فقد كفرت بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما ذكرنا لك من القرآن والسنة والإجماع، وإن صدقت الله ورسوله عادوك وكفروك . وهذا الكفر الصريح بالقرآن والرسول في هذه المسألة : قد اشتهر في الأرض مشرقها ومغربها ، ولم يسلم منه إلا أقل القليل . فإن رجوت الجنة ، وخفت من النار : فاطلب هذه المسألة ، وادرسها من الكتاب والسنة ، وحررها . ولا تقتصر في طلبها ، لأجل شدة الحاجة إليها ، ولأنها الإسلام والكفر . وقل : اللهم ألهمني رشدي ، وفهمني عنك ، وعلمني عنك ، وأعذني من مضلات الفتن ما أحييتني |
الدعاء الذي كان يدعو به صلى الله عليه وسلم في الصلاة
وأكثر الدعاء بالدعاء الذي صح "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو به في الصلاة ، وهو : اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" . ونزيد المسألة إيضاحاً ودلائل لشدة الحاجة إليها ، فنقول : ليتفطن العاقل لقصة واحدة منها وهي أن بني حنيفة أشهر أهل الردة، وهم الذين يعرفهم العامة من أهل الردة ، وهم عند الناس أقبح أهل الردة ، وأعظمهم كفراً ، وهم -مع هذا- يشهدون : أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويؤذنون ويصلون ، ومع هذا فإن أكثرهم يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك ، لأجل الشهود الذين شهدوا مع الرجال . والذي يعرف هذا -ولا يشك فيه- يقول : من قال : لا إله إلا الله فهو المسلم ، ولو لم يكن معه من الإسلام شعرة ، بل قد تركه واستهزأ به متعمداً . فسبحان الله مقلب القلوب كيف يشاء !! كيف يجتمع في قلب من له عقل -ولو كان من أجهل الناس- أنه يعرف أن بني حنيفة كفروا ، مع أن حالهم ما ذكرنا، وأن البدو إسلام ، ولو تركوا الإسلام كله ، وأنكروه ، واستهزؤوا به على عمد ، لأنهم يقولوا : لا إله إلا الله ، لكن أشهد أن الله على كل شئ قدير ، نسأله أن يثبت قلوبنا على دينه ، ولا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، وأن يهب لنا منه رحمة ، إنه هو الوهاب . |
الدليل الثاني : قصة أخرى وقعت في زمن الخلفاء الراشدين :
وهي أن بقايا من بني حنيفة ، لما رجعوا إلى الإسلام ، وتبرأوا من مسيلمة ، وأقروا بكذبه : كبر ذنبهم عند أنفسهم ، وتحملوا بأهليهم إلى الثغر لأجل الجهاد في سبيل الله ، لعل ذلك يمحو عنهم آثار تلك الردة ، لأن الله تعالى يقول : " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " ، ويقول : " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " ، فنزلوا الكوفة ، وصار لهم بها محلة معروفة ، فيها مسجد يسمى مسجد بني حنيفة ، فمر بعض المسلمين على مسجدهم بين المغرب والعشاء ، فسمعوا منهم كلاماً معناه : أن مسيلمة كان على حق ، وهم جماعة كثيرون، ولكن الذي لم يقله لم ينكره على من قاله، فرفعوا أمرهم إلى عبد الله بن مسعود ، فجمع من عنده من الصحابة واستشارهم : هل يقتلهم وإن تابوا ، أو يستتيبهم ؟ فأشار بعضهم بقتلهم من غير استتابة . وأشار بعضهم باستتابتهم ، فاستتاب بعضهم ، وقتل بعضهم ولم يستتبه . فتأمل -رحمك الله- إذا كانوا قد أظهروا من الأعمال الصالحة الشاقة ما أظهروا ، لما تبرؤوا من الكفر وعادوا إلى الإسلام ، ولم يظهر منهم إلا كلمة أخفوها في مدح مسيلمة ، لكن سمعها بعض المسلمين . ومع هذا لم يتوقف أحد في كفرهم كلهم -المتكلم والحاضر الذي لم ينكر- ولكن اختلفوا : هل تقبل توبتهم أو لا ؟ والقصة في صحيح البخاري . فأين هذا من كلام من يزعم أنه من العلماء ويقول : البدو ما معهم من الإسلام شعرة ، إلا أنهم يقولون : لا إله إلا الله ومع ذلك يحكم بإسلامهم بذلك ؟ أين هذا مما أجمع عليه الصحابة : فيمن قال تلك الكلمة ، أو حضرها ولم ينكر ؟ سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب ربنا إني أعوذ بك أن أكون ممن قلت فيهم : " فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون " ، ولا ممن قلت فيهم : " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون |
الدليل الثالث : ما وقع في زمان الخلفاء الراشدين :
قصة أصحاب علي بن أبي طالب -لما اعتقدوا فيه الألوهية التي تعتقد اليوم في أناس مز أكفر بني آدم وأفسقهم- فدعاهم إلى التوبة فأبوا ، فخد لهم الأخاديد ، وملأها حطباً ، وأضرم فيها النار وقذفهم فيها وهم أحياء . ومعلوم أن الكافر -مثل اليهودي والنصراني- إذا أمر الله بقتله لا يجوز إحراقه بالنار ، فعلم أنهم أغلظ كفراً من اليهود والنصارى . هذا ، وهم يقومون الليل ، ويصومون النهار ، ويقرؤون القرآن ، آخذين له عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما غلوا في علي ذلك الغلو أحرقهم بالنار وهم أحياء ، وأجمع الصحابة وأهل العلم كلهم على كفرهم ، فأين هذا ممن يقول في البدو تلك المقالة ، مع اعترافه بالذه القصة وأمثالها ، واعترافه : أن البدو كفروا بالإسلام كله ، إلا أنهم يقولون لا إله إلا الله ؟ واعلم : أن جناية هؤلاء إنما هي على الألوهية ، وما علمنا فيهم جناية على النبوة ، والذين قبلهم جناياتهم على النبوة، وما علمنا لهم جناية على الألوهية ، وهذا مما يبين لك شيئاً من معنى الشهادتين اللتين هما أصل الإسلام |
الدليل الرابع : ما وقع في زمن الصحابة أيضاً :
وهي قصة المختار بن أبي عبيد الثقفي ، وهو رجل من التابعين . مصاهر لعبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن أبيه، مظهر للصلاح. فظهر في العراق يطلب بدم الحسين وأهل بيته ، فقتل ابن زياد ، ومال إليه من مال ، لطلبه دم أهل البيت ممن ظلمهم ابن زياد ، فاستولوا على العراق ، وأظهر شرائع الإسلام ، ونصب القضاة والأئمة من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه . وكان هو الذي يصلي بالناس الجمعة والجماعة ، لكن في آخر أمره : زعم أنه يوحى إليه ، فسير إليه عبد الله بن الزبير جيشاً ، فهزموا جيشه وقتلوه ، وأمير الجيش مصعب بن الزبير ، وتحته امرأة أبوها أحد الصحابة ، فدعاها مصعب إلى تكفيره فأبت ، فكتب إلى أخيه عبد الله يستفتيه فيها ، فكتب إليه : إن لم تبرأ منه فاقتلها . فامتنعت ، فقتلها مصعب . وأجمع العلماء كلهم على كفر المختار -مع إقامته شعائر الإسلام- لما جنى على النبوة . وإذا كان الصحابة قتلوا المرأة التي هي من بنات الصحابة لما امتنعت من تكفيره ، فكيف بمن لم يكفر البدو مع إقراره بحالهم ، فكيف بمن زعم أنهم هم أهل الإسلام ، ومن دعاهم إلى الإسلام هو الكافر ؟ يا ربنا نسألك العفو والعافية |
الدليل الخامس : ما وقع في زمن التابعين :
وذلك قصة الجعد بن درهم ، وكان من أشهر الناس بالعلم والعبادة ، فلما جحد شيئاً من صفات الله - مع كونها مقالة خفية عند الأكثر- ضحى به خالد بن عبد الله القشري يوم عيد الأضحى ، فقال : أيها الناس ، ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم ، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ، ولم يكلم موسى تكليماً . ثم نزل فذبحه ، ولم يعلم أن أحداً من العلماء أنكر ذلك عليه ، بل ذكر ابن القيم إجماعهم على استحسانه ، فقال : شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان فإذا كان رجل من أشهر الناس بالعلم والعبادة ، أخذ العلم عن الصحابة ، أجمعوا على استحسان قتله ، فأين هذا من اعتقاد أعداء الله في البدو ؟ |
الدليل السادس : قصة بني عبيد القداح :
فإنهم ظهروا على رأس المائة الثالثة ، فادعى عبيد الله أنه من آل علي بن أبي طالب ، من ذرية فاطمة، وتزيى بزي أهل الطاعة والجهاد في سبيل الله ، فتبعه أقوام من البربر من أهل المغرب ، وصار له دولة كبيرة في المغرب ولأولاده من بعده ، ثم ملكوا مصر والشام، وأظهروا شرائع الإسلام ، وإقامة الجمعة والجماعة ، ونصبوا القضاة والمفتين ، لكن أظهروا الشرك ومخالفة الشريعة، وظهر منهم ما يدل على نفاقهم وشدة كفرهم ، فأجمع أهل العلم : أنهم كفار وأن دارهم دار حرب ، مع إظهارهم شعائر الإسلام . وفي مصر من العلماء والعباد أناس كثير ، وأكثر أهل مصر لم يدخل معهم فيما أحدثوا من الكفر . ومع ذلك : أجمع العلماء على ما ذكرنا ، حتى إن بعض أكابر أهل العلم المعروفين بالصلاح ، قال : لو أن معي عشرة أسهم لرميت بواحد منهم النصارى المحاربين ، ورميت بالتسعة بني عبيد . ولما كان زمان السلطان محمود بن زنكي أرسل إليهم جيشاً عظيماً بقيادة صلاح الدين ، فأخذوا مصر من أيديهم ، ولم يتركوا جهادهم بمصر لأجل من فيها من الصالحين . فاما فتحها السلطان محمود فرح المسلمون بذلك أشد الفرح ، وصنف ابن الجوزي في ذلك كتابا سماه النصر على مصر . وأكثر العلماء التصنيف والكلام في كفرهم ، مع ما ذكرنا من إظهارهم شرائع الإسلام الظاهرة . فانظر ما بين هذا وبين ديننا الأول أن البدو إسلام ، مع معرفتنا بما هم عليه من البراءة من الإسلام كله ، إلا قول لا إله إلا الله ولا تظن أن أحداً منهم يكفر إلا إن انتقل يهودياً أو نصرانياً . فإن آمنت بما ذكر الله ورسوله ، وبما أجمع عليه العلماء ، وتبرأت من دين آبائك في هذه المسألة ، وقلت : آمنت بالله وبما أنزل الله ، وتبرأت مما خالفه باطناً وظاهراً ، مخلصاً لله الدين في ذلك ، وعلم الله ذلك من قلبك ، فأبشر ، ولكن اسأل الله التثبيت ، واعرف أنه مقلب القلوب |
الدليل السابع : قصة التتار :
وذلك : أنهم بعدما فعلوا بالمسلمين ما فعلوا ، وسكنوا بلاد المسلمين ، وعرفوا دين الإسلام ، استحسنوه وأسلموا ، لكن لم يعملوا بما يجب عليهم من شرائعه ، وأظهروا أشياء من الخروج عن الشريعة ، لكنهم كانوا يتلفظون بالشهادتين، ويصلون الصلوات الخمس والجمعة والجماعة ، وليسوا كالبدو ، ومع هذا كفرهم العلماء ، وقاتلوهم وغزوهم ، حتى أزالهم الله عن بلدان المسلمين . وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله . وأما من أراد الله فتنته : فلو تناطحت الجبال بين يديه لم ينفعه ذلك . ولو ذكرنا ما جرى من السلاطين والقضاة ، من قتل من أتى بأمور يكفر بها - ولو كان يظهر شعائر الإسلام - وقامت عليه البينة باستحقاقه للقتل ، مع أن في هؤلاء المقتولين من كان من أعلم الناس ، وأزهدهم وأعبدهم في الظاهر ، مثل الحلاج وأمثاله، ومن هو من الفقهاء المصنفين ، كالفقيه عمارة . فلو ذكرنا قصص هؤلاء لاحتمل مجلدات ، ولا نعرف فيهم رجلاً واحداً بلغ كفره كفر البدو الذين يقول عنهم -من يزعم إسلامهم-: إنه ليس معهم من الإسلام شعرة إلا قول لا إله إلا الله، ولكن من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . والعجب : أن الكتب التي بأيديهم ، والتي يزعمون أنهم يعرفونها ويعملون بها ، فيها مسائل الردة . وتمام العجب : أنهم يعرفون بعض ذلك ويقرون به ، ويقولون : من أنكر البعث كفر ، ومن شك فيه كفر ، ومن سب الشرع كفر ، ومن أنكر فرعاً مجمعاً عليه كفر ، كل هذا يقولونه بألسنتهم . فإذا كان من أنكر الأكل باليمين ، أو أنكر النهي عن إسبال الثياب ، أو أنكر سنة الفجر أو الوتر ، فهو كافر . ويصرحون : أن من أنكر الإسلام كله وكذب به ، واستهزأ بمن صدقه ، فهو أخوك المسلم ، حرام الدم والمال ، ما دام يقول : لا إله إلا الله ثم يكفروننا ، ويستحلون دماءنا وأموالنا ، مع أنا نقول : لا إله إلا الله، فإذا سئلوا عن ذلك ؟ قالوا : من كفر مسلماً فقد كفر . ثم لم يكفهم ذلك حتى أفتوا لمن عاهدنا بعهد الله ورسوله : أن ينقض العهد وله في ذلك ثواب عظيم ، ويفتون من عنده أمانة لنا ، أو مال يتيم : أنه يجوز له أكل أمانتنا ، ولو كانت مال يتيم ، بضاعة عنده أو وديعة ، بل يرسلون الرسائل لدهام بن دواس وأمثاله : إذا حاربوا التوحيد ونصروا عبادة الأصنام ، يقولون : أنت يا فلان قمت مقام الأنبياء . مع إقرارهم أن التوحيد - الذين ندعو إليه ، وكفروا به وصدوا الناس عنه - هو دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأن الشرك -الذي نهينا الناس عنه، ورغبوهم هم فيه ، وأمروهم بالصبر على آلهتهم- : أنه الشرك الذي نهى عنه الأنبياء ، ولكن هذه من أكبر آيات الله ، فمن لم يفهمها فليبك على نفسه ، والله سبحانه وتعالى أعلم |
نسب النبي صلى الله عليه وسلم
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان . إلى هنا معلوم الصحة . وما فوق عدنان مختلف فيه . ولا خلاف أن عدنان من ولد إسماعيل ، واسماعيل هو الذبيح على القول الصواب ، والقول بأنه إسحاق باطل . ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة عام الفيل ، وكانت وقعة الفيل تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته ، وإلا فأهل الفيل نصارى أهل كتاب ، دينهم خير من دين أهل مكة ، لأنهم عباد أوثان ، فنصرهم الله نصراً لا صنع للبشر فيه ، تقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجته قريش من مكة ، وتعظيماً للبلد الحرام . |
قصة الفيل :
وكان سبب قصة أصحاب الفيل -على ما ذكر محمد بن إسحاق - أن أبرهة بن الصباح كان عاملاً للنجاشي ملك الحبشة على اليمن ، فرأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة - شرفها الله - فبنى كنيسة بصنعاء ، وكتب إلى النجاشي : إني بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها ، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب، فسمع به رجل من بني كنانة ، فدخلها ليلاً ، فلطخ قبلتها بالعذرة ، فقال أبرهة : من الذي اجترأ على هذا ؟ قيل : رجل من أهل ذلك البيت ، سمع بالذي قلت . فحلف أبرهة ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها ، وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ، فسأله أن يبعث إليه بفيله ، وكان له فيل يقال له : محمود ، لم ير مثله عظماً وجسماً وقوة ، فبعث به إليه ، فخرج أبرهة سائراً إلى مكة ، فسمعت العرب بذلك فأعظموه ، ورأوا جهاده حقاً عليهم . فخرج ملك من ملوك اليمن ، يقال له : ذو نفر ، فقاتله ، فهزمه أبرهة وأخذه أسيراً ، فقال : أيها الملك استبقني خيراً لك . فاستحياه وأوثقه . وكان أبرهة رجلاً حليماً ، فسار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي ، ومن اجتمع إليه من قبائل العرب ، فقاتلوهم فهزمهم أبرهة ، فأخذ نفيلاً ، فقال له : أيها الملك ، إنني دليلك بأرض العرب ، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة ، فاستبقني خيراً لك . فاستبقاه ، وخرج معه يدله على الطريق . فلما مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف ، فقال له : أيها الملك ! نحن عبيدك ، ونحن نبعث معك من يدلك ، فبعثوا معه بأبي رغال مولى لهم ، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال ، وهو الذي يرجم قبره . وبعث أبرهة رجلاً من الحبشة -يقال له : الأسود بن مفصود- على مقدمة خيله وأمر بالغارة على نعم الناس ، فجمع الأسود إليه أموال الحرم ، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير . ثم بعث رجلاً من حمير إلى أهل مكة ، فقال : أبلغ شريفها أنني لم آت لقتال ، بل جئت لأهدم البيت . فانطلق ، فقال لعبد المطلب ذلك . فقال عبد المطلب : ما لنا به يدان ، سنخلي بينه وبين ما جاء له ، فإن هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم ، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه ، وإن يخلي بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به من قوة . قال : فانطلق معي إلى الملك -وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب- فأتاه ، فقال : يا ذا نفر ، هل عندك غناء فيما نزل بنا ؟ فقال : ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشياً ، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل ، فإنه لي صديق ، فأسأله أن يعظم خطرك عند الملك ، فأرسل إليه ، فقال لأبرهة : إن هذا سيد قريش يستأذن عليك، وقد جاء غير ناصب لك ، ولا مخالف لأمرك ، وأنا أحب أن تأذن له . وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً ، فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه ، وكره أن يجلس معه على سريره ، وأن يجلس تحته ، فهبط إلى البساط ، فدعاه فأجلسه معه ، فطلب منه أن يرد عليه مائتي البعير التي أصابها من ماله . فقال أبرهة لترجمانه : قل له : إنك كنت أعجبتني حين رأيتك ، ولقد زهدت فيك . قال : لم ؟ قال : جئت إلى بيت -هو دينك ودين آبائك ، وشرفكم وعصمتكم- لأهدمه ، فلم تكلمني فيه ، وتكلمني في مائتي بعير ؟ قال : أنا رب الإبل ، والبيت له رب يمنعه منك. فقال : ما كان ليمنعه مني . قال : فأنت وذاك . فأمر بإبله فردت عليه ، ثم خرج . وأخبر قريشاً الخبر ، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ، ويتحرزوا في رؤوس الجبال ، خوفاً عليهم من معرة الجيش ، ففعلوا . وأتى عبد المطلب البيت ، فأخذ بحلقة الباب ، وجعل يقول : يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهمو حماكا إن عدو البيت من عاداكا فامنعهمو أن يخربوا قراكا وقال أيضاً : لا هم إن المرء يمنع رحله وحلاله فامنع حلالك لايغلبـن صليبهــم ومحـــالهم غــــدراً محالــــك جروا جموعهم هم والفيــل كي يسبـوا عيـالك إن كنت تـاركهم وكعبتنا فأمـر مــا بــدا لــك ثم توجه في بعض تلك الوجوه مع قومه ، وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول ، وعبأ جيشه ، وهيأ فيله ، فأقبل نفيل إلى الفيل ، فأخذ بإذنه ، فقال : أبرك محمود فإنك في بلد الله الحرام . فبرك الفيل ، فبعثوه فأبى . فوجهوه إلى اليمن ، فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ففعل ذلك ، فصرفوه إلى الحرم فبرك . وخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل ، فأرسل الله طيراً من قبل البحر ، مع كل طائر ثلاثة أحجار : حجرين في رجليه وحجراً في منقاره ، فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم ، فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك ، وليس كل القوم أصابت ، فخرج البقية هاربين يسألون عن نفيل ، ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فماج بعضهم في بعض ، يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون على كل منهل . وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فجعلت تساقط أنامله ، حتى انتهى إلى صنعاء وهو مثل الفرخ ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك . رجعنا إلى سيرته صلى الله عليه وسلم |
وفاة عبد الله والد رسول الله :
قد اختلف في وفاة أبيه : هل توفي بعد ولادته أو قبلها ؟ الأكثر : على أنه توفي وهو حمل . ولا خلاف أن أمه ماتت بين مكة والمدينة بالأبواء ، منصرفها من المدينة من زيارة أخواله ، ولم يستكمل إذ ذاك ست سنين . فكفله جده عبد المطلب ، ورق عليه رقة لم يرقها على أولاده ، فكان لا يفارقه ، وما كان أحد من ولده يجلس على فراشه -إجلالاً له- إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقدم مكة قوم من بني مدلج من القافة ، فلما نظروا إليه قالوا لجده : احتفظ به ، فلم نجد قدماً أشبه بالقدم الذي في المقام من قدمه ، فقال لأبي طالب : اسمع ما يقول هؤلاء ، واحتفظ به . وتوفي جده في السنة الثامنة من مولده ، وأوصى به إلى أبي طالب ، وقيل : إنه قال له : أوصيك يا عبد مناف بعدي بمفرد بعـد أبيـه فـرد وكنت كالأم في الوجد تدنيه من أحـشـائها والكـبد فأنت من أرجى بني عندي لرفع ضيم ولشد عضد |
عبد المطلب جد رسول الله :
قال ابن إسحاق : وكان عبد المطلب من سادات قريش ، محافظاً على العهود ، متخلقاً بمكارم الأخلاق ، يحب المساكين ، ويقوم في خدمة الحجيج ، ويطعم في الأزمات ، ويقمع الظالمين ، وكان يطعم حتى الوحوش والطير في رؤوس الجبال ، وكان له أولاد أكبرهم الحارث ، توفي في حياة أبيه ، وأسلم من أولاد الحارث : عبيدة قتل ببدر ، وربيعة ، وأبو سفيان ، وعبد الله . ومنهم : الزبير بن عبد المطلب شقيق عبد الله ، وكان رئيس بني هاشم وبني المطلب في حرب الفجار ، شريفاً شاعراً ، ولم يدرك الإسلام . وأسلم من أولاده . عبد الله واستشهد بأجنادين ، وضباعة ، ومجل ، وصفية ، وعاتكة . وأسلم منهم حمزة بن عبد المطلب ، والعباس . ومنهم : أبو لهب مات عقيب بدر ، وله من الولد : عتيبة الذي دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقتله السبع . وله عتبة ، ومعتب، أسلما يوم الفتح . ومن بناته : البيضاء أم حكيم ، تزوجها كرز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس ، فولدت له عامراً وأروى، فتزوج أروى عفان بن أبي العاص بن أمية، فولدت له عثمان ، ثم خلف عليها عقبة بن أبي معيط ، فولدت له الوليد بن عقبة، وعاشت إلى خلافة ابنها عثمان ، ومنهن : برة بنت عبد المطلب ، أم أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي . ومنهن : عاتكة أم عبد الله بن أبي أمية ، وهي صاحبة المنام قبل يوم بدر ، واختلف في إسلامها . ومنهن : صفية أم الزبير بن العوام ، أسلمت وهاجرت . وأروى أم آل جحش - عبد الله وأبي أحمد ، وعبيد الله وزينب ، وحمنة . وأم عبد المطلب : هي سلمى بنت عمرو بن زيد من بني النجار ، تزوجها أبوه هاشم بن عبد مناف ، فخرج إلى الشام - وهي عند أهلها ، قد حملت بعبد المطلب- فمات بغزة . فرجع أبو رهم بن عبد العزى وأصحابه إلى المدينة بتركته . وولدت امرأته سلمى : عبد المطلب ، وسمته شيبة الحمد ، فاقام في أخواله مكرماً . فبينما هو يناضل الصبيان ، فيقول : أنا ابن هاشم ، سمعه رجل من قريش ، فقال لعمه المطلب : إني مررت بدور بني قيلة ، فرأيت غلاماً يعتزي إلى أخيك ، وما ينبغي ترك مثله في الغربة ، فرحل إلى المدينة في طلبه ، فلما رآه فاضت عيناه ، وضمه إليه ، وأنشد شعراً : عرفت شيبة والنجار قد جعلت أبناءها حوله بالنبل تنتضل عرفت أجــلاده فيـنا وشــيمتـه فـفاض مني عليه وابل هطـل فأردفه على راحلته ، فقال : يا عم ، ذلك إلى الوالدة . فجاء إلى أمه ، فسألها أن ترسل به معه ، فامتنعت . فقال لها : إنما يمضي إلى ملك أبيه ، وإلى حرم الله . فأذنت له . فقدم به مكة ، فقال الناس : هذا عبد المطلب ، فقال : ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم . فأقام عنده حتى ترعرع ، فسلم إليه ملك هاشم من أمر البيت ، والرفادة، والسقاية ، وأمر الحجيج ، وغير ذلك . وكان المطلب شريفاً مطاعاً جواداً ، وكانت قريش تسميه الفياض لسخائه ، وهو الذي عقد الحلف بين قريش وبين النجاشي ، وله من الولد : الحارث ، ومخرمة ، وعباد ، وأنيس ، وأبو عمر ، وأبو رهم ، وغيرهم . ولما مات وثب نوفل بن عبد مناف على أركاح شيبة ، فغصبه إياها ، فسأل رجالاً من قريش النصرة على عمه ، فقالوا : لا ندخل بينك وبين عمك . فكتب إلى أخواله من بني النجار أبياتاً ، منها : يا طــول ليلـي لأحزاني وأشغــالي هل من رسول إلى النجار أخوالي بنـــي عــــدي ودينـــار ومازنـــها ومالك عصمة الحيران عن حـــالي قد كنت فيهم وما أخشى ظلامة ذي ظلم عزيزاً منيــــعاً ناعــم البـــال حتى ارتحلت إلى قومي وأزعجني لــذاك مطلب عمــي بترحـــــالـــي فغاب مطـلـب في قعـر مظــلـمـة ثم انبــرى نوفــل يعـدو على مـــالي لــمــا رأى رجـــلاً غابت عمــومــته وغاب أخـــواـله عنـه بلا والــــي فاستنفروا وامنعـوا ضيم ابن أختكم لا تخـــذلوه فمـــا أنتم بخــذالي فلما وقف خاله أبو سعد بن عدي بن النجار على كتابه بكى ، وسار من المدينة في ثمانين راكباً ، حتى قدم مكة. فنزل بالأبطح، فتلقاه عبد المطلب ، وقال : المنزل يا خال ، فقال : لا والله حتى ألقى نوفلاً ، فقال : تركته بالحجر جالساً في مشايخ قومه ، فأقبل أبو سعد حتى وقف عليهم ، فقام نوفل قائماً ، فقال : يا أبا سعد ، أنعم صباحاً . فقال : لا أنعم الله لك صباحاً ، وسل سيفه ، وقال : ورب هذا البيت ، لئن لم ترد على ابن أختي أركاحه لأمكنن منك هذا السيف . فقال : رددتها عليه . فأشهد عليه مشايخ قريش . ثم نزل على شيبة ، فأقام عنده ثلاثاً ، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة ، فقال عبد المطلب : ويأبى مازن وأبـو عدي ودينـــار بن تيــم الله ضيــمــي بهم رد الإله علي ركحي وكانوا في انتساب دون قومي فلما جرى ذلك حالف نوفل بني عبد شمس بن عبد مناف على بني هاشم ، وحالفت بنو هاشم خزاعة على بني عبد شمس ونوفل، فكان ذلك سبباً لفتح مكة ، كما سيأتي . فلما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب ، قالوا : نحن ولدناه كما ولدتموه ، فنحن أحق بنصره، وذلك أن أم عبد مناف منهم. فدخلوا دار الندوة وتحالفوا وكتبوا بينهم كتاباً |
عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وأما عبد الله ، والد النبي صلى الله عليه وسلم : فهو الذبيح . وسبب ذلك : أن عبد المطلب أمر في المنام بحفر زمزم ، ووصف له موضعها . وكانت جرهم قد غلبت آل إسماعيل على مكة ، وملكوها زماناً طويلاً ، ثم أفسدوا في حرم الله . فوقع بينهم وبين خزاعة حرب ، وخزاعة من قبائل اليمن ، من أهل سبأ، ولم يدخل بينهم بنو إسماعيل . فغلبتهم خزاعة ، ونفت جرهماً من مكة ، وكانت جرهم قد دفنت الحجر الأسود ، والمقام وبئر زمزم . وظهر بعد ذلك قصي بن كلاب على مكة ، ورجع إليه ميراث قريش ، فأنزل بعضهم داخل مكة - وهم قريش الأباطح - وبعضهم خارجها - وهم قريش الظواهر - فبقيت زمزم مدفونة إلى عصر عبد المطلب . فرأى في المنام موضعها ، فقام يحفر ، فوجد فيها سيوفاً مدفونة وحلياً، وغزالاً من ذهب مشنفاً بالدر. فعلقه عبد المطلب على الكعبة ، وليس مع عبد المطلب إلا ولده الحارث ، فنازعته قريش ، وقالوا له : أشركنا ، فقال : ما أنا بفاعل ، هذا أمر خصصت به ، فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه . فنذر حينئذ عبد المطلب : لئن آتاه الله عشرة أولاد ، وبلغوا أن يمنعوه : لينحرن أحدهم عند الكعبة ، فلما تموا عشرة، وعرف أنهم يمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه . وكتب كل منهم اسمه في قدح ، وأعطوها القداح قيم هبل -وكان الذي يجيل القداح- فخرج القدح على عبد الله ، وأخذ عبد المطلب المدية ليذبحه . فقامت إليه قريش من ناديها فمنعوه . فقال : كيف أصنع بنذري ؟ فأشاروا عليه : أن ينحر مكانه عشراً من الإبل . فأقرع بين عبد الله وبينها ، فوقعت القرعة عليه ، فاغتم عبد المطلب ، ثم لم يزل يزيد عشراً عشراً ، ولا تقع القرعة إلا عليه ، إلى أن بلغ مائة . فوقعت القرعة على الإبل ، فنحرت عنه ، فجرت سنة . وروي "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أنا ابن الذبيحين" ، يعني : إسماعيل عليه السلام وأباه عبد الله . ثم ترك عبد المطلب الإبل لا يرد عنها إنساناً ولا سبعاً ، فجرت الدية في قريش والعرب مائة من الإبل ، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام . وقالت صفية بنت عبد المطلب : نحن حفرنا للحجيج زمزم سقيا الخليل وابنه المكرم جبريـل الذي لـم يذمم شفاء سقم وطعام مطعم |
أبو طالب عم رسول الله :
وأما أبو طالب : فهو الذي تولى تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد جده كما تقدم ، ورق عليه رقة شديدة ، وكان يقدمه على أولاده . قال الواقدي : قام أبو طالب -من سنة ثمان من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة العاشرة من النبوة ثلا وأربعين- يحوطه ويقوم بأمره ، ويذب عنه ، ويلطف به . وقال أبو محمد بن قدامة : كان يقر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وله في ذلك أشعار . منها : ألا أبلغا عني على ذات بيننا لؤياً وخصا من لوي بني كعـب بأنا وجدنا في الكتاب محمداً نبياً كموسى خط في أول الكتب وأن عليه في العباد محبة ولا خير ممن خصه الله بالحـب ومنها : تعلم خيار الناس أن محمداً وزيراً لموسى والمسيح ابن مريم فلا تجعلوا لله نداً وأسلموا فإن طريق الحق ليس بمظلم ولكنه أبى أن يدين بذلك خشية العار ، ولما حضرته الوفاة : دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم -وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية- فقال : يا عم ! قل : لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل صلى الله عليه وسلم يرددها عليه ، وهما يرددان عليه حتى كان آخر كلمة قالها : هو على ملة عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله تعالى : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " ، ونزل قوله تعالى : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " الآية . قد ابن إسحاق : وقد رثاه ولده علي بأبيات ، منها : أرقت لطير آخر الليل غردا يـذكرني شجـواً عظــيماً مجددا أبا طالب مأوى الصعاليك ذا الندى جواداً إذا ما أصدر الأمر أوردا فأمست قريش يفرحون بمـــوته ولســـت أرى حياً يكون مخلداً أزادوا أموراً زيفتها حلومهم ستوردهم يوماً من الغي موردا يرجـون تكذيب النبي وقتله وأن يفترى قدماً عليه ويجحدا كذبتم وبيت الله حتى نذيقكم صدور العوالي والحسام المهندا خلف أبو طالب أربعة ذكور وابنتين . فالذكور : طالب ، وعقيل ، وجعفر ، وعلي ، وبين كل واحد عشر سنين . فطالب أسنهم ، ثم عقيل ، ثم جعفر ، ثم علي . فأما طالب : فأخرجه المشركون يوم بدر كرهاً ، فلما انهزم الكفار طلب ، فلم يوجد في القتلى ، ولا في الأسرى ، ولا رجع إلى مكة ، وليس له عقب . وأما عقيل : فأسر ذلك اليوم ، ولم يكن له مال . ففداه عمه العباس ، ثم رجع إلى مكة . فأقام بها إلى السنة الثامنة ، ثم هاجر إلى المدينة . فشهد مؤتة مع أخيه جعفر ، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : "وهل ترك لنا عقيل من منزل" . واستمرت كفالة أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - كما ذكرنا - . فلما بلغ اثنتي عشرة سنة -وقيل : تسعاً- خرج به أبو طالب إلى الشام في تجارة ، فرآه بحيرى الراهب ، وأمر عمه أن لا يقدم به الشام ، خوفاً عليه من اليهود ، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى المدينة . ووقع في الترمذي : إنه بعث معه بلالاً ، وهو غلط واضح . فإن بلالاً إذ ذاك لعله لم يكن موجوداً |
خروجه إلى الشام وزواجه خديجة :
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة : خرج إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله عنها ، ومعه ميسرة غلامها ، فوصل بصرا . ثم رجع فتزوج عقب رجوعه خديجة بنت خويلد . وهي أول امرأة تزوجها ، وأول امرأة ماتت من نسائه ، ولم ينكح عليها غيرها . وأمره جبريل : "أن يقرأ عليها السلام من ربها ويبشرها ببيت في الجنة من قصب |
تحنثه في غار حراء :
ثم حبب إليه الخلاء ، والتعبد لربه ، فكان يخلو بغار حراء يتعبد فيه . وبغضت إليه الأوثان ودين قومه ، فلم يكن شئ أبغض إليه من ذلك . وأنبته الله نباتاً حسناً ، حتى كان أفضل قومه مروءة ، وأحسنهم خلقاً ، وأعزهم جواراً ، وأعظمهم حلماً ، وأصدقهم حديثاً ، وأحفظهم لأمانة . حتى سماه قومه الأمين لما جمع الله فيه من الأحوال الصالحة ، والخصال الكريمة المرضية . |
بناء الكعبة :
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة : قامت قريش في بناء الكعبة حين تضعضعت . قال أهل السير : كان أمر البيت -بعد إسماعيل عليه السلام- إلى ولده . ثم غلبت جرهم عليه ، فلم يزل في أيديهم حتى استحلوا حرمته ، وأكلوا ما يهدى إليه ، وظلموا من دخل مكة ، ثم وليت خزاعة البيت بعدهم ، إلا أنه كان إلى قبائل مضر ثلاث خلال : الإجازة بالناس من عرفة يوم الحج إلى مزدلفة ، تجيزهم صوفة . والثانية : الإفاضة من جمع ، غداة النحر إلى منى . وكان ذلك إلى يزيد بن عدوان ، وكان آخر من ولي ذلك منهم أبو سيارة . والثالثة : إنساء الأشهر الحرم . وكان إلى رجل من بني كنانة يقال له حذيفة ، ثم صار إلى جنادة بن عوف . قال ابن إسحاق : ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة ، جمعت قريش لبنيان الكعبة ، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ، ويهابون هدمها ، وإنما كانت رضماً فوق القامة . فأرادوا رفعها وتسقيفها . وذلك أن قوماً سرقوا كنز الكعبة ، وكان في بئر في جوف الكعبة ، وكان البحر قد رمى سفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم ، فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها . وكان بمكة رجل قبطي نجار ، فهيأ لهم بعض ما كان يصلحها ، وكانت حية تخرج على بئر الكعبة التي كان يطرح فيه ما يهدى لها كل يوم ، فتتشرق على جدار الكعبة ، وكانت مما يهابون ، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا أحزألت وكشت وفتحت فاها . فبينما هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة ، بعث الله إليها طائراً فاختطفها ، فذهب بها . فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا ، عندنا عامل رفيق ، وعندنا خشب ، وقد كفانا الله الحية . فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها . قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ المخزومي فتناول من الكعبة حجراً ، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه ، فقال : يا معشر قريش ! لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيباً ، لا يدخل فيها مهر بغي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس . ثم إن قريشاً تجزأت الكعبة . فكان شق الباب : لبني عبد مناف وزهرة . وما بين الركن الأسود واليماني : لبني مخزوم ، وقبائل من قريش انضافت إليهم . وكان ظهر الكعبة : لبني جمح وبني سهم . وكان شق الحجر : لبني عبد الدار ، ولبني أسد بن عبد العزى ، ولبني عدي ، وهو الحطيم . ثم إن الناس هابوا هدمها ، فقال الوليد بني المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها ، فأخذ المعول ، ثم قام عليها ، وهو يقول : اللهم لا ترع -أو : لم نزغ- اللهم إنا لا نريد إلا الخير . ثم هدم من ناحية الركنين . فترتبص الناس تلك الليلة ، وقالوا : إن أصيب ، لم نهدم منها شيئاً ، ورددناها كما كانت ، وإلا فقد رضي الله ما صنعنا ، فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله ، فهدم وهدم الناس معه. حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس -أساس إبراهيم عليه السلام- أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة ، آخذ بعضها بعضاً ، فأدخل بعضهم عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما . فلما تحرك الحجر : انتفضت مكة بأسرها ، فانتهوا عند ذلك الأساس . ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة . ثم بنوها ، حتى بلغ البنيان موضع الحجر الأسود . فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه ، حتى تحاوروا وتحالفوا ، وأعدوا للقتال ، فقربت بنو عبد الدار جفنة ، مملوءة دماً . تعاهدوا -هم وبنو عدي بن كعب- على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم . فسموا لعقة الدم ، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال ، أو خمساً . ثم إنهم اجتمعوا في المسجد ، فتشاوروا وتناصفوا . فزعم بعض أهل الرواية : أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي -وكان يومئذ أسن قريش كلهم- قال : اجعلوا بينكم أول من يدخل من باب المسجد . ففعلوا ، فكان أول من دخل : رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما رأوه ، قالوا :هذا الأمين ، رضينا به ، هذا محمد ، فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر. فقال صلى الله عليه وسلم : هلم إلي ثوباً ، فأتي به . فأخذ الركن فوضعه فيه بيده . ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوا جميعاً ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه : وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ، ثم بنى عليه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة . وكانوا يرفعون أزرههم على عواتقهم . ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبط به -أي طاح على وجهه- ونودي : استر عورتك، فما رؤيت له عورة بعد ذلك . فلما بلغوا خمسة عشر ذراعاً سقفوه على ستة أعمدة . وكان البيت يكسى القباطي . ثم كسي البرود . وأول من كساه الديباج : الحجاج بن يوسف . وأخرجت قريش الحجر لقلة نفقتهم ، ورفعوا بابها عن الأرض ، لئلا يدخلها إلا من أرادوا . وكانوا إذا أرادوا أن لا يدخلها أحد لا يريدون دخوله : تركوه حتى يبلغ الباب ، ثم يرمونه . فلما بلغ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة : بعثه الله بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه سراجاً منيراً |
بعض ما كان عليه أهل الجاهلية :
ونذكر قبل ذلك شيئاً من أمور الجاهلية ، وما كانت عليه قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال قتادة : ذكر لنا : أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون . كلهم على الهدى ، وعلى شريعة من الحق ، ثم اختلفوا بعد ذلك . فبعث الله نوحاً عليه السلام . وكان أول رسول إلى أهل الأرض . قال ابن عباس : في قوله تعالى : " كان الناس أمة واحدة " ، قال : على الإسلام كلهم . وكان أول ما كاد به الشيطان : هو تعظيم الصالحين . وذكر الله ذلك في كتابه في قوله : " وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا " . قال ابن عباس : كان هؤلاء قوماً صالحين . فلما ماتوا في شهر ، جزع عليهم أقاربهم . فصوروا صورهم . وفي غير حديثه : قال أصحابهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة، قال : فكان الرجل يأتي أخاه وابن عمه فيعظمه ، حتى ذهب ذلك القرن ، ثم جاء قرن آخر ، فعظموهم أشد من الأول ، ثم جاء القرن الثالث ، فقالوا : ما عظم أولونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله ، فعبدوهم ، فلما بعث الله إليهم نوحاً -وغرق من غرق- أهبط الماء هذه الأصنام من أرض إلى أرض ، حتى قذفها إلى أرض جدة . فلما نضب الماء بقيت على الشط ، فسفت الريح عليها التراب ، حتى وارتها |
عمرو بن لحي أول من غير دين إبراهيم :
وكان عمرو بن لحي سيد خزاعة كاهناً وله رئي من الجن فأتاه ، فقال : عجل السير والظعن من تهامة ، بالسعد والسلامة ، ائت جدة ، تجد أصناماً معدة ، فأوردها تهامة ولا تهب ، وادع العرب إلى عبادتها تجب، فأتى جدة فاستشارها ، ثم حملها حتى أوردها تهامة . وحضر الحج ، فدعا العرب إلى عبادتها . فأجابه عوف بن عذرة ، فدفع إليه وداً فحمله . فكان بوادي القرى بدومة الجندل . وسمى ابنه : عبد ود ، فهو أول من سمى به . فلم يزل بنوه يسدنونه ، حتى جاء الإسلام . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد لهدمه ، فحالت بينه وبينه بنو عذرة ، وبنو عامر ، فقاتلهم فقتلهم ، ثم هدمه وجعله جذاذاً . وأجابت عمرو بن لحي مضر بن نزار ، فدفع إلى رجل من هذيل سواعاً ، فكان بأرض يقال لها : وهاط ، من بطن نخلة ، يعبده من يليه من مضر . وفي ذلك قيل : تراهم حول قبلتهم عكوفاً كما عكفت هذيل على سواع وأجابته مذحج . فدفع إلى نعيم بن عمر المرادي يغوث ، وكان بأكمة باليمن تعبده مذحج ومن والاها . وأجابته همدان فدفع إليهم يعوق ، فكان بقرية يقال لها خيوان تعبده همدان ومن والاها من اليمن . وأجابته حمير ، فدفع إليهم نسراً ، فكان بموضع بسبأ، تعبده حمير ومن والاها . فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فكسرها . وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجز قصبه في النار . فكان أول من سيب السوائب"، وفي لفظ : " غير دين إبراهيم "، وفي لفظ عن أبي إسحاق : " فكان أول من غير دين إبراهيم ، ونصب الأوثان " . وكان أهل الجاهلية على ذلك ، فيهم بقايا من دين إبراهيم ، مثل تعظيم البيت ، والطواف به ، والحج والعمرة ، والوقوف بعرفة ومزدلفة ، وإهداء البدن. وكانت نزار تقول في إهلالها :" لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك " ، فأنزل الله : " ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون" |
الساعة الآن 11:23 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
][ ملاحظة: جميع المشاركات تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تمثل راي ادارة المنتدى بالضرورة، نأمل من الجميع الالتزام بقوانين الحوار المحترم ][