![]() |
فصل في صفة صلاته وخشوعه
فصل وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة ، طأطأ رأسه ، ذكره الإمام أحمد رحمه الله ، وكان في التشهد لا يجاوز بصره إشارته ، وقد تقدم . وكان قد جعل الله قرة عينه ونعيمه وسروره وروحه في الصلاة . وكان يقول : " يا بلال أرحنا بالصلاة " . وكان يقول : " وجعلت قرة عيني في الصلاة " . ومع هذا لم يكن يشغله ما هو فيه من ذلك عن مراعاة أحوال المأمومين وغيرهم مع كمال إقباله وقربه من الله تعالى وحضور قلبه بين يديه واجتماعه عليه . وكان يدخل في الصلاة وهو يريد إطالتها ، فيسمع بكاء الصبي ، فيخففها مخافة أن يشق على أمه ، وأرسل مرة فارساً طليعة له ، فقام يصلي ، وجعل يلتفت إلى الشعب الذي يجيء منه الفارس ، ولم يشغله ما هو فيه عن مراعاة حال فارسه . وكذلك كان يصلي الفرض وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع ابنة بنته زينب على عاتقه ، إذا قام ، حملها ، وإذا ركع وسجد ، وضعها . وكان يصلي فيجيء الحسن أو الحسين فيركب ظهره ، فيطيل السجدة كراهية أن يلقيه عن ظهره . وكان يصلي ، فتجيء عائشة من حاجتها والباب مغلق ، فيمشي ، فيفتح لها الباب ، ثم يرجع إلى الصلاة . وكان يرد السلام بالإشارة على من يسلم عليه وهو في الصلاة . وقال جابر : بعثني رسول الله لحاجة ، ثم أدركته وهو يصلي ، فسلمت عليه ، فأشار إلي . ذكره مسلم في صحيحه . وقال أنس رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير في الصلاة ، ذكره الإمام أحمد رحمه الله . وقال صهيب : مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، فسلمت عليه ، فرد إشارة ، قال الراوي : لا أعلمه ، قا ل : إلا إشارة بأصبعه ، وهو في السنن و المسند . وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " خرح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه ، قال : فجاءته الأنصار ، فسلموا عليه وهو في الصلاة ، فقلت لبلال : كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي ؟ قال : يقول : هكذا ، وبسط جعفر بن عون كفه ، وجعل بطنه أسفل ، وجعل ظهره إلى فوق "، وهو في السنن و المسند وصححه الترمذي ، ولفظه: كان يشير بيده . وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لما قدمت من الحبشة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، فسلمت عليه ، فأومأ برأسه ، ذكره البيهقي . وأما حديث أبي غطفان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه ، فليعد صلاته " فحديث باطل ، ذكره الدارقطني وقال : قال لنا ابن أبي داود : أبو غطفان هذا رجل مجهول ، والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يشير في صلاته . رواه أنس وجابر وغيرهما . وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة ، فإذا سجد ، غمزها بيده ، فقبضت رجليها ، وإذا قام بسطتهما . وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ، فجاءه الشيطان ليقطع عليه صلاته ، فأخذه ، فخنقه حتى سال لعابه على يده . وكان يصلي على المنبر ويركع عليه ، فإذا جاءت السجدة ، نزل القهقرى ، فسجد على الأرض ثم صعد عليه . وكان يصلي إلى جدار ، فجاءت بهمة تمر من بين يديه ، فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار ، ومرت من ورائه . يدارئها : يفاعلها من المدارأة وهي المدافعة . وكان يصلي ، فجاءته جاريتان من بني عبد المطلب قد اقتتلتا ، فأخذهما بيديه ، فنزع إحداهما من الأخرى وهو في الصلاة . ولفظ أحمد فيه : فأخذتا بركبتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزع بينهما ، أو فرق بينهما ، ولم ينصرف . وكان يصلي ، فمر بين يديه غلام ، فقال بيده هكذا ، فرجع ، ومرت بين يديه جارية فقال بيده هكذا ، فمضت ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هن أغلب " ذكره الإمام أحمد ، وهو في السنن . وكان ينفخ في صلاته ، ذكره الإمام أحمد ، وهو في السنن . وأما حديث النفخ في الصلاة كلام فلا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما رواه سعيد في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله إن صح . وكان يبكي في صلاته ، وكان يتنحنح في صلاته ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة آتيه فيها ، فإذا أتيته استأذنت ، فإن وجدته يصلي فتنحنح ، دخلت ، وإن وجدته فارغاً ، أذن لي ، ذكره النسائي وأحمد ، ولفظ أحمد : كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان بالليل والنهار ، وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي ، تنحنح . رواه أحمد ، وعمل به ، فكان يتنحنح في صلاته ولا يرى النحنحة مبطلة للصلاة . وكان يصلي تارة ، ومنتعلاً أخرى ، كذلك قال عبد الله بن عمرو عنه : وأمر بالصلاة بالنعل مخالفة لليهود . وكان يصلي في الثوب الواحد تارة ، وفي الثوبين تارة ، وهو أكثر . وقنت في الفجر بعد الركوع شهراً ، ثم ترك القنوت . ولم يكن من هديه القنوت فيها دائماً ، ومن المحال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في كل غداة بعد اعتداله من الركوع يقول : " اللهم اهدني فيمن هديت ، وتولني فيمن توليت .... " ويرفع بذلك صوته ، ويؤمن عليه أصحابه دائماً إلى أن فارق الدنيا ، ثم لا يكون ذلك معلوماً عند الأمة ، بل يضيعه أكثر أمته ، وجمهورأصحابه ، بل كلهم ، حتى يقول من يقول منهم : إنه محدث ، كما قال سعد بن طارق الأشجعي : قلت لأبي : يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، رضي الله عنهم ها هنا ، وبالكوفة منذ خمس سنين ، فكانوا يقنتون في الفجر ؟ فقال : أي بني محدث . رواه أهل السنن وأحمد . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح . وذكر الدارقطني عن سعيد بن جبير قال : أشهد أني سمعت ابن عباس يقول : إن القنوت في صلاة الفجر بدعة ، وذكر البيهقى عن أبي مجلز قال : صليت مع ابن عمر صلاة الصبح ، فلم يقنت ، فقلت له . لا أراك تقنت ، فقال : لا أحفظه عن أحد من أصحابنا . ومن المعلوم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان يقنت كل غداة ، ويدعو بهذا الدعاء ، ويؤمن الصحابة ، لكان نقل الأمة لذلك كلهم كنقلهم لجهره بالقراءة فيها وعددها ووقتها ، وإن جازعليهم تضييع ذلك، ولا فرق ، وبهذا الطريق علمنا أنه لم يكن هديه الجهر بالبسملة كل يوم وليلة خمس مرات دائماً مستمراً ثم يضيع أكثر الأمة ذلك ، ويخفى عليها ، وهذا من أمحل المحال . بل لو كان ذلك واقعاً ، لكان نقله كنقل عدد الصلوات ، وعدد الركعات ، والجهر والإخفات ، وعدد السجدات ، ومواضع الأركان وترتيبها ، والله الموفق . والإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف ، أنه صلى الله عليه وسلم جهر ، وأسر ، وقنت ، وترك ، وكان إسراره أكثر من جهره ، وتركه القنوت أكثر من فعله ، فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم ، وللدعاء على آخرين ، ثم تركه لما قدم من دعا لهم ، وتخلصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم وجاؤوا تائبين ، فكان قنوته لعارض ، فلما زال ترك القنوت ، ولم يختص بالفجر ، بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب ، ذكره البخاري في صحيحه عن أنس . وقد ذكره مسلم عن البراء . وذكر الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً ، في الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، والصبح في دبر كل صلاة إذا قال : سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة ، يدعو على حي من بني سليم على رعل وذكوان وعصية ، ويؤمن من خلفه ، ورواه أبو داود . وكان هديه صلى الله عليه وسلم القنوت في النوازل خاصة ، وتركه عند عدمها ، ولم يكن يخصه بالفجر ، بل كان أكثر قنوته فيها لأجل ما شرع فيها من التطويل ، ولاتصالها بصلاة الليل ، وقربها من السحر ، وساعة الإجابة ، وللتنزل الإلهي ، ولأنها الصلاة المشهودة التي يشهدها الله وملائكته ، أو ملائكة الليل والنهار ، كما روي هذا ، وهذا ، في تفسير قوله تعالى : " إن قرآن الفجر كان مشهودا " ( الإسراء : 78) . وأما حديث ابن أبي فديك ، عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح في الركعة الثانية ، يرفع يديه فيها ، فيدعو بهذا الدعاء : " اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، إنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت " فما أبين الاحتجاج به لو كان صحيحاً أو حسناً ، ولكن لا يحتج بعبد الله هذا وإن كان الحاكم صحح حديثه في القنوت عن أحمد بن عبد الله المزني : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن أبي فديك .. فذكره . نعم صح عن أبي هريرة أنه قال : والله لأنا أقربكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعدما يقول : سمع الله لمن حمده ، فيدعو للمؤمنين ، ويلعن الكفار . >>>يتبع |
ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، ثم تركه ، فأحب أبو هريرة أن يعلمهم أن مثل هذا القنوت سنة ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله ، وهذا رد على أهل الكوفة الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقاً عند النوازل وغيرها ، ويقولون : هو منسوخ ، وفعله بدعة ، فأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه عند النوازل وغيرها ، وهم أسعد بالحديث من الطائفتين ، فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتركونه حيث تركه ، فيقتدون به في فعله وتركه ، ويقولون : فعله سنة ، وتركه سنة ، ومع هذا فلا ينكرون على من داوم عليه ، ولا يكرهون فعله ، ولا يرونه بدعة ، ولا فاعله مخالفاً للسنة ، كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل ، ولا يرون تركه بدعة ، ولا تاركه مخالفاً للسنة ، بل من قنت ، فقد أحسن ، ومن تركه فقد أحسن ، وركن الاعتدال محل الدعاء والثناء ، وقد جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم فيه ، ودعاء القنوت دعاء وثناء ، فهو أولى بهذا المحل ، وإذا جهر به الإمام أحياناً ليعلم المأمومين ، فلا بأس بذلك ، فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المأمومين ، وجهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنة ، ومن هذا أيضاً جهر الإمام بالتأمين ، وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله ، ولا من تركه ، وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه ، وكالخلاف في أنواع التشهدات ، وأنواع الأذان والإقامة ، وأنواع النسك من الإفراد والقران والتمتع ، وليس مقصودنا إلا ذكر هديه صلى الله عليه وسلم ، الذي كان يفعله هو ، فإنه قبلة القصد ، وإليه التوجه في هذا الكتاب ، وعليه مدار التفتيش والطلب ، وهذا شئ ، والجائز الذي لا ينكر فعله وتركه شئ ، فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز ولما لا يجوز ، وإنما مقصودنا فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يختاره لنفسه ، فإنه أكمل الهدي وأفضله ، فإذا قلنا : لم يكن من هديه المداومة على القنوت في الفجر ، ولا الجهر بالبسملة ، لم يدل ذلك على كراهية غيره ، ولا أنه بدعة ، ولكن هديه صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي وأفضله ، والله المستعان .
وأما حديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس ، عن أنس قال : ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وهو في المسند والترمذي وغيرهما ، فأبو جعفر قد ضعفه أحمد وغيره . وقال ابن المديني : كان يخلط . وقال أبو زرعة : كان يهم كثيراً . وقال ابن حبان : كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير . وقال لي شيخنا ابن تيمية قدس الله روحه : وهذا الإسناد نفسه هو إسناد حديث " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم " ( الأعراف : 172) . حديث أبي بن كعب الطويل ، وفيه : وكان روح عيسى عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق في زمن آدم ، فأرسل تلك الروح إلى مريم عليها السلام حين انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً ، فأرسله الله في صورة بشر فتمثل لها بشراً سوياً ، قال : فحملت الذي يخاطبها ، فدخل من فيها ، وهذا غلط محض ، فإن الذي أرسل إليها الملك الذي قال لها ، " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " ( مريم :19) ولم يكن الذي خاطبها بهذا هو عيسى ابن مريم ، هذا محال . والمقصود أن أبا جعفر الرازي صاحب مناكير ، لا يحتج بما تفرد به أحد من أهل الحديث البتة ، ولو صح ، لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة ، فإنه ليس فيه أن القنوت هذا الدعاء ، فإن القنوت يطلق على القيام ، والسكوت ، ودوام العبادة ، والدعاء ، والتسبيح ، والخشوع ، كما قال تعالى : " وله من في السماوات والأرض كل له قانتون " ( الروم : 26) ، وقال تعالى : " أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " ( الزمر : 9) ، وقال تعالى : " وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين " ( التحريم : 12) ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصلاة طول القنوت " . وقال زيد بن أرقم : لما نزل قوله تعالى : " وقوموا لله قانتين " ( البقرة : 238) أمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام . وأنس رضي الله عنه لم يقل : لم يزل يقنت بعد الركوع رافعاً صوته " اللهم اهدني فيمن هديت ..." إلى آخره ويؤمن من خلفه ، ولا ريب أن قوله : ربنا ولك الحمد ، ملء السماوات ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شئ بعد ، أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد ... إلى آخر الدعاء والثناء الذي كان يقوله ، قنوت ، وتطويل هذا الركن قنوت ، وتطويل القراءة قنوت ، وهذا الدعاء المعين قنوت ، فمن أين لكم أن أنساً إنما أراد هذا الدعاء المعين دون سائر أقسام القنوت ؟! ولا يقال : تخصيصه القنوت بالفجر دون غيرها من الصلوات دليل على إرادة الدعاء المعين ، إذ سائر ما ذكرتم من أقسام القنوت مشترك بين الفجر وغيرها ، وأنس خص الفجر دون سائر الصلوات بالقنوت ، ولا يمكن أن يقال : إنه الدعاء على الكفار ، ولا الدعاء للسمتضعفين من المؤمنين ، لأن أنساً قد أخبر أنه كان قنت شهراً ثم تركه ، فتعين أن يكون هذا الدعاء الذي داوم عليه هو القنوت المعروف ، وقد قنت أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلى ، والبراء بن عازب ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن عباس ، وأبو موسى الأشعري ، وأنس بن مالك وغيرهم . والجواب من وجوه . أحدها : أن أنساً قد أخبر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الفجر والمغرب كما ذكره البخاري ، فلم يخصص القنوت بالفجر ، وكذلك ذكر البراء بن عازب سواء ، فما بال القنوت اختص بالفجر ؟! فإن قلتم : قنوت المغرب منسوخ ، قال لكم منازعوكم من أهل الكوفة : وكذلك قنوت الفجر سواء ، ولا تأتون بحجة على نسخ قنوت المغرب إلا كانت دليلاً على نسخ قنوت الفجر سواء ، ولا يمكنكم أبداً أن تقيموا دليلاً على نسخ قنوت المغرب وإحكام قنوت الفجر . فإن قلتم : قنوت المغرب كان قنوتاً للنوازل ، لا قنوتاً راتباً ، قال منازعوكم من أهل الحديث : نعم كذلك هو ، وكذلك قنوت الفجر سواء ، وما الفرق ؟ قالوا : ويدل على أن قنوت الفجر كان قنوت نازلة ، لا قنوتاً راتباً أن أنساً نفسه أخبر بذلك ، وعمدتكم في القنوت الراتب إنما هو أنس ، وأنس أخبر أنه كان قنوت نازلة ثم تركه ، ففي الصحيحين عن أنس قال : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . شهراً يدعو على حي من أحياء العرب ، ثم تركه . الثاني : أن شبابة روى عن قيس بن الربيع ، عن عاصم بن سليمان قال : قلنا لأنس بن مالك : إن قوماً يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت بالفجر ، قال : كذبوا ، وإنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً واحداً يدعو على حي من أحياء العرب ، وقيس بن الربيع وإن كان يحيى بن معين ضعفه ، فقد وثقه غيره ، وليس بدون أبي جعفر الرازي ، فكيف يكون أبو جعفر حجة في قوله : لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا . وقيس ليس بحجة في هذا الحديث ، وهو أوثق منه أو مثله ، والذين ضعفوا أبا جعفر أكثر من الذين ضعفوا قيساً ، فإنما يعرف تضعيف قيس عن يحيى ، وذكر سبب تضعيفه ، فقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم : سألت يحيى عن قيس بن الربيع ، فقال : ضعيف لا يكتب حديثه ، كان يحدث بالحديث عن عبيدة ، وهو عنده عن منصور ، ومثل هذا لا يوجب رد حديث الراوي ، لأن غاية ذلك أن يكون غلط ووهم في ذكر عبيدة بدل منصور ، ومن الذي يسلم من هذا من المحدثين ؟ الثالث : أن أنساً أخبر أنهم لم يكونوا يقنتون ، وأن بدء القنوت هو قنوت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على رعل وذكوان ، ففي الصحيحين من حديث عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً لحاجة يقال لهم : القراء ، فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال له : بئر معونة ، فقال القوم : والله ما إياكم أردنا ، وإنما نحن مجتازون في حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتلوهم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شهراً في صلاة الغداة ، فذلك بدء القنوت ، وما كنا نقنت . فهذا يدل على أنه لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم القنوت دائماً ، وقول أنس : فذلك بدء القنوت ، مع قوله : قنت شهراً ، ثم تركه ، دليل على أنه أراد بما أثبته من القنوت قنوت النوازل ، وهو الذي وقته بشهر ، وهذا كما قنت في صلاة العتمة شهراً ، كما في الصحيحين عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة العتمة شهراً يقول في قنوته : " اللهم أنج الوليد بن الوليد ، اللهم أنج سلمة بن هشام ، اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة ، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ". قال أبو هريرة : وأصبح ذات يوم فلم يدع لهم ، فذكرت ذلك له ، فقال : أو ما تراهم قد قدموا ، فقنوته في الفجر كان هكذا سواء لأجل أمر عارض ونازلة ، ولذلك وقته أنس بشهر . وقد روي عن أبي هريرة أنه قنت لهم أيضاً في الفجر شهراً ، وكلاهما صحيح ، وقد تقدم ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم : شهراً متتابعاً في الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، والصبح ، ورواه أبو داود وغيره ، وهو حديث صحيح . >>>يتبع |
وقد ذكر الطبراني في معجمه من حديث محمد بن أنس : حدثنا مطرف بن طريف ، عن أبي الجهم ، عن البراء بن عازب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها .
قال الطبراني : لم يروه عن مطرف إلا محمد بن أنس . انتهى . وهذا الإسناد وإن كان لا تقوم به حجة ، فالحديث صحيح من جهة المعنى ، لأن القنوت هو الدعاء ، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة مكتوبة إلا دعا فيها ، كما تقدم ، وهذا هو الذي أراده أنس في حديث أبي جعفر الرازي إن صح أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا ، ونحن لا نشك ولا نرتاب في صحة ذلك ، وأن دعاءه استمر في الفجر إلى أن فارق الدنيا . الوجه الرابع : أن طرق أحاديث أنس تبين المراد ، ويصدق بعضها بعضاً ، ولا تتناقض . وفي الصحيحين من حديث عاصم الأحول قال : سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة ؟ فقال : قد كان القنوت ، فقلت : كان قبل الركوع أو بعده ؟ قال : قبله ؟ قلت : وإن فلاناً أخبرني عنك أنك قلت : قنت بعده . قال : كذب ، إنما قلت : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً . وقد ظن طائفة أن هذا الحديث معلول تفرد به عاصم ، وسائر الرواة عن أنس خالفوه ، فقالوا : عاصم ثقة جداً ، غير أنه خالف أصحاب أنس في موضع القنوتين ، والحافظ قد يهم ، والجواد قد يعثر ، وحكوا عن الإمام أحمد تعليله ، فقال الأثرم : قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - : أيقول أحد في حديث أنس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع غير عاصم الأحول ؟ فقال : ما علمت أحداً يقوله غيره . قال أبو عبد الله : خالفهم عاصم كلهم ، هشام عن قتادة عن أنس ، والتيمي ، عن أبي مجلز ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : قنت بعد الركوع ، وأيوب عن محمد بن سيرين قال : سألت أنساً وحنظلة السدوسي عن أنس أربعة وجوه . وأما عاصم فقال : قلت له ؟ فقال : كذبوا ، إنما قنت بعد الركوع شهراً . قيل له : من ذكره عن عاصم ؟ قال : أبو معاوية وغيره ، قيل لأبي عبد الله : وسائر الأحاديث أليس إنما هي بعد الركوع ؟ فقال : بلى كلها عن خفاف بن إيماء بن رحضة، وأبي هريرة . قلت لأبي عبد الله : فلم ترخص إذا في القنوت قبل الركوع ، وإنما صح الحديث بعد الركوع ؟ فقال : القنوت في الفجر بعد الركوع ، وفي الوتر يختار بعد الركوع ، ومن قنت قبل الركوع ، فلا بأس ، لفعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . واختلافهم ، فأما في الفجر ، فبعد الركوع . فيقال : من العجب تعليل هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته ، ورواه أئمة ثقات أثبات حفاظ ، والاحتجاج بمثل حديث أبي جعفر الرازي ، وقيس بن الربيع ، وعمرو بن أيوب ، وعمرو بن عبيد ، ودينار ، وجابر الجعفي ، وقل من تحمل مذهباً ، وانتصر له في كل شئ إلا اضطر إلى هذا المسلك . فنقول وبالله التوفيق : أحاديث أنس كلها صحاح ، يصدق بعضها بعضاً ، ولا تتناقض ، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير القنوت الذي ذكره بعده ، والذي وقته غير الذي أطلقه ، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام للقراءة ، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصلاة طول القنوت " والذي ذكره بعده ، هو إطالة القيام للدعاء ، فعله شهراً يدعو على قوم ، ويدعو لقوم ، ثم استمر يطيل هذا الركن للدعاء والثناء ، إلى أن فارق الدنيا ، كما في الصحيحين عن ثابت ، عن أنس قال : إني لا أزال أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا ، قال : وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه ، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً ، حتى يقول القائل : قد نسي ، وإذا رفع رأسه من السجدة يمكث ، حتى يقول القائل : قد نسي . فهذا هو القنوت الذي ما زال عليه حتى فارق الدنيا . ومعلوم أنه لم يكن يسكت في مثل هذا الوقوف الطويل ، بل كان يثني على ربه ، ويمجده ، ويدعوه ، وهذا غير القنوت الموقت بشهر ، فإن ذلك دعاء على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان ، ودعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة . وأما تخصيص هذا بالفجر ، فبحسب سؤال السائل ، فإنما سأله عن قنوت الفجر ، فأجابه عما سأله عنه . وأيضاً ، فإنه كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات ، ويقرأ فيها بالستين إلى المائة ، وكان كما قال البراء بن عازب : ركوعه ، واعتداله ، وسجوده ، وقيامه متقارباً . وكان يظهر من تطويله بعد الركوع في صلاة الفجر ما لا يظهر في سائر الصلوات بذلك . ومعلوم أنه كان يدعو ربه ، ويثني عليه ، ويمجده في هذا الاعتدال ، كما تقدمت الأحاديث بذلك ، وهذا قنوت منه لا ريب ، فنحن لا نشك ولا نرتاب أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا . ولما صار القنوت في لسان الفقهاء وأكثر الناس ، هو هذا الدعاء المعروف : اللهم اهدني فيمن هديت ... إلى آخره ، وسمعوا أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا ، وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة ، حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم ، ونشأ من لا يعرف غير ذلك ، فلم يشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مداومين عليه كل غداة ، وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهور العلماء ، وقالوا : لم يكن هذا من فعله الراتب ، بل ولا يثبت عنه أنه فعله . وغاية ما روي عنه في هذا القنوت ، أنه علمه للحسن بن علي ، كما في المسند و السنن الأربع عنه قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر : " اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ، ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت " قال الترمذي : حديث حسن ، ولا نعرف في القنوت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً أحسن من هذا ، وزاد البيهقي بعد "ولا يذل من واليت " ، " ولا يعز من عاديت " . ومما يدل على أن مراد أنس بالقنوت بعد الركوع هو القيام للدعاء والثناء ، ما رواه سليمان بن حرب : حدثنا أبو هلال ، حدثنا حنظلة إمام مسجد قتادة ، قلت : هو السدوسي ، قال : اختلفت أنا وقتادة في القنوت في صلاة الصبح ، فقال قتادة : قبل الركوع ، وقلت ، أنا : بعد الركوع ، فأتينا أنس بن مالك ، فذكرنا له ذلك ، فقال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر ، فكبر ، وركع ، ورفع رأسه ، ثم سجد ، ثم قام في الثانية ، فكبر ، وركع ، ثم رفع رأسه ، فقام ساعة ثم وقع ساجداً . وهذا مثل حديث ثابت عنه سواء ، وهو يبين مراد أنس بالقنوت ، فإنه ذكره دليلاً لمن قال : إنه قنت بعد الركوع ، فهذا القيام والتطويل هو كان مراد أنس ، فاتفقت أحاديثه كلها ، وبالله التوفيق . وأما المروي عن الصحابة ، فنوعان : أحدهما : قنوت عند النوازل ، كقنوت الصديق رضي الله عنه في محاربة الصحابة لمسيلمة ، وعند محاربة أهل الكتاب ، وكذلك قنوت عمر ، وقنوت علي عند محاربته لمعاوية وأهل الشام . الثاني : مطلق ، مراد من حكاه عنهم به تطويل هذا الركن للدعاء والثناء ، والله أعلم . |
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سجود السهو
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنما أنا بشر مثلكم ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني " . وكان سهوه في الصلاة من تمام نعمة الله على أمته ، وإكمال دينهم ، ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو ، وهذا معنى الحديث المنقطع الذي في الموطأ : " إنما أنسى أو أنسى لأسن " . وكان صلى الله عليه وسلم ينسى ، فيترتب على سهوه أحكام شرعية تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة ، فقام صلى الله عليه وسلم من اثنتين في الرباعية ، ولم يجلس بينهما ، فلما قضى صلاته ، سجد سجدتين قبل السلام ، ثم سلم ، فأخذ من هذا قاعدة : أن من ترك شيئاً من أجزاء الصلاة التي ليست بأركان سهواً ، سجد له قبل السلام ، وأخذ من بعض طرقه أنه : إذا ترك ذلك وشرع في ركن ، لم يرجع إلى المتروك ، لأنه لما قام ، سبحوا ، فأشار إليهم : أن قوموا . واختلف عنه في محل هذا السجود ، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن بحينة ، أنه صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين من الظهر ، ولم يجلس بينهما ، فلما قضى صلاته ، سجد سجدتين ، ثم سلم بعد ذلك . وفي رواية متفق عليها : يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم . وفي المسند من حديث يزيد بن هارون ، عن المسعودي ، عن زياد بن علاقة قال : صلى بنا المغيرة بن شعبة ، فلما صلى ركعتين ، قام ولم يجلس ، فسبح به من خلفه ، فأشار إليهم : أن قوموا ، فلما فرغ من صلاته ، سلم ، ثم سجد سجدتين ، وسلم ، ثم قال : هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصححه الترمذي . وذكر البيهقي من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال : صلى بنا عقبة بن عامر الجهني ، فقام وعليه جلوس ، فقال الناس : سبحان الله ، سبحان الله ، فلم يجلس ، ومضى على قيامه ، فلما كان في آخر صلاته ، سجد سجدتى السهو وهو جالس ، فلما سلم ، قال : إني سمعتكم آنفاً تقولون : سبحان الله لكيما أجلس ، لكن السنة الذي صنعت . وحديث عبد الله بن بحينة أولى لثلاثة وجوه . أحدها : أنه أصح من حديث المغيرة . الثاني : أنه أصرح منه ، فإن قول المغيرة : وهكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجوز أن يرجع إلى جميع ما فعل المغيرة ، ويكون قد سجد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا السهو مرة قبل السلام ، ومرة بعده ، فحكى ابن بحينة ما شاهده ، وحكى المغيرة ما شاهده ، فيكون كلا الأمرين جائزاً ، ويجوز أن يريد المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم قام ولم يرجع ، ثم سجد للسهو . الثالث : أن المغيرة لعله نسي السجود قبل السلام وسجده بعده ، وهذه صفة السهو ، وهذا لا يمكن أن يقال في السجود قبل السلام ، والله أعلم . |
فصل في مجموع ما حفظ عنه من سهوه في الصلاة
فصل وسلم صلى الله عليه وسلم من ركعتين في إحدى صلاتي العشي ، إما الظهر ، وإما العصر ، ثم تكلم ، ثم أتمها ، ثم سلم ، ثم سجد سجدتين بعد السلام والكلام ، يكبر حين يسجد ، ثم يكبر حين يرفع . وذكر أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم ، فسجد سجدتين ، ثم تشهد ، ثم سلم . وقال الترمذي : حسن غريب . وصلى يوماً فسلم وانصرف ، وقد بقي من الصلاة ركعة ، فأدركه طلحة بن عبيد الله ، فقال : نسيت من الصلاة ركعة ، فرجع فدخل المسجد ، وأمر بلالاً فأقام الصلاة ، فصلى للناس ركعة ذكره الإمام أحمد رحمه الله . وصلى الظهر خمساً ، فقيل له : زيد في الصلاة ؟ قال : وما ذاك ؟ قالوا : صليت خمساً ، فسجد سجدتين بعدما سلم . متفق عليه . وصلى العصر ثلاثاً ، ثم دخل منزله ، فذكره الناس ، فخرج فصلى بهم ركعة ، ثم سلم ، ثم سجد سجدتين ، ثم سلم . فهذا مجموع ما حفظ عنه صلى الله عليه وسلم من سهوه في الصلاة ، وهو خمسة مواضع ، وقد تضمن سجوده في بعضه قبل السلام ، وفي بعضه بعده . فقال الشافعي رحمه الله : كله قبل السلام . وقال أبو حنيفة رحمه الله : كله بعد السلام . وقال مالك رحمه الله : كل سهو كان نقصاناً في الصلاة ، فإن سجوده قبل السلام ، وكل سهو كان زيادة في الصلاة ، فإن سجوده بعد السلام ، وإذا اجتمع سهوان : زيادة ونقصان ، فالسجود لهما قبل السلام . قال أبو عمر بن عبد البر : هذا مذهبه لا خلاف عنه فيه ، ولو سجد أحد عنده لسهوه بخلاف ذلك ، فجعل السجود كله بعد السلام ، أو كله قبل السلام ، لم يكن عليه شئ ، لأنه عنده من باب قضاء القاضي باجتهاده ، لاختلاف الآثار المرفوعة ، والسلف من هذه الأمة في ذلك . وأما الإمام أحمد رحمه الله ، فقال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن سجود السهو : قبل السلام ، أم بعده ؟ فقال : في مواضيع قبل السلام ، وفي مواضع بعده ، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم حين سلم من اثنتين ، ثم سجد بعد السلام ، على حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين . ومن سلم من ثلاث سجد أيضاً بعد السلام على حديث عمران بن حصين . وفي التحري يسجد بعد السلام على حديث ابن مسعود ، وفي القيام من اثنتين يسجد قبل السلام على حديث ابن بحينة وفي الشك يبني على اليقين ، ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري وحديث عبد الرحمن بن عوف . قال الأثرم : فقلت لأحمد بن حنبل : فما كان سوى هذه المواضع ؟ قال : يسجد فيها كلها قبل السلام ، لأنه يتم ما نقص من صلاته ، قال : ولولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لرأيت السجود كله قبل السلام ، لأنه من شأن الصلاة ، فيقضيه قبل السلام ، ولكن أقول : كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد فيه بعد السلام ، فإنه يسجد فيه بعد السلام ، وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام . وقال داود بن علي : لا يسجد أحد للسهو إلا في الخمسة المواضع التى سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى . وأما الشك ، فلم يعرض له صلى الله عليه وسلم ، بل أمر فيه بالبناء على اليقين ، وإسقاط الشك ، والسجود قبل السلام . فقال الإمام أحمد : الشك على وجهين : اليقين ، والتحري ، فمن رجع إلى اليقين ، ألغى الشك ، وسجد سجدتي السهو قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري ، وإذا رجع إلى التحري وهو أكثر الوهم ، سجد سجدتي السهو بعد السلام على حديث ابن مسعود الذي يرويه منصور . انتهى . وأما حديث أبي سعيد ، فهو " إذا شك أحدكم في صلاته ، فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً ، فليطرح الشك ، وليبن على ما استيقن ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم "، وأما حديث ابن مسعود ، فهو " إذا شك أحدكم في صلاته ، فليتحر الصواب ، ثم ليسجد سجدتين " متفق عليهما . وفي لفظ الصحيحين : " ثم يسلم ، ثم يسجد سجدتين " وهذا هو الذي قال الإمام أحمد ، وإذا رجع إلى التحري ، سجد بعد السلام . والفرق عنده بين التحري واليقين ، أن المصلي إذا كان إماماً بنى على غالب ظنه وأكثر وهمه ، وهذا هو التحري ، فيسجد له بعد السلام على حديث ابن مسعود ، وإذ كان منفرداً ، بنى على اليقين ، وسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد ، وهذه طريقة أكثر أصحابه في تحصيل ظاهر مذهبه . وعنه : روايتان أخريان : إحداهما : أنه يبني على اليقين مطلقاً ، وهو مذهب الشافعي ومالك ، والأخرى : على غالب ظنه مطلقاً ، وظاهر نصوصه إنما يدل على الفرق بين الشك ، وبين الظن الغالب القوي ، فمع الشك يبني على اليقين ، ومع أكثر الوهم أو الظن الغالب يتحرى ، وعلى هذا مدار أجوبته . وعلى الحالين حمل الحديثين ، والله أعلم . وقال أبو حنيفة رحمه الله في الشك : إذا كان أول ما عرض له ، استأنف الصلاة ، فإن عرض له كثيراً ، فإن كان له ظن غالب ، بنى عليه ، وإن لم يكن له ظن ، بنى على اليقين . |
فصل في كراهة تغميض العينين في الصلاة
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تغميض عينيه في الصلاة ، وقد تقدم أنه كان في التشهد يومئ ببصره إلى أصبعه في الدعاء ، ولا يجاوز بصره إشارته . وذكر البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : كان قرام لعائشة ، سترت به جانب بيتها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أميطي عني قرامك هذا ، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي " . ولو كان يغمض عينيه في صلاته ، لما عرضت له في صلاته . وفي الاستدلال بهذا الحديث نظر ، لأن الذي كان يعرض له في صلاته : هل تذكر تلك التصاوير بعد رؤيتها ، أو نفس رؤيتها ؟ هذا محتمل ، وهذا محتمل ، وأبين دلالة منه حديث عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام ، فنظر إلى أعلامها نظرة ، فلما انصرف قال : " اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم ، وأتوني بانبجانية أبي جهم ، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي " . وفي الاستدلال بهذا أيضاً ما فيه ، إذ غايته أنه حانت منه التفاتة إليها ، فشغلته تلك الالتفاتة ولا يدل حديث التفاته إلى الشعب لما أرسل إليه الفارس طليعة ، لأن ذلك النظر والالتفات منه كان للحاجة ، لاهتمامه بأمور الجيش ، وقد يدل على ذلك مد يده في صلاة الكسوف ليتناول العنقود لما رأى الجنة ، وكذلك رؤيتة النار وصاحبة الهرة فيها ، وصاحب المحجن وكذلك حديث مدافعته للبهيمة التي أرادت أن تمر بين يديه ، ورده الغلام والجارية ، وحجزه بين الجاريتين ، وكذلك أحاديث رد السلام بالإشارة على من سلم عليه وهو في الصلاة ، فإنه إنما كان يشير إلى من يراه ، وكذلك حديث تعرض الشيطان له فأخذه فخنقه ، وكان ذلك رؤية عين ، فهذه الأحاديث وغيرها يستفاد من مجموعها العلم بأنه لم يكن يغمض عينيه في الصلاة . وقد اختلف الفقهاء في كراهته ، فكرهه الإمام أحمد وغيره ، وقال : هو فعل اليهود ، وأباحه جماعة ولم يكرهوه ، وقالوا : قد يكون أقرب إلى تحصيل الخشوع الذي هو روح الصلاة وسرها ومقصودها. والصواب أن يقال : إن كان تفتيح العين لا يخل بالخشوع ، فهو أفضل ، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه ، فهنالك لا يكره التغميض قطعاً ، والقول باستحبابه في هذا الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة ، والله أعلم . |
فصل فيما كان يقوله بعد انصرافه من الصلاة من الأذكار وكيفية انصرافه
فصل فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة ، وجلوسه بعدها ، وسرعة الانتقال منها ، وما شرعه لأمته من الأذكار والقراءة بعدها كان إذا سلم ، استغفر ثلاثاً ، وقال : " اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام " . ولم يمكث مستقبل القبلة إلا مقدار ما يقول ذلك ، بل يسرع الانتقال إلى المأمومين . وكان ينتفل عن يمينه وعن يساره ، وقال ابن مسعود : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ينصرف عن يساره . وقال أنس : أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه ، والأول في الصحيحين . والثاني في مسلم . وقال عبد الله بن عمرو : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة . ثم كان يقبل على المأمومين بوجهه ، ولا يخص ناحية منهم دون ناحية . وكان إذا صلى الفجر ، جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس . وكان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شئ قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " . وكان يقول : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كال شئ قدير ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة ، وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " . وذكر أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من الصلاة قال : " اللهم اغفر لي ما قدمت ، وما أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم ، وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت ". هذه قطعة من حديث علي الطويل الذي رواه مسلم في استفتاحه عليه الصلاة والسلام ، وما كان يقوله في ركوعه وسجوده . ولمسلم فيه لفظان . أحدهما : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله بين التشهد والتسليم ، وهذا هو الصواب . والثاني : كان يقوله بعد السلام ، ولعله كان يقوله في الموضعين ، والله أعلم . وذكر الإمام أحمد عن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة : " اللهم ربنا ورب كل شئ ومليكه ، أنا شهيد أنك الرب وحدك لا شريك لك ، اللهم ربنا ورب كل شئ ، أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك ، اللهم ربنا ورب كل شئ ، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة ، اللهم ربنا ورب كل شئ ، اجعلني مخلصاً لك وأهلي في كل ساعة من الدنيا والآخرة يا ذا الجلال والإكرام ، اسمع واستجب ، الله أكبر الأكبر الله نور السماوات والأرض ، الله أكبر الأكبر ، حسبي الله ونعم الوكيل ، الله أكبر الأكبر " ورواه أبو داود . وندب أمته إلى أن يقولوا في دبر كل صلاة : سبحان الله ثلاثاً وثلاثين والحمد لله كذلك ، والله أكبر كذلك ، وتمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير . وفي صفة أخرى : التكبير أربعاً وثلاثين فتتم به المائة . وفي صفة أخرى : خمساً وعشرين تسبيحة ، ومثلها تحميدة ، ومثلها تكبيرة ، ومثلها لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير . وفي صفة أخرى : عشر تسبيحات ، وعشر تحميدات ، وعشر تكبيرات . وفي صفة أخرى : إحدى عشرة كما في صحيح مسلم في بعض روايات حديث أبي هريرة " ويسبحون ، ويحمدون ، ويكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ، إحدى عشرة ، وإحدى عشرة ، وإحدى عشرة ، فذلك ثلاثة وثلاثون " والذي يظهر في هذه الصفة ، أنها من تصرف بعض الرواة وتفسيره ، لأن لفظ الحديث : " يسبحون ويحمدون ، ويكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين " وإنما مراده بهذا أن يكون الثلاث والثلاثون في كل واحدة من كلمات التسبيح والتحميد والتكبير ، أي قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ثلاثاً وثلاثين لأن راوي الحديث سمي عن أبي صالح السمان ، وبذلك فسره أبو صالح قال : قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، حتى يكون منهن كلهن ثلاث وثلاثون . وأما تخصيصه بإحدى عشرة ، فلا نظير له في شئ من الأذكار بخلاف المائة ، فإن لها نظائر ، والعشر لها نظائر أيضاً ، كما في السنن من حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير ، عشر مرات ، كتب له عشر حسنات ، ومحي عنه عشر سيئات ، ورفع له عشر درجات ، وكان يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه ، وحرس من الشيطان ، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله " ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وفي مسند الإمام أحمد من حديث أم سلمة ، "أنه صلى الله عليه وسلم علم ابنته فاطمة لما جاءت تسأله الخادم ، فأمرها : أن تسبح الله عند النوم ثلاثاً وثلاثين ، وتحمده ثلاثاً وثلاثين ، وتكبره ثلاثاً وثلاثين ، وإذا صلت الصبح أن تقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد وهو على كل شئ قدير ، عشر مرات ، وبعد صلاة المغرب ، عشر مرات ". وفي صحيح ابن حبان عن أبي أيوب الأنصاري يرفعه : "من قال إذا أصبح : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير عشر مرات ، كتب له بهن عشر حسنات ، ومحي عنه بهن عشر سيئات ورفع له بهن عشر درجات ، وكن له عدل عتاقة أربع رقاب ، وكن له حرساً من الشيطان حتى يمسي ، ومن قالهن إذا صلى المغرب دبر صلاته فمثل ذلك حتى يصبح " . وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الاستفتاح " الله أكبر عشراً ، والحمد لله عشراً ، وسبحان الله عشراً ، ولا إله إلا الله عشراً ، ويستغفر الله عشراً ، ويقول : اللهم اغفر لي ، واهدني وارزقني عشراً ، ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة عشراً " فالعشر في الأذكار والدعوات كثيرة . وأما الإحدى عشرة ، فلم يجئ ذكرها في شئ من ذلك البتة إلا في بعض طرق حديث أبي هريرة المتقدم والله أعلم . وقد ذكر أبو حاتم في صحيحه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند انصرافه من صلاته : " اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري ، وأصلح لي دنياى التى جعلت فيها معاشي ، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من نقمتك ، وأعوذ بك منك ، لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " . وذكر الحاكم في مستدركه عن أبي أيوب أنه قال : ما صليت وراء نبيكم صلى الله عليه وسلم إلا سمعته حين ينصرف من صلاته يقول : " اللهم اغفر لي خطاياي وذنوبي كلها ، اللهم أنعمنى وأحيني وارزقني ، واهدني لصالح الأعمال والأخلاق ، إنه لا يهدي لصالحها إلا أنت ، ولا يصرف عن سيئها إلا أنت " . وذكر ابن حبان في صحيحه عن الحارث بن مسلم التميمي قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا صليت الصبح ، فقل قبل أنت تتكلم : اللهم أجرني من النار سبع مرات ، فإنك إن مت من يومك ، كتب الله لك جواراً من النار ، وإذا صليت المغرب ، فقل قبل أن تتكلم : اللهم أجرني من النار سبع مرات ، فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك جوارا من النار " . وقد ذكر النسائي في السنن الكبير من حديث أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة ، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت " . وهذا الحديث تفرد به محمد بن حمير ، عن محمد بن زياد الألهاني ، عن أبي أمامة ، ورواه النسائي عن الحسين بن بشر ، عن محمد بن حمير . وهذا الحديث من الناس من يصححه ، ويقول : الحسين بن بشر قد قال فيه النسائي : لا بأس به ، وفي موضع آخر : ثقة . وأما المحمدان ، فاحتج بهما البخاري في صحيحه قالوا : فالحديث على رسمه ، ومنهم من يقول : هو موضوع ، وأدخله أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه في الموضوعات ، وتعلق على محمد بن حمير ، وأن أبا حاتم الرازي قال : لا يحتج به ، وقال يعقوب بن سفيان : ليس بقوي ، وأنكر ذلك عليه بعض الحفاظ ، ووثقوا محمداً ، وقال : هو أجل أن يكون له حديث موضوع ، وقد احتج به أجل من صنف في الحديث الصحيح ، وهو البخاري ، ووثقه أشد الناس مقالة في الرجال يحيى بن معين ، وقد رواه الطبراني في معجمه أيضاً من حديث عبد الله بن حسن عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة ، كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى " . وقد روي هذا الحديث من حديث أبي أمامة ، وعلي أبي طالب ، و عبد الله بن عمر ، والمغيرة بن شعبة ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وفيها كلها ضعف ، ولكن إذا انضم بعضها إلى بعض مع تباين واختلاف مخارجها ، دلت على أن الحديث له أصل وليس بموضوع . وبلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه أنه قال : ما تركتها عقيب كل صلاة . وفي المسند و السنن ، "عن عقبة بن عامر قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة ". ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه ، والحاكم في المستدرك ، وقال : صحيح على شرط مسلم . ولفظ الترمذي بالمعوذتين . وفي معجم الطبراني ، و مسند أبي يعلى الموصلي من حديث عمر بن نبهان ، وقد تكلم فيه عن جابر يرفعه : ثلاث من جاء بهن مع الإيمان ، دخل من أي أبواب الجنة شاء ، وزوج من الحور العين حيث شاء ، من عفا عن قاتله ، وأدى ديناً خفياً ، و قرأ في دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرات ، قل هو الله أحد . فقال أبو بكر رضي الله عنه : أو إحداهن يا رسول الله : قال : أو إحداهن . وأوصى معاذاً أن يقول في دبر كل صلاة : " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ". ودبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده ، وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام ، فراجعته فيه ، فقال : دبر كل شئ منه ، كدبر الحيوان . |
فصل في هديه في السترة
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى الجدار ، جعل بينه وبينه قدر ممر الشاة ، ولم يكن يتباعد منه ، بل أمر بالقرب من السترة ، وكان إذا صلى إلى عود أو عمود أو شجرة ، جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ، ولم يصمد له صمداً ، وكان يركز الحربة ، في السفر والبرية ، فيصلي إليها ، فتكون سترته ، وكان يعرض راحلته ، فيصلي إليها ، وكان يأخذ الرحل فيعدله فيصلي إلى آخرته ، وأمر المصلي أن يستتر ولو بسهم أو عصا ، فإن لم يجد فليخط خطاً في الأرض . قال أبو داود سمعت أحمد بن حنبل يقول : الخط عرضاً مثل الهلال . وقال عبد الله : الخط بالطول ، وأما العصا ، فتنصب نصباً ، فإن لم يكن سترة ، فإنه صح عنه أنه يقطع صلاته ،" المرأة والحمار والكلب الأسود" . وثبت ذلك عنه من رواية أبي ذر ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، وعبد الله بن مغفل . ومعارض هذه الاحاديث قسمان : صحيح غير صريح ، وصريح غير صحيح ، فلا يترك العمل بها لمعارض هذا شأنه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعائشة رضي الله عنها نائمة في قبلته . وكأن ذلك ليس كالمار ، فإن الرجل محرم عليه المرور بين يدي المصلي ، ولا يكره له أن يكون لابثاً بين يديه ، وهكذا المرأة يقطع مرورها الصلاة دون لبثها ، والله أعلم . |
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في السنن الرواتب
كان صلى الله عليه وسلم يحافظ على عشر ركعات في الحضر دائماً ، وهي التي قال فيها ابن عمر : " حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات : ركعتين قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين بعد المغرب في بيته ، وركعتين بعد العشاء في بيته ، وركعتين قبل صلاة الصبح ". فهذه لم يكن يدعها في الحضر أبداً ، ولما فاتته الركعتان بعد الظهر قضاهما بعد العصر ، وداوم عليهما ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عمل عملاً أثبته ، وقضاء السنن الرواتب في أوقات النهي عام له ولأمته ، وأما المداومة على تلك الركعتين في وقت النهي ، فمختص به كما سيأتي تقرير ذلك في ذكر خصائصه إن شاء الله تعالى . وكان يصلي أحياناً قبل الظهر أربعاً ، كما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم : " كان لا يدع أربعاً قبل الظهر ، وركعتين قبل الغداة " . فإما أن يقال : إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في بيته صلى أربعاً ، وإذا صلى في المسجد صلى ركعتين ، وهذا أظهر ، وإما أن يقال : كان يفعل هذا ، ويفعل هذا ، فحكى كل من عائشة وابن عمر ما شاهده ، والحديثان صحيحان لا مطعن في واحد منهما . وقد يقال : إن هذه الأربع لم تكن سنة الظهر ، بل هي صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال ، كما ذكره الإمام أحمد عن عبد الله بن السائب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس ، وقال : " إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء ، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح " . وفي السنن أيضاً عن عائشة رضي الله عنها ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر ، صلاهن بعدها " . وقال ابن ماجه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الأربع قبل الظهر ، صلاها بعد الركعتين بعد الظهر " . وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً قبل الظهر ، وبعدها ركعتين " . وذكر ابن ماجه أيضاً عن عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " يصلي أربعاً قبل الظهر ، يطيل فيهن القيام ، ويحسن فيهن الركوع والسجود " فهذه - والله أعلم - هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن . وأما سنة الظهر ، فالركعتان اللتان قال عبد الله بن عمر ، يوضح ذلك أن سائر الصلوات سنتها ركعتان ركعتان ، والفجر مع كونها ركعتين ، والناس في وقتها أفرغ ما يكونون ، ومع هذا سنتها ركعتان ، وعلى هذا ، فتكون هذه الأربع التي قبل الظهر ورداً مستقلاً سببه انتصاف النهار وزوال الشمس . وكان عبد الله بن مسعود يصلي بعد الزوال ثمان ركعات ، ويقول : إنهن يعدلن بمثلهن من قيام الليل . وسر هذا - والله أعلم - أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل ، وأبواب السماء تفتح بعد زوال الشمس ، ويحصل النزول الإلهي بعد انتصاف الليل ، فهما وقتا قرب ورحمة ، هذا تفتح فيه أبواب السماء ، وهذا ينزل فيه الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا . وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أم حبيبة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من صلى في يوم وليله ثنتي عشرة ركعة ، بني له بهن بيت في الجنة " . وزاد النسائي والترمذي فيه : "أربعاً قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين بعد المغرب ، وركعتين بعد العشاء ، وركعتين قبل صلاة الفجر ". قال النسائي : " وركعتين قبل العصر " بدل "وركعتين بعد العشاء " وصححه الترمذي . وذكر ابن ماجه عن عائشة ترفعه : "من ثابر على ثنتي عشرة ركعة من السنة ، بنى الله له بيتاً في الجنة : أربعاً قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين المغرب ، وركعتين بعد العشاء ، وركعتين قبل الفجر " . وذكر أيضاً عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وقال : "ركعتين قبل الفجر ، وركعتين قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين أظنه قال : قبل العصر ، وركعتين بعد المغرب أظنه قال : وركعتين بعد العشاء الآخرة " . وهذا التفسير ، يحتمل أن يكون من كلام بعض الرواة مدرجاً في الحديث ، ويحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً ، والله أعلم . وأما الأربع قبل العصر ، فلم يصح عنه عليه السلام في فعلها شئ إلا حديث عاصم بن ضمرة عن علي ... الحديث الطويل ، أنه صلى الله عليه وسلم : " كان يصلي في النهار ست عشرة ركعة ، يصلي إذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا لصلاة الظهر أربع ركعات ، وكان يصلي قبل الظهر أربع ركعات ، وبعد الظهر ركعتين ، وقبل العصر أربع ركعات ". وفي لفظ : "كان إذا زالت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند العصر ، صلى ركعتين ، وإذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند الظهر ، صلى أربعاً ، ويصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين ، وقبل العصر أربعاً ، ويفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين ". وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ينكر هذا الحديث ويدفعه جداً ، ويقول : إنه موضوع. ويذكر عن أبي إسحاق الجوزجاني إنكاره . وقد روى أحمد ، وأبو داود ، والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً " . وقد اختلف في هذا الحديث ، فصححه ابن حبان ، وعلله غيره ، قال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : سألت أبا الوليد الطيالسي عن حديث محمد بن مسلم بن المثنى ، عن أبيه عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً ". فقال دع ذا . فقلت : إن أبا داود قد رواه ، فقال : قال أبو الوليد : كان ابن عمر يقول : "حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات في اليوم والليلة ". فلو كان هذا لعده . قال أبي : كان يقول : " حفظت ثنتي عشرة ركعة ". وهذا ليس بعلة أصلاً فإن ابن عمر إنما أخبر بما حفظه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يخبر عن غير ذلك ، فلا تنافي بين الحديثين البتة . وأما الركعتان قبل المغرب ، فإنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصليهما ، وصح عنه أنه أقر أصحابه عليهما ، وكان يراهم يصلونهما ، فلم يأمرهم ولم ينههم ، وفي الصحيحين عن عبد الله المزني ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صلوا قبل المغرب ، صلوا قبل المغرب " . قال في الثالثة :" لمن شاء كراهة أن يتخذها الناس سنة ". وهذا هو الصواب في هاتين الركعتين ، أنهما مستحبتان مندوب إليهما ، بسنة راتبة كسائر السنن الرواتب . وكان يصلي عامة السنن ، والتطوع الذي لا سبب له في بيته ، لا سيما سنة المغرب ، فإنه لم ينقل عنه أنه فعلها في المسجد البتة . وقال الإمام أحمد في رواية حنبل : السنة أن يصلي الرجل الركعتين بعد المغرب في بيته ، كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه . قال السائب بن يزيد : لقد رأيت الناس في زمن عمر بن الخطاب ، إذا انصرفوا من المغرب ، انصرفوا جميعاً حتى لا يبقى في المسجد أحد ، كأنهم لا يصلون بعد المغرب حتى يصيروا إلى أهليهم انتهى كلامه . فإن صلى الركعتين في المسجد ، فهل يجزئ عنه ، وتقع موقعها ؟ اختلف قوله ، فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال : بلغني عن رجل سماه أنه قال : لو أن رجلاً صلى الركعتين بعد المغرب في المسجد ما أجزأه ؟ فقال : ما أحسن ما قال هذا الرجل ، وما أجود ما انتزع ، قال أبو حفص : ووجهه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصلاة في البيوت . وقال المروزي : من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد يكون عاصياً ، قال : ما أعرف هذا ، قلت له : يحكى عن أبي ثور أنه قال : هو عاص . قال : لعله ذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم " اجعلوها في بيوتكم " . قال أبو حفص : ووجهه أنه لو صلى الفرض في البيت ، وترك المسجد ، أجزأه ، فكذلك السنة . انتهى كلامه . وليس هذا وجهه عند أحمد رحمه الله ، وإنما وجهه أن السنن لا يشترط لها مكان معين ، ولا جماعة ، فيجوز فعلها في البيت والمسجد ، والله أعلم . وفي سنة المغرب سنتان ، إحداهما : أنه لا يفصل بينها وبين المغرب بكلام ، قال أحمد رحمه الله في رواية الميموني والمروزي : يستحب ألا يكون قبل الركعتين بعد المغرب إلى أن يصليهما كلام . وقال الحسن بن محمد : رأيت أحمد إذا سلم من صلاة المغرب ، قام ولم يتكلم ، ولم يركع في المسجد قبل أن يدخل الدار ، قال أبو حفص : ووجهه قول مكحول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم ، رفعت صلاته في عليين " ولأنه يتصل النفل بالفرض ، انتهى كلامه . ==>>يتبع |
والسنة الثانية : أن تفعل في البيت ، فقد روى النسائي ، وأبو داود ، والترمذي من حديث كعب بن عجرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني عبد الأشهل ، فصلى فيه المغرب ، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال : " هذه صلاة البيوت " . ورواه ابن ماجه من حديث رافع بن خديج ، وقال فيها : " اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم " .
والمقصود ، أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فعل عامة السنن والتطوع في بيته . كما في الصحيح عن ابن عمر : حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات : ركعتين قبل الظهر ، وركعتيبن بعدها ، وركعتين بعد المغرب فى بيته ، وركعتين بعد العشاء في بيته ، وركعتين قبل صلاة الصبح . وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في بيتي أربعاً قبل الظهر ، ثم يخرج فيصلي بالناس ، ثم يدخل فيصلى ركعتين ، وكان يصلي بالناس المغرب ، ثم يدخل فيصلي ركعتين ، ويصلى بالناس العشاء ، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين . وكذلك المحفوظ عنه في سنة الفجر ، إنما كان يصليها في بيته كما قالت حفصة . وفي الصحيحين عن ابن عمر ، أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الجمعة في بيته . وسيأتي الكلام على ذكر سنة الجمعة بعدها والصلاة قبلها ، عند ذكر هديه في الجمعة إن شاء الله تعالى ، وهو موافق لقوله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس صلوا في بيوتكم ، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " . وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم فعل السنن ، والتطوع في البيت إلا لعارض ، كما أن هديه كان فعل الفرائض في المسجد إلا لعارض من سفر ، أو مرض، أو غيره مما يمنعه من المسجد ، وكان تعاهده ومحافظته على سنة الفجر أشد من جميع النوافل ، ولذلك لم يكن يدعها هي والوتر سفراً وحضراً ، وكان في السفر يواظب على سنة الفجر والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السنن ، ولم ينقل عنه في السفر أنه صلى الله عليه وسلم صلى سنة راتبة غيرهما ، ولذلك كان ابن عمر لا يزيد على ركعتين ويقول : سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما ، فكانوا لا يزيدون في السفر على ركعتين ، وهذا وإن احتمل أنهم لم يكونوا يربعون ، إلا أنهم لم يصلوا السنة ، لكن قد ثبت عن ابن عمر أنه سئل عن سنة الظهر في السفر ، فقال : لو كنت مسبحاً لأتممت ، وهذا من فقهه رضي الله عنه ، فإن الله سبحانه وتعالى خفف عن المسافر في الرباعية شطرها ، فلو شرع له الركعتان قبلها أو بعدها ، لكان الإتمام أولى به . وقد اختلف الفقهاء : أي الصلاتين آكد ، سنة الفجر أو الوتر ؟ على قولين : ولا يمكن الترجيح باختلاف الفقهاء في وجوب الوتر ، فقد اختلفوا أيضاً في وجوب سنة الفجر ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل ، والوتر خاتمته . ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص ، وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل ، وتوحيد المعرفة والإرادة ، وتوحيد الاعتقاد والقصد ، انتهى . فسورة " قل هو الله أحد " : متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة وما يجب ثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق المشاركة بوجه من الوجوه ، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال التي لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه ، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوزام الصمدية ، وغناه وأحديته ونفي الكفء المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل والتنظير ، فتضمنت هذه السورة إثبات كل كمال له ، ونفي كل نقص عنه ، ونفى إثبات شبيه أو مثيل له في كماله ، ونفي مطلق الشريك عنه ، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال والشرك ، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن ، فإن القرآن مداره على الخبر و الإنشاء ، والإنشاء ثلاثة : أمر ، ونهي ، وإباحة . والخبر نوعان : خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه ، وخبر عن خلقه . فأخلصت سورة " قل هو الله أحد " الخبر عنه ، وعن أسمائه ، وصفاته ، فعدلت ثلث القرآن ، وخلصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمي ، كما خلصت سورة " قل يا أيها الكافرون " من الشرك العلمي الإرادي القصدي . ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامه وقائده وسائقه ، والحاكم عليه ومنزله منازله ، كانت سورة " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن . والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر ، و " قل يا أيها الكافرون " ، تعدل ربع القرآن ، والحديث بذلك في الترمذي من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه :" إذا زلزلت تعدل نصف القرآن ، وقل هو الله أحد ، تعدل ثلث القرآن ، وقل يا أيها الكافرون ، تعدل ربع القرآن " . رواه الحاكم في المستدرك وقال : صحيح الإسناد . ولما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس لأجل متابعتها هواها ، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته وبطلانه ، لما لها فيه من نيل الأغراض ، وإزالته ، وقلعه منها أصعب ، وأشد من قلع الشرك العلمي وإزالته ، لأن هذا يزول بالعلم والحجة ، ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشئ على غير ما هو عليه ، بخلاف شرك الإرادة والقصد ، فإن صاحبه يرتكب ما يدله العلم على بطلانه وضرره لأجل غلبة هواه ، واستيلاء سلطان الشهوة والغضب على نفسه ، فجاء من التأكيد والتكرار في سورة " قل يا أيها الكافرون " المتضمنة لإزالة الشرك العملي ، ما لم يجئ مثله في سورة " قل هو الله أحد " ، ولما كان القرآن شطرين : شطراً في الدنيا وأحكامها ، ومتعلقاتها ، والأمور الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها ، وشطراً في الآخرة وما يقع فيها ، وكانت سورة " إذا زلزلت " قد أخلصت من أولها وآخرها لهذا الشطر ، فلم يذكر فيها إلا الآخرة . وما يكون فيها من أحوال الأرض وسكانها ، كانت تعدل نصف القرآن ، فأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحاً - والله أعلم - ولهذا كان يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الطواف ، ولأنهما سورتا الإخلاص والتوحيد ، كان يفتتح بهما عمل النهار ، و يختمه بهما ، ويقرأ بهما في الحج الذي هو شعار التوحيد . ==>>يتبع |
الساعة الآن 09:22 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
][ ملاحظة: جميع المشاركات تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تمثل راي ادارة المنتدى بالضرورة، نأمل من الجميع الالتزام بقوانين الحوار المحترم ][