منتديات جعلان

منتديات جعلان (http://www.jalaan.com/index.php)
-   جعلان للتربية والتعليم (http://www.jalaan.com/forumdisplay.php?f=11)
-   -   ((( زاد المعاد ))) الأجزاء 1.2.3.4.5 (http://www.jalaan.com/showthread.php?t=10295)

اسير الصحراء 04-27-2006 01:49 AM

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في قص الشارب
قال أبو عمر بن عبد البر : روى الحسن بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقص شاربه ، ويذكر أن إبراهيم كان يقص شاربه ، ووقفه طائفة على ابن عباس . وروى الترمذي من حديث زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يأخذ من شاربه ، فليس منا " وقال : حديث صحيح . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قصوا الشوارب ، وأرخوا اللحى ، خالفوا المجوس " وفي الصحيحين عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " خالفوا المشركين ، ووفروا اللحي ، وأحفوا الشوارب " . وفي صحيح مسلم عن أنس قال : وقت لنا النبي صلى الله عليه وسلم قص الشارب وتقليم الأظفار ، ألا نترك أكثر من أربعين يوماً وليلة .
واختلف السلف في قص الشارب و حلقه أيهما أفضل ؟ فقال مالك في موطئه : يؤخذ من الشارب حتى تبدو أطراف للشفة وهو الإطار ، ولا يجزه فيمثل بنفسه . وذكر ابن عبد الحكم عن مالك قال : يحفي الشارب ويعفي اللحى ، وليس إحفاء الشارب حلقه ، وأرى أن يؤدب من حلق شاربه ، وقال ابن القاسم عنه : إحفاء الشارب وحلقه عندي مثلة ، قال مالك : وتفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم في إحفاء الشارب ، إنما هو الإطار ، وكان يكره أن يؤخذ من أعلاه ، وقال : أشهد في حلق الشارب أنه بدعة ، وأرى أن يوجع ضرباً من فعله ، قال مالك : وكان عمر بن الخطاب إذا كربه أمر ، نفخ، فجعل رجله بردائه وهو يفتل شاربه . وقال عمر بن عبد العزيز : السنة في الشارب الإطار . وقال الطحاوي : ولم أجد عن الشافعي شيئاً منصوصاً في هذا ، وأصحابه الذين رأينا المزني والربيع كانا يحفيان شواربهما ، ويدل ذلك على أنهما أخذاه عن الشافعي رحمه الله ، قال : وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد ، فكان مذهبهم في شعر الرأس والشوارب أن الإحفاء أفضل من التقصير ، وذكر ابن خويز منداد المالكي عن الشافعي أن مذهبه في حلق الشارب كمذهب أبي حنيفة ، وهذا قول أبي عمر .
وأما الإمام أحمد ، فقال الأثرم : رأيت الإمام أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديداً ، وسمعته يسأل عن السنة في إحفاء الشارب ؟ فقال : يحفي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " أحفوا الشوارب " وقال حنبل : قيل لأبي عبد الله: ترى الرجل يأخذ شاربه ، أو يحفيه ؟ أم كيف يأخذه ؟ قال : إن أحفاه ، فلا بأس ، وإن أخذه قصاً فلا بأس . وقال أبو محمد بن قدامة المقدسي في المغني : وهو مخير بين أن يحفيه ، وبين أن يقصه من غير إحفاء . قال الطحاوي : وروى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من شاربه على سواك وهذا لا يكون معه إحفاء . واحتج من لم ير إحفاءه بحديثي عائشة وأبي هريرة المرفوعين " عشر من الفطرة ... فذكر منها قص الشارب " . وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه " الفطرة خمس ... " وذكر منها قص الشارب .
واحتج المحفون بأحاديث الأمر بالإحفاء ، وهي صحيحة ، وبحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجز شاربه . قال الطحاوي : وهذا الأغلب فيه الإحفاء ، وهو يحتمل الوجهين . وروى العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة يرفعه "جزوا الشوارب ، وأرخوا اللحى" . قال : وهذا يحتمل الإحفاء أيضاً ، وذكر بإسناده عن أبي سعيد ، وأبي أسيد ، ورافع بن خديج ، وسهل بن سعد ، وعبد الله بن عمر ، وجابر ، وأبي هريرة أنهم كانوا يحفون شواربهم . وقال إبراهيم بن محمد بن حاطب : رأيت ابن عمر يحفي شاربه كأنه ينتفه . وقال بعضهم : حتى يرى بياض الجلد . قال الطحاوي : ولما كان التقصير مسنوناً عند الجميع ، كان الحلق فيه أفضل قياس على الرأس ، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين واحدة ، فجعل حلق الرأس أفضل من تقصيره ، فكذلك الشارب .

اسير الصحراء 04-27-2006 01:49 AM

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في كلامه وسكوته وضحكه وبكائه
كان صلى الله عليه وسلم أفصح خلق الله ، وأعذبهم كلاماً ، وأسرعهم أداء ، وأحلاهم منطقاً ، حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ، ويسبي الأرواح ، ويشهد له بذلك أعداؤه . وكان إذا تكلم تكلم بكلام مفصل مبين يعده العاد ، ليس بهذ مسرع لا يحفظ ، ولا منقطع تخلله السكتات بين أفراد الكلام ، بل هديه فيه أكمل الهدي ، قالت عائشة : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ، ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه . وكان كثيراً ما يعيد الكلام ثلاثاً ليعقل عنه ، وكان إذا سلم سلم ثلاثاً . وكان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة ، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه ، ويتكلم بجوامع الكلام ، فصل لا فضول ولا تقصير ، وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه ، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ، وإذا كره الشئ : عرف في وجهه ، ولم يكن فاحشاً ، ولا متفحشاً ، ولا صخاباً . وكان جل ضحكه التبسم ، بل كله التبسم ، فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجذه .
وكان يضحك مما يضحك منه ، وهو مما يتعجب من مثله ويستغرب وقوعه و يستندر .
وللضحك أسباب عديدة ، هذا أحدها . والثاني : ضحك الفرح ، وهو أن يرى ما يسره أو يباشره . والثالث : ضحك الغضب ، وهو كثيراً ما يعتري الغضبان إذا اشتد غضبه ، وسببه تعجب الغضبان مما أورد عليه الغضب ، وشعور نفسه بالقدرة على خصمه ، وأنه في قبضته ، وقد يكون ضحكه لملكه نفسه عند الغضب ، وإعراضه عمن أغضبه ، وعدم اكتراثه به .
وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم ، فكان من جنس ضحكه ، لم يكن بشهيق ورفع صوت كما لم يكن ضحكه بقهقهة ، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا ، ويسمع لصدره أزيز . وكان بكاؤه تارة رحمة للميت ، وتارة خوفاً على أمته وشفقة عليها ، وتارة من خشية
الله ، وتارة عند سماع القرآن ، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال ، مصاحب للخوف والخشية . ولما مات ابنه ابراهيم ، دمعت عيناه وبكى رحمة له ، وقال : " تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون " . وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض ، وبكي لما قرأ عليه ابن مسعود سورة ( النساء ) وانتهى فيها إلى قوله تعالى : " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " ( النساء : 41) وبكى لما مات عثمان بن مظعون ، وبكى لما كسفت الشمس ، وصلى صلاة الكسوف ، وجعل يبكي في صلاته ، وجعل ينفخ ، ويقول : " رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون ، ونحن نستغفرك " وبكى لما جلس على قبر إحدى بناته وكان يبكي أحياناً في صلاة الليل .
والبكاء أنواع . أحدها : بكاء الرحمة ، والرقة .
والثاني : بكاء الخوف والخشية .
والثالث : بكاء المحبة والشوق .
والرابع : بكاء الفرح والسرور .
والخامس : بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله .
والسادس : بكاء الحزن .
والفرق بينه وبين بكاء الخوف ، أن بكاء الحزن يكون على ما مضى من حصول مكروه ، أو فوات محبوب ، وبكاء الخوف يكون لما يتوقع في المستقبل من ذلك ، والفرق بين بكاء السرور والفرح ، وبكاء الحزن ، أن دمعة السرور باردة ، والقلب فرحان ، ودمعة الحزن حارة ، والقلب حزين ، ولهذا يقال لما يفرح به : هو قرة عين ، وأقر الله به عينه ، ولما يحزن : هو سخينة العين ، وأسخن الله عينه به .
والسابع : بكاء الخور والضعف . والثامن : بكاء النفاق ، وهو أن تدمع العين ، والقلب قاس ، فيظهر صاحبه الخشوع ، وهو من أقسى الناس قلباً .
والتاسع : البكاء المستعار والمستأجر عليه ، كبكاء النائحة بالأجرة ، فإنها كما قال عمر بن الخطاب : تبيع عبرتها ، وتبكي شجو غيرها .
والعاشر : بكاء الموافقة ، وهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر ورد عليهم ، فيبكي معهم ، ولا يدري لأي شئ يبكون ، ولكن يراهم يبكون ، فيبكي .
وما كان من ذلك دمعاً بلا صوت ، فهو بكى ، مقصور ، وما كان معه صوت ، فهو بكاء ، ممدود على بناء الأصوات .
وقال الشاعر :
بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل
وما كان منه مستدعى متكلفاً ، فهو التباكي ، وهو نوعان : محمود ، ومذموم ، فالمحمود ، أن يستجلب لرقة القلب ، ولخشية الله، لا للرياء والسمعة . والمذموم : أن يجتلب لأجل الخلق ، وقد قال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسارى بدر : أخبرني ما يبكيك يا رسول الله ؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد تباكيت ، لبكائكما ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم . وقد قال بعض السلف : ابكوا من خشية الله ، فإن لم تبكوا ، فتباكوا .

اسير الصحراء 04-27-2006 01:50 AM

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبته
خطب صلى الله عليه وسلم على الأرض ، وعلى المنبر ، وعلى البعير ، وعلى الناقة . وكان إذا خطب ، احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول : " صبحكم ومساكم " ويقول : " بعثت أنا والساعة كهاتين " ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ، ويقول : " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة " .
وكان لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله . وأما قول كثير من الفقهاء : إنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار ، وخطبة العيدين بالتكبير ، فليس معهم فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة ، وسنته تقتضي خلافه ، وهو افتتاح جميع الخطب بـ الحمد لله ، وهو أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب أحمد ، وهو اختيار شيخنا قدس الله سره .
وكان يخطب قائماً ، وفي مراسيل عطاء وغيره أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس ، ثم قال : " السلام عليكم " قال الشعبي : وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك . وكان يختم خطبته بالاستغفار ، وكان كثيراً يخطب بالقرآن . وفي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت : ما أخذت " ق والقرآن المجيد " إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس . وذكر أبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال : " الحمد لله نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، من يهد الله ، فلا مضل له ، ومن يضلل ، فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة ، من يطع الله ورسوله ، فقد رشد ومن يعصهما ، فإنه لا يضر إلا نفسه ، ولا يضر الله شيئاً " وقال أبو داود عن يونس أنه سأل ابن شهاب عن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ، فذكر نحو هذا إلا أنه قال : " ومن يعصهما فقد غوى" .
قال ابن شهاب : وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خطب : " كل ما هو آت قريب ، لا بعد لما هو آت ، ولا يعجل الله لعجلة أحد ، ولا يخف لأمر الناس ، ما شاء الله ، لا ما شاء الناس ، يريد الله شيئاً ويريد الناس شيئاً ، ما شاء الله كان ، ولو كره الناس ، ولا مبعد لما قرب الله ، ولا مقرب لما بعد الله ، ولا يكون شئ إلا بإذن الله " .
وكان مدار خطبه على حمد الله ، والثناء عليه بآلائه ، وأوصاف كماله ومحامده ، وتعليم قواعد الإسلام ، وذكر الجنة والنار والمعاد ، والأمر بتقوى الله ، وتبيين موارد غضبه ، ومواقع رضاه فعلى هذا كان مدار خطبه .
وكان يقول في خطبه : " أيها الناس إنكم لن تطيقوا - أو لن تفعلوا - كل ما أمرتم به ، ولكن سددوا وأبشروا " .
وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم ، ولم يكن يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله ، ويتشهد فيها بكلمتي الشهادة ويذكر فيها نفسه باسمه العلم .
وثبت عنه أنه قال : " كل خطبة ليس فيها تشهد ، فهي كاليد الجذماء "
ولم يكن له شاويش يخرج بين يديه إذا خرج من حجرته ، ولم يكن يلبس لباس الخطباء اليوم لا طرحة ، ولا زيقاً واسعاً .
وكان منبره ثلاث درجات ، فإذا استوى عليه ، واستقبل الناس ، أخذ المؤذن في الأذان فقط ، ولم يقل شيئاً قبله ولا بعده ، فإذا أخذ في الخطبة ، لم يرفع أحد صوته بشئ البتة ، لا مؤذن ولا غيره .
وكان إذا قام يخطب ، أخذ عصا ، فتوكأ عليها وهو على المنبر ، كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب . وكان الخلفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك ، وكان أحيانا يتوكأ على قوس ، ولم يحفط عنه أنه توكأ على سيف ، وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف ، وهذا جهل قبيح من وجهين ، أحدهما : أن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم توكأ على العصا وعلى القوس . الثاني : أن الدين إنما قام بالوحي ، وأما السيف ، فلمحق أهل الضلال والشرك ، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب فيها إنما فتحت بالقرآن ، ولم تفتح بالسيف .
وكان إذا عرض له في خطبته عارض ، اشتغل به ، ثم رجع إلى خطبته ، وكان يخطب ، فجاء الحسن والحسين يعثران في قميصين أحمرين ، فقطع كلامه ، فنزل ، فحملهما ، ثم عاد إلى منبره ، ثم قال : " صدق الله العظيم " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " ( الأنفال : 28) رأيت هذين يعثران في قميصيهما ، فلم أصبر حتى قطعت كلامي فحملتهما " .
وجاء سليك ، الغطفاني وهو يخطب ، فجلس ، فقال له : " قم يا سليك فاركع ركعتين وتجوز فيهما "، ثم قال وهو على المنبر: " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب ، فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " . وكان يقصر خطبته أحياناً ، ويطيلها أحياناً بحسب حاجة الناس . وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة . وكان يخطب النساء على حدة في الأعياد ، ويحرضهن على الصدقة ، والله أعلم .

اسير الصحراء 04-27-2006 01:50 AM

فصول في هديه صلى الله عليه وسلم في العبادات
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الوضوء
كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة في غالب أحيانه ، وربما صلى الصلوات بوضوء واحد . وكان يتوضأ بالمد تارة ، وبثلثيه تارة ، وبأزيد منه تارة ، وذلك نحو أربع أواق بالدمشقي إلى أوقيتين وثلاث . وكان من أيسر الناس صباً لماء الوضوء ، وكان يحذر أمته من الإسراف فيه ، وأخبر أنه يكون في أمته من يعتدي في الطهور ، وقال : " إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء " . ومر على سعد ، وهو يتوضأ فقال له : " لا تسرف في الماء " فقال : وهل في الماء من إسراف ؟ قال : " نعم وإن كنت على نهر جار " .
وصح عنه أنه توضأ مرة مرة ، ومرتين مرتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وفي بعض الأعضاء مرتين ، وبعضها ثلاثاً .
وكان يتمضمض ويستنشق تارة بغرفة ، وتارة بغرفتين ، وتارة بثلاث . وكان يصل بين المضمضة والاستنشاق ، فيأخذ نصف الغرفة لفمه ، ونصفها لأنفه ، ولا يمكن في الغرفة إلا هذا ، وأما الغرفتان والثلاث ، فيمكن فيهما الفصل والوصل ، إلا أن هديه صلى الله عليه وسلم كان الوصل بينهما ، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " تمضمض واستنشق من كف واحدة ، فعل ذلك ثلاثا " وفي لفظ : " تمضمض واستنثر بثلاث غرفات " فهذا أصح ما روي في المضمضة والاستنشاق ، ولم يجئ الفصل بين المضمضة والاستنشاق في حديث صحيح البتة ، لكن في حديث طلحة بن مصرف ، عن أبيه ، عن جده : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق ، ولكن لا يروى إلا عن طلحة عن أبيه عن جده ، ولا يعرف لجده صحبة . وكان يستنشق بيده اليمنى ، ويستنثر باليسرى ، وكان يمسح رأسه كله ، وتارة يقبل بيديه ويدبر ، وعليه يحمل حديث من قال : مسح برأسه مرتين . والصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه ، بل كان إذا كرر غسل الأعضاء ، أفرد مسح الرأس ، هكذا جاء عنه صريحاً ، ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم خلافه البتة ، بل ما عدا هذا ، إما صحيح غير صريح ، كقول الصحابي : توضأ ثلاثاً ثلاثاً ، وكقوله: مسح برأسه مرتين ، وإما صريح غير صحيح ، كحديث ابن البيلماني ، عن أبيه ، عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من توضأ فغسل كفيه ثلاثاً " ثم قال : " ومسح برأسه ثلاثاً " وهذا لا يحتج به ، وابن البيلماني وأبوه مضعفان ، وإن كان الأب أحسن حالاً وكحديث عثمان الذي رواه أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم : " مسح رأسه ثلاثاً ". وقال أبو داود : أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة ، ولم يصح عنه في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة ، ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة . فأما حديث أنس الذي رواه أبو داود : "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية ، فأدخل يده من تحت العمامة ، فمسح مقدم رأسه ، ولم ينقض العمامة ". فهذا مقصود أنس به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الشعر كله ، ولم ينف التكميل على العمامة ، وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره ، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه . ولم يتوضأ صلى الله عليه وسلم إلا تمضمض واستنشق ، ولم يحفظ عنه أنه أخل به مرة واحدة ، وكذلك كان وضوؤه مرتباً متوالياً ، لم يخل به مرة واحدة البتة ، وكان يمسح على رأسه تارة ، وعلى العمامة تارة ، وعلى الناصية والعمامة تارة .
وأما اقتصاره على الناصية مجردة ، فلم يحفظ عنه كما تقدم . وكان يغسل رجليه إذا لم يكونا في خفين ولا جوربين ، ويمسح عليهما إذا كانا في الخفين أو الجوربين . وكان يمسح أذنيه مع رأسه ، وكان يمسح ظاهرهما وباطنهما ، ولم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماء جديداً ، وإنما صح ذلك عن ابن عمر . ولم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة ، ولم يحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئاً غير التسمية ، وكل حديث فى أذكار الوضوء الذي يقال عليه ، فكذب مختلق ، لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً منه ، ولا علمه لأمته ، ولا ثبت عنه غير التسمية في أوله ، وقوله : " أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين " في آخره . وفي حديث آخر في سنن النسائي مما يقال بعد الوضوء أيضا : " سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك " .
و لم يكن يقول في أوله : نويت رفع الحدث ، ولا استباحة الصلاة ، لا هو ، ولا أحد من أصحابه البتة ، ولم يرو عنه في ذلك حرف واحد ، لا بإسناد صحيح ، ولا ضعيف ، ولم يتجاوز الثلاث قط ، وكذلك لم يثبت عنه أنه تجاوز المرفقين والكعبين ، ولكن أبوهريرة كان يفعل ذلك ويتأول حديث إطالة الغرة . وأما حديث أبي هريرة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل يديه حتى أشرع في العضدين ، ورجليه حتى أشرع في الساقين فهو إنما يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء ، ولا يدل على مسألة الإطالة .
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتاد تنشيف أعضائه بعد الوضوء ، ولا صح عنه في ذلك حديث البتة ، بل الذي صح عنه خلافه ، وأما حديث عائشة كان للنبي صلى الله عليه وسلم خرقة ينشف بها بعد الوضوء ، وحديث معاذ بن جبل : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح على وجهه بطرف ثوبه ، فضعيفان لا يحتج بمثلهما ، في الأول سليمان بن أرقم متروك ، وفي الثاني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي ضعيف ، قال الترمذي : ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شئ .
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أن يصب عليه الماء كلما توضأ، ولكن تارة يصب على نفسه ، وربما عاونه من يصب عليه أحياناً لحاجة كما في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أنه صب عليه في السفر لما توضأ .
وكان يخلل لحيته أحياناً ، ولم يكن يواظب على ذلك . وقد اختلف أئمة الحديث فيه ، فصحح الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته . وقال أحمد وأبو زرعة : لا يثبت في تخليل اللحية حديث .
وكذلك تخليل الأصابع لم يكن يحافظ عليه ، وفي السنن عن المستورد بن شداد : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره ، وهذا إن ثبت عنه ، فإنما كان يفعله أحياناً ، ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه ، كعثمان ، وعلي ، وعبد الله بن زيد ، والربيع ، وغيرهم ، على أن في إسناده عبد الله بن لهيعة .
وأما تحريك خاتمه ، فقد روي فيه حديث ضعيف من رواية معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ حرك خاتمه . ومعمر وأبوه ضعيفان ، ذكر ذلك الدارقطني .

اسير الصحراء 04-27-2006 01:50 AM

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين
صح عنه أنه مسح في الحضر والسفر ، ولم ينسخ ذلك حتى توفي ، ووقت للمقيم يوما وليلة ، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن في عدة أحاديث حسان وصحاح ، وكان يمسح ظاهر الخفين ، ولم يصح عنه مسح أسفلهما إلا في حديث منقطع . والأحاديث الصحيحة على خلافه ، ومسح على الجوربين والنعلين ، ومسح على العمامة مقتصراً عليها ، ومع الناصية ، وثبت عنه ذلك فعلاً وأمراً في عدة أحاديث ، لكن في قضايا أعيان يحتمل أن تكون خاصة بحال الحاجة والضرورة ، ويحتمل العموم كالخفين ، وهو أظهر والله أعلم .
ولم يكن يتكلف ضد حاله التي عليها قدماه ، بل إن كانتا في الخف مسح عليهما ولم ينزعهما ، وإن كانتا مكشوفتين ، غسل القدمين ، ولم يلبس الخف ليمسح عليه ، وهذا أعدل الأقوال في مسألة الأفضل من المسح والغسل ، قاله شيخنا ، والله أعلم .

اسير الصحراء 04-27-2006 01:51 AM

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في التيمم
كان صلى الله عليه وسلم يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين ، ولم يصح عنه أنه تيمم بضربتين ، ولا إلى المرفقين . قال الإمام أحمد : من قال : إن التيمم إلى المرفقين ، فإنما هو شئ زاده من عنده . وكذلك كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها ، تراباً كانت أو سبخة أو رملاً . وصح عنه أنه قال : " حيثما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة ، فعنده مسجده وطهوره " ، وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل ، فالرمل له طهور . ولما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك ، قطعوا تلك الرمال في طريقهم ، وماؤهم في غاية القلة ، ولم يرو عنه أنه حمل معه التراب ، ولا أمر به ، ولا فعله أحد من أصحابه ، مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب ، وكذلك أرض الحجاز وغيره ، ومن تدبر هذا ، قطع بأنه كان يتيمم بالرمل ، والله أعلم وهذا قول الجمهور .
وأما ما ذكر في صفة التيمم من وضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور اليمنى ، ثم إمرارها إلى المرفق ، ثم إدارة بطن كفه على بطن الذراع ، وإقامة إبهامه اليسرى كالمؤذن ، إلى أن يصل إلى إبهامه اليمنى ، فيطبقها عليها ، فهذا مما يعلم قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ، ولاعلمه أحداً من أصحابه ، ولا أمر به ، ولا استحسنه ، وهذا هديه ، إليه التحاكم ، وكذلك لم يصح عنه التيمم لكل صلاة ، ولا أمر به ، بل أطلق التيمم ، وجعله قائماً مقام الوضوء وهذا يقتضي أن يكون حكمه حكمه ، إلا فيما اقتضى الدليل خلافه .

اسير الصحراء 04-27-2006 01:51 AM

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة
كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال : " الله أكبر " ولم يقل شيئاً قبلها ولا تلفظ بالنية البتة ، ولا قال : أصلي لله صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماماً أو مأموماً ، ولا قال : أداء ولا قضاء ، ولا فرض الوقت ، وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدة منها البتة ، ولا عن أحد من أصحابه ، ولا استحسنه أحد من التابعين ، ولا الأئمة الأربعة ، وإنما غر بعض المتأخرين قول الشافعي رضي الله عنه في الصلاة : إنها ليست كالصيام ، ولا يدخل فيها أحد إلا بذكر ، فظن أن الذكر تلفظ المصلي بالنية ، وإنما أراد الشافعي رحمه الله بالذكر : تكبيرة الإحرام ليس إلا ، وكيف يستحب الشافعى أمراً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة ، ولا أحد من خلفائه وأصحابه ، وهذا هديهم وسيرتهم ، فإن أوجدنا أحد حرفاً واحداً عنهم في ذلك ، قبلناه ، وقابلناه بالتسليم والقبول ، ولا هدي أكمل من هديهم ، ولا سنة إلا ما تلقوه عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم .
وكان دأبه في إحرامه لفظة : الله أكبر لا غيرها ، ولم ينقل أحد عنه سواها .
وكان يرفع يديه معها ممدودة الأصابع ، مستقبلاً بها القبلة إلى فروع أذنيه ، وروي إلى منكبيه ، فأبو حميد الساعدي ومن معه قالوا : حتى يحاذي بهما المنكبين ، وكذلك قال ابن عمر . وقال وائل بن حجر : إلى حيال أذنيه . وقال البراء : قريباً من أذنيه . وقيل : هو من العمل المخير فيه ، وقيل : كان أعلاها إلى فروع أذنيه ، وكفاه إلى منكبيه ، فلا يكون اختلافاً ، ولم يختلف عنه في محل هذا الرفع .
ثم يضع اليمنى على ظهر اليسرى .
وكان يستفتح تارة بـ " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ، اللهم نقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس " .
وتارة يقول : " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين ، اللهم أنت الملك ، لا إله إلا أنت ، أنت ربي ، وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي . فاغفر لي ذنوبي جميعها ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عني سيئ الأخلاق ، لايصرف عني سيئها إلا أنت ، لبيك وسعديك ، والخير كله بيديك ، والشر ليس إليك ، أنا بك وإليك تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك " ، ولكن المحفوظ أن هذا الاستفتاح إنما كان يقوله في قيام الليل .
وتارة يقول : " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " .
وتارة يقول : " اللهم لك الحمد ، أنت نور السماوات والأرض ، ومن فيهن ..." الحديث . وسيأتي في بعض طرقه الصحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كبر ، ثم قال ذلك .
وتارة يقول : " الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الحمد لله كثيراً ، الحمد لله كثيراً ، الحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ، سبحان الله بكرة وأصيلاً ، سبحان الله بكرة وأصيلاً ، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه " .
وتارة يقول : " الله أكبر عشر مرات ، ثم يسبح عشر مرات ، ثم يحمد عشراً ، ثم يهلل عشراً ، ثم يستغفر عشراً " ، ثم يقول : " اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني عشراً "، ثم يقول : " اللهم إني أعوذ بك من ضيق المقام يوم القيامة عشراً ".
فكل هذه الأنواع صحت عنه صلى الله عليه وسلم .
وروي عنه أنه كان يستفتح بـ " سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك " ذكر ذلك أهل السنن من حديث علي بن علي الرفاعي ، عن أبي المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد على أنه ربما أرسل ، وقد روي مثله من حديث عائشة رضي الله عنها ، والأحاديث التي قبله أثبت منه ، ولكن صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستفتح به في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويجهر به ، ويعلمه الناس وقال الإمام أحمد : أما أنا فأذهب إلى ما روى عن عمر ، ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الاستفتاح كان حسناً .
وإنما اختار الإمام أحمد هذا لعشرة أوجه قد ذكرتها في مواضع أخرى . منها جهر عمر به يعلمه الصحابة .
ومنها اشتماله على أفضل الكلام بعد القرآن ، فإن أفضل الكلام بعد القرآن : سبحان الله ، والحمد الله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وقد تضمنها هذا الاستفتاح مع تكبيرة الإحرام .
ومنها أنه استفتاح أخلص للثناء على الله ، وغيره متضمن للدعاء ، والثناء أفضل من الدعاء ، ولهذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن ، لأنها أخلصت لوصف الرحمن تبارك وتعالى ، والثناء عليه ، ولهذا كان سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر أفضل الكلام بعد القرآن ، فيلزم أن ما تضمنها من الاستفتاحات أفضل من غيره من الاستفتاحات .
ومنها أن غيره من الاستفتاحات عامتها إنما هي في قيام الليل في النافلة ، وهذا كان عمر يفعله ، ويعلمه الناس في الفرض .
ومنها أن هذا الاستفتاح إن شاء للثناء على الرب تعالى ، متضمن للإخبار عن صفات كماله ، ونعوت جلاله ، والاستفتاح بـ وجهت وجهي إخبار عن عبودية العبد ، وبينهما من الفرق ما بينهما .
ومنها أن من اختار الاستفتاح بـ وجهت وجهي لا يكمله ، وإنما يأخذ بقطعة من الحديث ، ويذر باقيه ، بخلاف الاستفتاح بـ سبحانك اللهم وبحمدك فإن من ذهب إليه يقوله كله إلى آخره .
وكان يقول بعد ذلك : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يقرأ الفاتحة ، وكان يجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم تارة ، ويخفيها أكثر مما يجهر بها . ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائماً في كل يوم وليلة خمس مرات أبداً ، حضراً وسفراً ، ويخفي ذلك على خلفائه الراشدين ، وعلى جمهور أصحابه ، وأهل بلده في الأعصار الفاضلة ، هذا من أمحل المحال حتى يحتاج إلى التشبث فيه بألفاظ مجملة ، وأحاديث واهية ، فصحيح تلك الأحاديث غير صريح ، وصريحها غير صحيح ، وهذا موضع يستدعي مجلداً ضخماً .
وكانت قراءته مداً ، يقف عند كل آية ، ويمد بها صوته .
فإذا فرغ من قراءة الفاتحة ، قال : آمين فإن كان يجهر بالقراءة رفع بها صوته ، وقالها من خلفه . وكان له سكتتان ، سكتة بين التكبير والقراءة ، وعنها سأله أبو هريرة ، واختلف في الثانية ، فروي أنها بعد الفاتحة . وقيل : إنها بعد القراءة وقبل الركوع . وقيل : هي سكتتان غير الأولى ، فتكون ثلاثاً ، والظاهر إنما هي اثنتان فقط ، وأما الثالثة ، فلطيفة جداً لأجل تراد النفس ، ولم يكن يصل القراءة بالركوع ، بخلاف السكتة الأولى ، فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح ، والثانية قد قيل : إنها لأجل قراءة المأموم ، فعلى هذا : ينبغي تطويلها بقدر قراءة الفاتحة ، وأما الثالثة ، فللراحة والنفس فقط ، وهي سكتة لطيفة ، فمن لم يذكرها ، فلقصرها ، ومن اعتبرها ، جعلها سكتة ثالثة ، فلا اختلاف بين الروايتين ، وهذا أظهر ما يقال في هذا الحديث . وقد صح حديث السكتتين ، من رواية سمرة ، وأبي بن كعب ، وعمران بن حصين ، ذكر ذلك أبو حاتم في صحيحه وسمرة هو ابن جندب ، وقد تبين بذلك أن أحد من روى حديث السكتتين سمرة بن جندب وقد قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين : سكتة إذا كبر ، وسكتة إذا فرغ من قراءة " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " . وفي بعض طرق الحديث: فإذا فرغ من القراءة ، سكت وهذا كالمجمل ، واللفظ الأول مفسر مبين ، ولهذا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : للإمام سكتتان ، فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب إذا افتتح الصلاة ، وإذا قال : ولا الضالين على أن تعيين محل السكتتين ، إنما هو من تفسير قتادة ، فإنه روى الحديث عن الحسن ، عن سمرة قال : سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنكر ذلك عمران ، فقال : حفظناها سكتة ، فكتبنا إلى أبي بن كعب بالمدينة ، فكتب أبي أن قد حفظ سمرة ، قال سعيد : فقلنا لقتادة ما هاتان السكتتان قال : إذا دخل في الصلاة ، وإذا فرغ من القراءة ، ثم قال بعد ذلك : وإذا قال : ولا الضالين . قال : وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يتراد إليه نفسه ومن يحتج بالحسن عن سمرة يحتج بهذا .
فإذا فرغ من الفاتحة ، أخذ في سورة غيرها ، وكان يطيلها تارة ويخففها لعارض من سفر أو غيره ، ويتوسط فيها غالباً .
وكان يقرأ في الفجر بنحو ستين آية إلى مائة آية ، وصلاها بسورة ( ق) وصلاها بـ ( الروم ) وصلاها بـ ( إذا الشمس كورت ) وصلاها بـ ( إذا زلزلت ) في الركعتين كليهما ، وصلاها بـ ( المعوذتين ) وكان في السفر وصلاها ، فافتتح بـ ( سورة المؤمنين ) حتى إذا بلغ ذكر موسى وهارون في الركعة الأولى ، أخذته سعلة فركع .
وكان يصليها يوم الجمعة بـ ( ألم تنزيل السجدة ) وسورة ( هل أتى على الإنسان ) كاملتين ، ولم يفعل ما يفعله كثير من الناس اليوم من قراءة بعض هذه وبعض هذه في الركعتين ، وقراءة السجدة وحدها في الركعتين ، وهو خلاف السنة . وأما ما يظنه كثير من الجهال أن صبح يوم الجمعة فضل بسجدة ، فجهل عظيم ، ولهذا كره بعض الأئمة قراءة سورة السجدة لأجل هذا الظن ، وإنما كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين لما اشتملتا عليه من ذكر المبدإ والمعاد ، وخلق آدم ، ودخول الجنة والنار ، وذلك مما كان ويكون في يوم الجمعة ، فكان يقرأ في فجرها ما كان ويكون في ذلك اليوم ، تذكيراً للأمة بحوادث هذا اليوم ، كما كان يقرأ في المجامع العظام كالأعياد والجمعة بسورة ( ق ) و ( و اقتربت ) و ( سبح ) و ( الغاشية ) .

اسير الصحراء 04-27-2006 01:52 AM

فصل في إطالة الركعة الأولى وقراءة السور وغير ذلك
وأما الظهر ، فكان يطيل قراءتها أحياناً ، حتى قال أبو سعيد : " كانت صلاة الظهر تقام ، فيذهب الذاهب إلى البقيع ، فيقضي حاجته ، ثم يأتي أهله ، فيتوضأ، ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطيلها " رواه مسلم .
وكان يقرأ فيها تارة بقدر ( ألم تنزيل ) وتارة بـ ( سبح اسم ربك الأعلى ) و ( الليل إذا يغشى ) وتارة بـ ( السماء ذات البروج ) و ( السماء والطارق ) .
وأما العصر ، فعلى النصف من قراءة صلاة الظهر إذا طالت ، وبقدرها إذا قصرت .
وأما المغرب ، فكان هديه فيها خلاف عمل الناس اليوم ، فإنه صلاها مرة بـ ( الأعراف ) فرقها في الركعتين ، ومرة بـ ( الطور ) ومرة بـ ( المرسلات ) .
قال أبو عمر بن عبد البر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بـ ( المص ) وأنه قرأ فيها بـ ( الصافات ) وأنه قرأ فيها بـ ( حم الدخان ) وأنه قرأ فيها بـ ( سبح اسم ربك الأعلى ) وأنه قرأ فيها بـ ( التين والزيتون ) وأنه قرأ فيها بـ ( المعوذتين ) وأنه قرأ فيها بـ ( المرسلات ) وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل . قال : وهى كلها آثار صحاح مشهورة . انتهى .
وأما المداومة فيها على قراءة قصار المفصل دائماً ، فهو فعل مروان بن الحكم ، ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت ، وقال : ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل ؟! وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين . قال : قلت : وما طولى الطوليين ؟ قال : ( الأعراف ) وهذا حديث صحيح رواه أهل السنن .
وذكر النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بسورة ( الأعراف ) فرقها في الركعتين . فالمحافظة فيها على الآية القصيرة ، والسورة من قصار المفصل خلاف السنة ، وهو فعل مروان بن الحكم .
وأما العشاء الآخرة ، فقرأ فيها صلى الله عليه وسلم بـ ( التين والزيتون ) ووقت لمعاذ فيها بـ ( الشمس وضحاها ) و( سبح اسم ربك الأعلى) و( الليل إذا يغشى ) ونحوها ، وأنكر عليه قراءته فيها بـ ( البقرة ) بعدما صلى معه ، ثم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ، فأعادها لهم بعدما مضى من الليل ما شاء الله ، وقرأ بهم بـ ( البقرة ) ولهذا قال له : " أفتان أنت يا معاذ " فتعلق النقارون بهذه الكلمة ، ولم يلتفتوا إلى ما قبلها ولا ما بعدها .
وأما الجمعة ، فكان يقرأ فيها بسورتي ( الجمعة ) و ( المنافقين ) كاملتين و ( سورة سبح ) و ( الغاشية ) .
وأما الاقتصار على قراءة أواخر السورتين من " يا أيها الذين آمنوا " إلى آخرها ، فلم يفعله قط ، وهو مخالف لهديه الذي كان يحافظ عليه .
وأما قراءته في الأعياد ، فتارة كان يقرأ سورتي ( ق ) و ( اقتربت) كاملتين ، وتارة سورتي ( سبح ) و ( الغاشية ) وهذا هو الهدي الذي استمر صلى الله عليه وسلم عليه إلى أن لقي الله عز وجل ، لم ينسخه شئ .
ولهذا أخذ به خلفاؤه الراشدون من بعده ، فقرأ أبو بكر رضي الله عنه في الفجر بسورة ( البقرة ) حتى سلم منها قريباً من طلوع الشمس ، فقالوا : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ كادت الشمس تطلع ، فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين .
وكان عمر رضي الله عنه يقرأ فيها بـ ( يوسف ) و ( النحل ) و بـ ( هود ) و ( بني إسرائيل ) ونحوها من السور ، ولو كان تطويله صلى الله عليه وسلم منسوخاً لم يخف على خلفائه الراشدين ، ويطلع عليه النقارون .
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر " ق والقرآن المجيد " وكانت صلاته بعد تخفيفاً فالمراد بقوله بعد أي : بعد الفجر ، أي : إنه كان يطيل قراءة الفجر أكثر من غيرها ، وصلاته بعدها تخفيفاً . ويدل على ذلك قول أم الفضل وقد سمعت ابن عباس يقرأ و ( المرسلات عرفاً ) فقالت : يا بني لقد ذكرتني بقراءة هذه السورة ، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب فهذا في آخر الأمر .
وأيضا فإن قوله : وكانت صلاته بعد غاية قد حذف ما هي مضافة إليه ، فلا يجوز إضمار ما لا يدل عليه السياق ، وترك إضمار ما يقتضيه السياق ، والسياق إنما يقتضي أن صلاته بعد الفجر كانت تخفيفاً ، ولا يقتضي أن صلاته كلها بعد ذلك اليوم كانت تخفيفاً ، هذا ما لا يدل عليه اللفظ ، ولو كان هو المراد ، لم يخف على خلفائه الراشدين ، فيتمسكون بالمنسوخ ، ويدعون الناسخ .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " أيكم أم الناس ، فليخفف " وقول أنس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف الناس صلاة في تمام فالتخفيف أمر نسبي يرجع إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، وواظب عليه ، لا إلى شهوة المأمومين ، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمرهـم بأمر ، ثم يخالفه ، وقد عالم أن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة ، فالذي فعله هو التخفيف الذي أمر به ، فإنه كان يمكن أن تكون صلاته أطول من ذلك بأضعاف مضاعفة ، فهي خفيفة بالنسبة إلى أطول منها ، وهديه الذي كان واظب عليه هو الحاكم على كل ما تنازغ فيه المتنازعون ، ويدل عليه ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بـ ( الصافات ) فالقرءاة بـ ( الصافات ) من التخفيف الذي كان يأمر به ، والله أعلم .

اسير الصحراء 04-27-2006 01:53 AM

فصل في هديه عدم تعيينه سورة بعينها إلا في الجمعة والعيدين
وكان صلى الله عليه وسلم لا يعين سورة في الصلاة بعينها لا يقرأ إلا بها إلا في الجمعة والعيدين ، وأما في سائر الصلوات ، فقد ذكر أبو داود من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أنه قال : ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس بها في الصلاة المكتوبة . وكان من هديه قراءة السورة كاملة ، وربما قرأها في الركعتين ، وربما قرأ أول السورة . وأما قراءة أواخر السور وأوساطها، فلم يحفظ عنه . وأما قراءة السورتين في ركعة ، فكان يفعله في النافلة ، وأما في الفرض ، فلم يحفظ عنه . وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه : إني لأعرف النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن السورتين في الركعة ( الرحمن ) و ( النجم ) في ركعة و ( اقتربت) و ( الحاقة ) في ركعة و ( الطور ) و ( الذرايات ) في ركعة و ( إذا وقعت ) و( ن ) في ركعة الحديث فهذا حكاية فعل لم يعين محله هل كان في الفرض أو النفل ؟ وهو محتمل . وأما قراءة سورة واحدة في ركعتين معاً ، فقلما كان يفعله . وقد ذكر أبو داود عن رجل من جهينة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح ( إذا زلزلت) في الركعتين كلتيهما، قال : فلا أدري أنسي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم قرأ ذلك عمداً .

اسير الصحراء 04-27-2006 01:54 AM

فصل في إطالة الركعة الأولى على الثانية من صلاة الصبح

فصل
وكان صلى الله عليه وسلم يطيل الركعة الأولى على الثانية من صلاة الصبح ومن كل صلاة ، وربما كان يطيلها حتى لا يسمع وقع قدم ، وكان يطيل صلاة الصبح أكثر من سائر الصلوات ، وهذا لأن قرآن الفجر مشهود ، يشهده الله تعالى وملائكته ، وقيل : يشهده ملائكة الليل والنهار ، والقولان مبنيان على أن النزول الإلهي هل يدوم إلى انقضاء صلاة الصبح ، أو إلى طلوع الفجر ؟ وقد ورد فيه هذا وهذا . وأيضا فإنها لما نقص عدد ركعاتها ، جعل تطويلها عوضاً عما نقصته من العدد .
وأيضاً فإنها تكون عقيب النوم ، والناس مستريحون .
وأيضاً فإنهم لم يأخذوا بعد في استقبال المعاش ، وأسباب الدنيا .
وأيضاً فإنها تكون في وقت تواطأ فيه السمع واللسان والقلب لفراغه وعدم تمكن الاشتغال فيه ، فيفهم القرآن ويتدبره .
وأيضاً فإنها أساس العمل وأوله ، فأعطيت فضلاً من الاهتمام بها وتطويلها ، وهذه أسرار إنما يعرفها من له إلتفات إلى أسرار الشريعة ومقاصدها وحكمها ، والله المستعان .


الساعة الآن 07:45 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
][ ملاحظة: جميع المشاركات تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تمثل راي ادارة المنتدى بالضرورة، نأمل من الجميع الالتزام بقوانين الحوار المحترم ][