![]() |
الخامسة والعشرون : أن للصدقة فيه مزية عليها في سائر الأيام ، والصدقة فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع ، كالصدقة في شهر رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور . وشاهدت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ، إذا خرج إلى الجمعة يأخذ ما وجد في البيت من خبز أو غيره ، فيتصدق به في طريقه سراً ، وسمعته يقول : إذا كان الله قد أمرنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالصدقة بين يدي مناجاته تعالى أفضل وأولى بالفضيلة . وقال أحمد بن زهير بن حرب : حدثنا أبي ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : اجتمع أبو هريرة ، وكعب ، فقال أبو هريرة : إن في الجمعة لساعة لا يوافقها رجل مسلم في صلاة يسأل الله عز وجل شيئاً إلا آتاه إياه ، فقال كعب : أنا أحدثكم عن يوم الجمعة ، إنه إذا كان يوم الجمعة فزعت له السماوات والأرض ، والبر ، والبحر ، والجبال ، والشجر ، والخلائق كلها ، إلا ابن آدم والشياطين ، وحفت الملائكة بأبواب المسجد ، فيكتبون من جاء الأول فالأول حتى يخرج الإمام ، فإذا خرج الإمام ، طووا صحفهم ، فمن جاء بعد ، جاء لحق الله ، لما كتب عليه ، وحق على كل حالم أن يغتسل يومئذ كاغتساله من الجنابة ، والصدقة فيه أعظم من الصدقة في سائر الأيام ، ولم تطلع الشمس ولم تغرب على مثل يوم الجمعة . فقال ابن عباس : هذا حديث كعب وأبي هريرة ، وأنا أرى إن كان لأهله طيب يمس منه .
|
السادسة والعشرون : أنه يوم يتجلى الله عز وجل فيه لأوليائه المؤمنين في الجنة ، وزيارتهم له ، فيكون أقربهم منهم أقربهم من الإمام ، وأسبقهم إلى الزيارة أسبقهم إلى الجمعة . وروى يحيى بن يمان ، عن شريك ، عن أبي اليقظان ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، في قوله عز وجل : " ولدينا مزيد " ( ق : 35) قال : يتجلى لهم في كل جمعة .
وذكر الطبراني في معجمه ، من حديث أبي نعيم المسعودي ، عن المنهال بن عمرو ، عن أبي عبيدة قال : قال عبد الله : سارعوا إلى الجمعة ، فإن الله عز وجل يبرز لأهل الجنة في كل جمعة في كثيب من كافور فيكونون منه في القرب على قدر تسارعهم إلى الجمعة ، فيحدث الله سبحانه لهم من الكرامة شيئاً لم يكونوا قد رأوه قبل ذلك ، ثم يرجعون إلى أهليهم ، فيحدثونهم بما أحدث الله لهم . قال : ثم دخل عبد الله المسجد ، فإذا هو برجلين ، فقال عبد الله : رجلان وأنا الثالث ، إن يشأ الله يبارك في الثالث . وذكر البيهقي في الشعب عن علقمة بن قيس قال : رحت مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى جمعة ، فوجد ثلاثة قد سبقوه ، فقال : رابع أربعة ، وما رابع أربعة ببعيد . ثم قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الناس يجلسون يوم القيامة من الله على قدر رواحهم إلى الجمعة ، الأول ، ثم الثاني ، ثم الثالث ، ثم الرابع " . ثم قال : وما أربع أربعة ببعيد . قال الدارقطني في كتاب الرؤية : حدثنا أحمد بن سلمان بن الحسن ، حدثنا محمد بن عثمان بن محمد ، حدثنا مروان بن جعفر، حدثنا نافع أبو الحسن مولى بني هاشم ، حدثنا عطاء بن أبي ميمونة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة ، رأى المؤمنون ربهم ، فأحدثهم عهداً بالنظر إليه من بكر في كل جمعة ، وتراه المؤمنات يوم الفطر ويوم النحر ". حدثنا محمد بن نوح ، حدثنا محمد بن موسى بن سفيان السكري ، حدثنا عبد الله بن الجهم الرازي ، حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن أبي طيبة ، عن عاصم ، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " أتاني جبريل وفي يده كالمرآة البيضاء فيها كالنكتة السوداء ، فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذه الجمعة يعرضها الله عليك لتكون لك عيداً ولقومك من بعدك ، قلت : وما لنا فيها ؟ قال : لكم فيها خير ، أنت فيها الأول ، واليهود والنصارى من بعدك ، ولك فيها ساعة لا يسأل الله عز وجل عبد فيها شيئاً هو له قسم إلا أعطاه ، أو ليس له قسم إلا أعطاه أفضل منه ، وأعاذه الله من شر ما هو مكتوب عليه ، وإلا دفع عنه ما هو أعظم من ذلك . قال : قلت : وما هذه النكتة السوداء ؟ قال : هي الساعة تقوم يوم الجمعة، وهو عندنا سيد الأيام ، ويدعوه أهل الآخرة يوم المزيد . قال : قلت : يا جبريل ! وما يوم المزيد ؟ قال : ذلك أن ربك عز وجل اتخذ في الجنة وادياً أفيح من مسك أبيض ، فإذا كان يوم الجمعة ، نزل على كرسيه ، ثم حف الكرسي بمنابر من نور ، فيجيء النبيون حتى يجلسوا عليها ، ثم حف المنابر بمنابر من ذهب ، فيجيء الصديقون والشهداء حتى يجلسوا عليها ، ويجيء أهل الغرف حتى يجلسوا على الكثب ، قال : ثم يتجلى لهم ربهم عز وجل ، قال : فينظرون إليه فيقول : أنا الذي صدقتم وعدي ، وأتممت عليكم نعمتي ، وهذا محل كرامتي فسلوني ، فيسألونه الرضى . قال : رضاي أنزلكم داري ، وأنالكم كرامتي ، فسلوني ، فيسألونه الرضى . قال : فيشهد لهم بالرضى ، ثم يسألونه ، حتى تنتهي رغبتهم ، ثم يفتح لهم عند ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . قال : ثم يرتفع رب العزة ، ويرتفع معه النبيون والشهداء ، ويجيء أهل الغرف إلى غرفهم . قال : كل غرفة من لؤلؤة لا وصل فيها ولا فصم ، ياقوتة حمراء ، وغرفة من زبرجدة خضراء ، أبوابها وعلاليها وسقائفها وأغلاقها منها أنهارها مطردة متدلية فيها أثمارها ، فيها أزواجها وخدمها . قال : فليسوا إلى شئ أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا من كرامة الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم ، فذلك يوم المزيد " . ولهذا الحديث عدة طرق ، ذكرها أبو الحسن الدارقطني في كتاب الرؤية . |
السابعة والعشرون : أنه قد فسر الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه بيوم الجمعة ، قال حميد بن زنجويه : حدثنا عبد الله بن موسى ، أنبأنا موسى بن عبيدة ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اليوم الموعود : يوم القيامة ، واليوم المشهود : هو يوم عرفة ، والشاهد يوم الجمعة ، ما طلعت شمس ، ولا غربت على أفضل من يوم الجمعة ، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله فيها بخير إلا استجاب له ، أو يستعيذه من شر إلا أعاذه منه " .
ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده ، عن روح ، عن موسى بن عبيدة . وفي معجم الطبراني ، من حديث محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثنى أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اليوم الموعود : يوم القيامة ، والشاهد يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة ، ويوم الجمعة ذخره الله لنا ، وصلاة الوسطى صلاة العصر " وقد روي من حديث جبير بن مطعم . قلت : والظاهر - والله أعلم -: أنه من تفسير أبي هريرة ، فقد قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة سمعت علي بن زيد ويونس بن عبيد يحدثان عن عمار مولى بني هاشم ، عن أبي هريرة ، أما علي بن زيد ، فرفعه إلى النبي ، وأما يونس، فلم يعد أبا هريرة أنه قال : في هذه الآية : " وشاهد ومشهود " قال : الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، والموعود: يوم القيامة . |
الثامنة والعشرون : أنه اليوم الذي تفزع منه السماوات والأرض ، والجبال ، والبحار ، والخلائق كلها إلا الإنس والجن ، فروى أبو الجواب ، عن عمار بن رزيق ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : اجتمع كعب وأبو هريرة ، فقال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه " . فقال كعب : ألا أحدثكم عن يوم الجمعة ، إنه إذا كان يوم الجمعة ، فزعت له السماوات والأرض ، والجبال ، والبحار ، والخلائق كلها إلا ابن آدم والشياطين ، وحفت الملائكة بأبواب المساجد ، فيكتبون الأول فالأول حتى يخرج الإمام ، فإذا خرج الإمام ، طووا صحفهم ، ومن جاء بعد جاء لحق الله ، ولما كتب عليه ، ويحق على كل حالم أن يغتسل فيه ، كاغتساله من الجنابة ، والصدقة فيه أفضل من الصدقة في سائر الأيام ، ولم تطلع الشمس ولم تغرب على يوم كيوم الجمعة . قال ابن عباس : هذا حديث كعب ، وأبي هريرة ، وأنا أرى ، من كان لأهله طيب أن يمس منه يومئذ .
وفي حديث أبي هريرة : عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة ، وما من دابة إلا وهي تفزع ليوم الجمعة إلا هذين الثقلين من الجن والإنس " ، وهذا حديث صحيح . وذلك أنه اليوم الذي تقوم فيه الساعة ، ويطوى العالم ، وتخرب فيه الدنيا ، ويبعث فيه الناس إلى منازلهم من الجنة والنار . |
التاسعة والعشرون : أنه اليوم الذي ادخره الله لهذه الأمة ، وأضل عنه أهل الكتاب قبلهم ، كما في الصحيح ، من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما طلعت الشمس ، ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة ، هدانا الله له ، وضل الناس عنه ، فالناس لنا فيه تبع ، هو لنا ، ولليهود يوم السبت ، وللنصاري يوم الأحد " . وفي حديث آخر " ذخره الله لنا " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمر بن قيس ، عن محمد بن الأشعث ، عن عائشة قالت : بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ استأذن رجل من اليهود ، فأذن له ، فقال : السام عليك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : وعليك . قالت : فهممت أن أتكلم ، قالت : ثم دخل الثانية ، فقال مثل ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وعليك ، قالت : فهممت أن أتكلم ، ثم دخل الثالثة ، فقال : السام عليكم ، قالت ، فقلت : بل السام عليكم ، وغضب الله ، إخوان القردة والخنازير ، أتحيون رسول الله بما لم يحيه به الله عز وجل . قالت : فنظر إلي فقال : مه إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ، قالوا قولاً فرددناه عليهم ، فلم يضرنا شيئاً ، ولزمهم إلى يوم القيامة ، إنهم لا يحسدوننا على شئ كما يحسدوننا على الجمعة التي هدانا الله لها ، وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا الله لها ، وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ، عن النبى صلى الله عليه وسلم ، " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم ، فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غداً ، والنصارى بعد غد " . وفي بيد لغتان بالباء ، وهي المشهورة ، وميد بالميم ، حكاها أبوعبيد . وفي هذه الكلمة قولان ، أحدهما : أنها بمعنى غير وهو أشهر معنييها ، والثاني : بمعنى على وأنشد أبو عبيد شاهداً له : عمداً فعلت ذاك بيد أني إخال لو هلكت لم ترني ترني : تفعلي من الرنين . |
الثلاثون : أنه خيرة الله من أيام الأسبوع ، كما أن شهر رمضان خيرته من شهور العام ، وليلة القدر خيرته من الليالي ، ومكة خيرته من الأرض ، ومحمد صلى الله عليه وسلم خيرته من خلقه .
قال أدم بن أبي إياس : حدثنا شيبان أبو معاوية ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبى صالح ، عن كعب الأحبار . قال : إن الله عز وجل اختار الشهور ، واختار شهر رمضان ، واختار الأيام ، واختار يوم الجمعة ، واختار الليالي ، واختار ليلة القدر ، واختار الساعات ، واختار ساعة الصلاة ، والجمعة تكفر ما بينها وبين الجمعة الأخرى ، وتزيد ثلاثاً ، ورمضان يكفر ما بينه وبين رمضان ، والحج يكفر ما بينه وبين الحج ، والعمرة تكفر ما بينها وبين العمرة ، ويموت الرجل بين حسنتين : حسنة قضاها ، وحسنة ينتظرها يعني صلاتين ، وتصفد الشياطين في رمضان ، وتغلق أبواب النار ، وتفتح فيه أبواب الجنة ، ويقال فيه : يا باغي الخير : هلم . رمضان أجمع ، وما من ليال أحب إلى الله العمل فيهن من ليالي العشر . |
الحادية والثلاثون : إن الموتى تدنو أرواحهم من قبورهم ، وتوافيها في يوم الجمعة ، فيعرفون زوارهم ومن يمر بهم ، ويسلم عليهم ، ويلقاهم في ذلك اليوم أكثر من معرفتهم بهم في غيره من الأيام ، فهو يوم تلتقي فيه الأحياء والأموات ، فإذا قامت فيه الساعة ، التقى الأولون والآخرون ، وأهل الأرض وأهل السماء ، والرب والعبد ، والعامل وعمله ، والمظلوم وظالمه ، والشمس والقمر ، ولم تلتقيا قبل ذلك قط ، وهو يوم الجمع واللقاء ، ولهذا يلتقي الناس فيه في الدنيا أكثر من التقائهم في غيره ، فهو يوم التلاق . قال أبو التياح يزيد بن حميد . كان مطرف بن عبد الله يبادر فيدخل كل جمعة ، فأدلج حتى إذا كان عند المقابر يوم الجمعة ، قال : فرأيت صاحب كل قبر جالساً على قبره ، فقالوا : هذا مطرف يأتي الجمعة ، قال . فقلت لهم : و تعلمون عندكم الجمعة ؟ قالوا : نعم ، ونعلم ما تقول فيه الطير ، قلت : وما تقول فيه الطير ؟ قالوا : تقول : رب سلم سلم يوم صالح .
وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب المنامات وغيره ، عن بعض أهل عاصم الجحدري ، قال : رأيت عاصماً الجحدري في منامي بعد موته لسنتين ، فقلت : أليس قد مت ؟ قال : بلى ، قلت : فأين أنت ؟ قال : أنا والله في روضة من رياض الجنة ، أنا ونفر من أصحابي ، نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني ، فنتلقى أخباركم . قلت : أجسامكم أم أرواحكم ؟ قال : هيهات بليت الأجسام ، وإنما تتلاقى الأرواح ، قال : قلت : فهل تعلمون بزيارتنا لكم ؟ قال : نعلم بها عشية الجمعة ، ويوم الجمعة كله ، وليلة السبت إلى طلوع الشمس . قال : قلت : فكيف ذلك دون الأيام كلها ؟ قال : لفضل يوم الجمعة وعظمته . وذكر ابن أبي الدنيا أيضاً ، عن محمد بن واسع ، أنه كان يذهب كل غداة سبت حتى يأتي الجبانة ، فيقف على القبور ، فيسلم عليهم ، ويدعوا لهم ، ثم ينصرف . فقيل له : لو صيرت هذا اليوم يوم الإثنين . قال : بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة، ويوماً قبله ، ويوماً بعده . وذكر عن سفيان الثوري ، قال : بلغني عن الضحاك ، أنه قال : من زار قبراً يوم السبت قبل طلوع الشمس ، علم الميت بزيارته . فقيل له : كيف ذلك ؟ قال : لمكان يوم الجمعة . |
الثانية والثلاثون : أنه يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم ، هذا منصوص أحمد ، قال الأثرم : قيل لأبي عبد الله : صيام يوم الجمعة ؟ فذكر حديث النهي عن أن يفرد ، ثم قال : إلا أن يكون في صيام كان يصومه ، وأما أن يفرد ، فلا . قلت : رجل كان يصوم يوماً ، ويفطر يوماً ، فوقع فطره يوم الخميس ، وصومه يوم الجمعة ، وفطره يوم السبت ، فصار الجمعة مفرداً ؟ قال : هذا إلا أن يتعمد صومه خاصة ، إنما كره أن يتعمد الجمعة .
وأباح مالك ، وأبو حنيفة صومه كسائر الأيام ، قال مالك : لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة ، وصيامه حسن ، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه ، وأراه كان يتحراه . قال ابن عبد البر : اختلفت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في صيام يوم الجمعة ، فروى ابن مسعود رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ، وقال : فلما رأيته مفطراً يوم الجمعة وهذا حديث صحيح . وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أنه قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر يوم الجمعة قط . ذكره ابن أبي شيبة ، عن حفص بن غياث ، عن ليث بن أبي سليم ، عن عمير بن أبي عمير ، عن ابن عمر . وروى ابن عباس ، أنه كان يصومه ويواظب عليه . وأما الذي ذكره مالك ، فيقولون : إنه محمد بن المنكدر . وقيل : صفوان بن سليم . وروى الدراوردي ، عن صفوان بن سليم ، عن رجل من بني جشم ، أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من صام يوم الجمعة ، كتب له عشرة أيام غرر زهر من أيام الآخرة لا يشاكلهن أيام الدنيا " . والأصل في صوم يوم الجمعة أنه عمل بر لا يمنع منه إلا بدليل لا معارض له . قلت : قد صح المعارض صحة لا مطعن فيها البتة ، ففي الصحيحين ، عن محمد بن عباد ، قال : سألت جابراً : أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة ؟ قال : نعم . وفي صحيح مسلم ، "عن محمد بن عباد ، قال : سألت جابر بن عبد الله ، وهو يطوف بالبيت : أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة ؟ قال : نعم ورب هذه البنية . " وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله ، أو يوماً بعده " . واللفظ للبخاري . وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن النبي ، قال : " لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام ، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " . وفي صحيح البخاري ، عن جويرية بنت الحارث ، "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهى صائمة ، فقال : أصمت أمس ؟ قالت : لا . قال : فتريدين أن تصومي غداً ؟ قالت : لا . قال : فأفطري " . وفي مسند أحمد عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تصوموا يوم الجمعة وحده " . وفي مسنده أيضاً عن جنادة الأزدي قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة في سبعة من الأزد ، أنا ثامنهم وهو يتغدي ، فقال : " هلموا إلى الغداء " فقلنا : يا رسول الله ! إنا صيام . فقال : " أصمتم أمس "؟ قلنا : لا . قال : " فتصومون غداً ؟ "قلنا : لا . قال : " فأفطروا ". قال : فأكلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فلما خرج وجلس على المنبر ، دعا بإناء ماء ، فشرب وهو على المنبر ، والناس ينظرون إليه ، يريهم أنه لا يصوم يوم الجمعة . وفي مسنده أيضاً ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوم الجمعة يوم عيد ، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده ". وذكر ابن أبي شيبة ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمران بن ظبيان ، عن حكيم بن سعد ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : من كان منكم متطوعاً من الشهر أياماً ، فليكن في صومه يوم الخميس ، ولا يصم يوم الجمعة ، فإنه يوم طعام وشراب ، وذكر ، فيجمع الله له يومين صالحين : يوم صيامه ، ويوم نسكه مع المسلمين . وذكر ابن جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : إنهم كرهوا صوم الجمعة ، ليقووا على الصلاة . قلت : المأخذ في كراهته : ثلاثة أمور ، هذا أحدها ، ولكن يشكل عليه زوال الكراهية بضم يوم قبله ، أو بعده إليه . والثاني : أنه يوم عيد ، وهو الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم وقد أورد على هذا التعليل إشكالان . أحدهما : أن صومه ليس بحرام ، و صوم يوم العيد حرام . والثاني : إن الكراهة تزول بعدم إفراده ، وأجيب عن الإشكالين ، بأنه ليس عيد العام ، بل عيد الأسبوع ، والتحريم إنما هو لصوم عيد العام . وأما إذا صام يوماً قبله ، أو يوماً بعده ، فلا يكون قد صامه لأجل كونه جمعة وعيداً . فتزول المفسدة الناشئة من تخصيصه ، بل يكون داخلاً في صيامه تبعاً ، وعلى هذا يحمل ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده و النسائي ، والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود إن صح قال : قلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر يوم جمعة . فإن صح هذا ، تعين حمله على أنه كان يدخل في صيامه تبعاً ، لا أنه كان يفرده لصحة النهي عنه . وأين أحاديث النهي الثابتة في الصحيحين ، من حديث الجواز الذي لم يروه أحد من أهل الصحيح ، وقد حكم الترمذي بغرابته ، فكيف تعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة ، ثم يقدم عليها ؟! والمأخذ الثالث : سد الذريعة من أن يلحق بالدين ما ليس فيه ، ويوجب التشبه بأهل الكتاب في تخصيص بعض الأيام بالتجرد عن الأعمال الدنيوية ، وينضم إلى هذا المعنى : أن هذا اليوم لما كان ظاهر الفضل على الأيام ، كان الداعي إلى صومه قوياً ، فهو في مظنة تتابع الناس في صومه ، واحتفالهم به ما لا يحتفلون بصوم يوم غيره ، وفي ذلك إلحاق بالشرع ما ليس منه . ولهذا المعنى - والله أعلم - نهى عن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام من بين الليالي ، لأنها من أفضل الليالي ، حتى فضلها بعضهم على ليلة القدر ، وحكيت رواية عن أحمد ، فهي في مظنة تخصيصها بالعبادة ، فحسم الشارع الذريعة ، وسدها بالنهي ، عن تخصيصها بالقيام . والله أعلم . فإن قيل : ما تقولون في تخصيص يوم غيره بالصيام ؟ قيل : أما تخصيص ما خصصه الشارع ، كيوم الإثنين ، ويوم عرفة ، ويوم عاشوراء ، فسنة ، وأما تخصيص غيره ، كيوم السبت ، والثلاثاء ، والأحد ، والأربعاء ، فمكروه . وما كان منها أقرب إلى التشبه بالكفار لتخصيص أيام أعيادهم بالتعظيم والصيام ، فأشد كراهة ، وأقرب إلى التحريم . |
الثالثة الثلاثون : إنه يوم اجتماع الناس وتذكيرهم بالمبدإ والمعاد ، وقد شرع الله سبحانه وتعالى لكل أمة في الأسبوع يوماً يتفرغون فيه للعبادة ، ويجتمعون فيه لتذكر المبدإ والمعاد ، والثواب والعقاب ، ويتذكرون به اجتماعهم يوم الجمع الأكبر قياماً بين يدي رب العالمين ، وكان أحق الأيام بهذا الغرض المطلوب اليوم الذي يجمع الله فيه الخلائق ، وذلك يوم الجمعة ، فادخره الله لهذه الأمة لفضلها وشرفها فشرع اجتماعهم في هذا اليوم لطاعته ، وقدر اجتماعهم فيه مع الأمم لنيل كرامته ، فهو يوم الاجتماع شرعاً في الدنيا ، وقدراً في الآخرة ، وفي مقدار انتصافه وقت الخطبة والصلاة يكون أهل الجنة في منازلهم ، وأهل النار في منازلهم ، كما ثبت عن ابن مسعود من غير وجه أنه قال : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في منازلهم ، وأهل النار في منازلهم ، وقرأ " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " (الفرقان : 24) وقرأ : " ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم " ، وكذلك هي في قراءته . ولهذا كون الأيام سبعة إنما تعرفه الأمم التي لها كتاب ، فأما أمة لا كتاب لها ، فلا تعرف ذلك إلا من تلقاه منهم عن أمم الأنبياء ، فإنه ليس هنا علامة حسية يعرف بها كون الأيام سبعة ، بخلاف الشهر والسنة ، وفصولها ، ولما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، وتعرف بذلك إلى عباده على ألسنة رسله وأنبيائه ، شرع لهم في الأسبوع يوماً يذكرهم فيه بذلك ، وحكمة الخلق وما خلقوا له ، وبأجل العالم ، وطي السماوات والأرض ، وعود الأمر كما بدأه سبحانه وعداً عليه حقاً ، وقولاً صدقاً ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر يوم الجمعة سورتي ( ألم تنزيل ) و ( هل أتى على الإنسان ) لما اشتملت عليه هاتان السورتان مما كان ويكون من المبدإ والمعاد ، وحشر الخلائق ، وبعثهم من القبور إلى الجنة والنار ، لا لأجل السجدة كما يظنه من نقص علمه ومعرفته ، فيأتي بسجدة من سورة أخرى ، ويعتقد أن فجر يوم الجمعة فضل بسجدة ، وينكر على من لم يفعلها .
|
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبه
كان إذا خطب ، احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش ، يقول : " صبحكم ومساكم " ويقول : " بعثت أنا والساعة كهاتين ، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى " . ويقول : " أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة " . ثم يقول : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، من ترك مالاً ، فلأهله ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً ، فإلي وعلي" رواه مسلم . وفي لفظ : كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ، يحمد الله ويثني عليه ، ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته فذكره . وفي لفظ : يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ، ثم يقول : " من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل ، فلا هادي له ، وخير الحديث كتاب الله " . وفي لفظ للنسائي ، "وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار " . وكان يقول في خطبته بعد التحميد والثناء والتشهد : " أما بعد " . وكان يقصر الخطبة ، ويطيل الصلاة ، ويكثر الذكر ، ويقصد الكلمات الجوامع ، وكان يقول : " إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته ، مئنة من فقهه " . وكان يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام ، وشرائعه ، ويأمرهم ، وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر ، أو نهي ، كما أمر الداخل وهو يخطب أن يصلي ركعتين . ونهى المتخطي رقاب الناس عن ذلك ، وأمره بالجلوس . وكان يقطع خطبته للحاجة تعرض ، أو السؤال من أحد من أصحابه ، فيجيبه ، ثم يعود إلى خطبته ، فيتمها . وكان ربما نزل عن المنبر للحاجة ، ثم يعود فيتمها ، كما نزل لأخذ الحسن والحسين رضي الله عنهما ، فأخذهما ، ثم رقي بهما المنبر ، فأتم خطبته . وكان يدعو الرجل في خطبته : تعال يا فلان ، اجلس يا فلان ، صل يا فلان . وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته ، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة ، أمرهم بالصدقة ، وحضهم عليها . وكان يشير بأصبعه السبابة في خطبته عند ذكر الله تعالى ودعائه . وكان يستسقي بهم إذا قحط المطر في خطبته . وكان يمهل يوم الجمعة حتى يجتمع الناس ، فإذا اجتمعوا ، خرج وحده من غير شاويش يصيح بين يديه ، ولا لبس طيلسان ، ولا طرحة ، ولا سواد ، فإذا دخل المسجد ، سلم عليهم ، فإذا صعد المنبر ، استقبل الناس بوجهه ، وسلم عليهم ، ولم يدع مستقبل القبلة ، ثم يجلس ، ويأخذ بلال في الأذان ، فإذا فرغ منه ، قام النبي صلى الله عليه وسلم ، فخطب من غير فصل بين الأذان والخطبة ، لا بإيراد خبر ولا غيره . ولم يكن يأخذ بيده سيفاً ولا غيره ، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصاً قبل أن يتخذ المنبر ، وكان في الحرب يعتمد على قوس ، وفي الجمعة يعتمد على عصا . ولم يحفظ عنه أنه اعتمد على سيف ، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائماً ، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف ، فمن فرط جهله ، فإنه لا يحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف ، ولا قوس ، ولا غيره ، ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفاً البتة ، وإنما كان يعتمد على عصا أو قوس . وكان منبره ثلاث درجات ، وكان قبل اتخاذه يخطب إلى جذع يستند إليه ، فلما تحول إلى المنبر ، حن الجذع حنيناً سمعه أهل المسجد ، فنزل إليه صلى الله عليه وسلم وضمه قال أنس : حن لما فقد ما كان يسمع من الوحي ، وفقده التصاق النبي صلى الله عليه وسلم . ولم يوضع المنبر في وسط المسجد ، وإنما وضع في جانبه الغربي قريباً من الحائط ، وكان بينه وبين الحائط قدر ممر الشاة . وكان إذا جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم في غير الجمعة ، أو خطب قائماً في الجمعة ، استدار أصحابه إليه بوجوههم ، وكان وجهه صلى الله عليه وسلم قبلهم في وقت الخطبة . وكان يقوم فيخطب ، ثم يجلس جلسة خفيفة ، ثم يقوم ، فيخطب الثانية ، فإذا فرغ منها ، أخذ بلال في الإقامة . وكان يأمر الناس بالدنو منه ، وبالإنصات ، ويخبرهم أن الرجل إذا قال لصاحبه : أنصت فقد لغا . ويقول : " من لغا فلا جمعة له " . وكان يقول : " من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب ، فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً ، والذي يقول له : أنصت ليست له جمعة " . رواه الإمام أحمد . وقال أبي بن كعب : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ( تبارك) وهو قائم ، فذكرنا بأيام الله ، وأبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني ، فقال : متى أنزلت هذه السورة ؟ فإني لم أسمعها إلى الآن ، فأشار إليه أن اسكت ، فلما انصرفوا ، قال : سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني ، فقال : إنه ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت ، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ذلك ، وأخبره بالذي قال له أبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق أبي " . ذكره ابن ماجه ، وسعيد بن منصور ، وأصله في مسند أحمد . وقال صلى الله عليه وسلم : " يحضر الجمعة ثلاثة نفر : رجل حضرها يلغو وهو حظه منها ، ورجل حضرها يدعو ، فهو رجل دعا الله عز وجل إن شاء أعطاه ، وإن شاء منعه ، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ، ولم يتخط رقبة مسلم ، ولم يؤذ أحداً ، فهي كفارة له إلى يوم الجمعة التي تليها ، وزيادة ثلاثة أيام ، وذلك أن الله عز وجل يقول : " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " " ذكره أحمد وأبو داود . وكان إذا فرغ بلال من الأذان ، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ، ولم يقم أحد يركع ركعتين البتة ، ولم يكن الأذان إلا واحداً ، وهذا يدل على أن الجمعة كالعيد ، لا سنة لها قبلها ، وهذا أصح قولي العلماء ، وعليه تدل السنة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته ، فإذا رقي المنبر ، أخذ بلال في أذان الجمعة ، فإذا أكمله ، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة من غير فصل ، وهذا كان رأي عين ، فمتى كانوا يصلون السنة ؟! ومن ظن أنهم كانوا إذا فرغ بلال رضي الله عنه من الأذان ، قاموا كلهم ، فركعوا ركعتين ، فهو أجهل الناس بالسنة ، وهذا الذي ذكرناه من أنه لا سنة قبلها ، هو مذهب مالك ، وأحمد في المشهور عنه ، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي . والذين قالوا : إن لها سنة ، منهم من احتج أنها ظهر مقصورة ، فيثبت لها أحكام الظهر ، وهذه حجة ضعيفة جداً ، فإن الجمعة صلاة مستقلة بنفسها تخالف الظهر في الجهر ، والعدد ، والخطبة ، والشروط المعتبرة لها ، وتوافقها في الوقت ، وليس إلحاق مسألة النزاع بموارد الاتفاق أولى من إلحاقها بموارد الافتراق ، بل إلحاقها بموارد الافتراق أولى ، لأنها أكثر مما اتفقا فيه . ومنهم من أثبت السنة لها هنا بالقياس على الظهر ، وهو أيضا قياس فاسد ، فإن السنة ما كان ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل ، أو سنة خلفائه الراشدين ، وليس في مسألتنا شئ من ذلك ، ولا يجوز إثبات السنن في مثل هذا بالقياس ، لأن هذا مما انعقد سبب فعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا لم يفعله ولم يشرعه ، كان تركه هو السنة ، ونظير هذا ، أن يشرع لصلاة العيد سنة قبلها أو بعدها بالقياس ، فلذلك كان الصحيح أنه لا يسن الغسل للمبيت بمزدلفة ، ولا لرمي الجمار ، ولا للطواف ، ولا للكسوف ، ولا للاستسقاء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يغتسلوا لذلك مع فعلهم لهذه العبادات . ومنهم من احتج بما ذكره البخاري في صحيحه فقال : باب الصلاة قبل الجمعة وبعدها : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أنبأنا مالك، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يصلي قبل الظهر ركعتين ، وبعدها ركعتين ، وبعد المغرب ركعتين في بيته ، وقبل العشاء ركعتين ، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف ، فيصلي ركعتين وهذا لا حجة فيه ، ولم يرد به البخاري إثبات السنة قبل الجمعة ، وإنما مراده أنه هل ورد في الصلاة قبلها أو بعدها شئ ؟ ثم ذكر الحديث ، أي : أنه لم يرو عنه فعل السنة إلا بعدها ، ولم يرد قبلها شئ . وهذا نظير ما فعل في كتاب العيدين ، فإنه قال : باب الصلاة قبل العيد وبعدها ، وقال أبو المعلى : سمعت سعيداً عن ابن عباس ، أنه كره الصلاة قبل العيد . ثم ذكر حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر ، فصلى ركعتين ، لم يصل قبلهما ولا بعدهما ومعه بلال الحديث . فترجم للعيد مثل ما ترجم للجمعة ، وذكر للعيد حديثاً دالاً على أنه لا تشرع الصلاة قبلها ولا بعدها ، فدل على أن مراده من الجمعة كذلك . وقد ظن بعضهم أن الجمعة لما كانت بدلاً عن الظهر - وقد ذكر في الحديث السنة قبل الظهر وبعدها - دل على أن الجمعة كذلك ، وإنما قال : وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف بياناً لموضع صلاة السنة بعد الجمعة ، وأنه بعد الانصراف ، وهذا الظن غلط منه ، لأن البخاري قد ذكر في باب التطوع بعد المكتوبة حديث ابن عمر رضي الله عنه : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر ، وسجدتين بعد الظهر ، وسجدتين بعد المغرب ، وسجدتين بعد العشاء ، وسجدتين بعد الجمعة . فهذا صريح في أن الجمعة عند الصحابة صلاة مستقلة بنفسها غير الظهر ، وإلا لم يحتج إلى ذكرها لدخولها تحت اسم الظهر ، فلما لم يذكر لها سنة إلا بعدها، علم أنه لا سنة لها قبلها . ومنهم من احتج بما رواه ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة وجابر ، قال : جاء سليك الغطفاي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له : " أصليت ركعتين قبل أن تجيء ؟ " قال : لا . قال : " فصل ركعتين وتجوز فيهما ". وإسناده ثقات . قال أبو البركات ابن تيمية : وقوله : قبل أن تجيء يدل عن أن هاتين الركعتين سنة الجمعة ، وليستا تحية المسجد . قال : شيخنا حفيده أبو العباس : وهذا غلط ، والحديث المعروف في الصحيحين عن جابر ، "قال : دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فقال : أصليت قال : لا . قال : فصل ركعتين . وقال : إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب ، فليركع ركعتين وليتجوز فيهما ". فهذا هو المحفوظ في هذا الحديث ، وأفراد ابن ماجه في الغالب غير صحيحة ، هذا معنى كلامه . وقال شيخنا أبو الحجاج الحافظ المزي : هذا تصحيف من الرواة ، إنما هو أصليت قبل أن تجلس فغلط فيه الناسخ . وقال : وكتاب ابن ماجه إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به ، بخلاف صحيحي البخاري ومسلم ، فإن الحفاظ تداولوهما ، واعتنوا بضبطهما وتصحيحهما ، قال : ولذلك وقع فيه أغلاط وتصحيف . قلت : ويدل على صحة هذا أن الذين اعتنوا بضبط سنن الصلاة قبلها وبعدها ، وصنفوا في ذلك من أهل الأحكام والسنن وغيرها ، لم يذكر واحد منهم هذا الحديث في سنة الجمعة قبلها ، وإنما ذكروه في استحباب فعل تحية المسجد والإمام على المنبر ، واحتجوا به على من منع من فعلها في هذه الحال ، فلو كانت هي سنة الجمعة ، لكان ذكرها هناك ، والترجمة عليها ، وحفظها ، وشهرتها أولى من تحية المسجد . ويدل عليه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يأمر بهاتين الركعتين إلا الداخل لأجل أنها تحية المسجد . ولو كانت سنة الجمعة ، لأمر بها القاعدين أيضاً ، ولم يخص بها الداخل وحده . ومنهم من احتج بما رواه أبو داود في سننه ، قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ، ويصلي بعدها ركعتين في بيته ، وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك . ولهذا لا حجة فيه على أن للجمعة سنة قبلها ، وإنما أراد بقوله : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك : أنه كان يصلى الركعتين بعد الجمعة في بيته لا يصليهما في المسجد ، وهذا هو الأفضل فيهما ، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته . وفي السنن عن ابن عمر ، أنه إذا كان بمكة ، فصلى الجمعة ، تقدم ، فصلى ركعتين ، ثم تقدم فصلى أربعاً ، وإذا كان بالمدينة ، صلى الجمعة ، ثم رجع إلى بيته ، فصلى ركعتين ، ولم يصل بالمسجد ، فقيل له ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك . وأما إطالة ابن عمر الصلاة قبل الجمعة ، فإنه تطوع مطلق ، وهذا هو الأولى لمن جاء إلى الجمعة أن يشتغل بالصلاة حتى يخرج الإمام ، كما تقدم من حديث أبي هريرة ، ونبيشة الهذلي عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من اغتسل يوم الجمعة ، ثم أتى المسجد ، فصلى ما قدر له ، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ، ثم يصلي معه ، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ، وفضل ثلاثة أيام ". وفي حديث نبيشة الهذلي : " إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ، ثم أقبل الى المسجد لا يؤذي أحداً ، فإن لم يجد الإمام خرج ، صلى ما بدا له ، وإن وجد الإمام خرج ، جلس، فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه ، إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن تكون كفارة للجمعة التي تليها " هكذا كان هدي الصحابة رضي الله عنهم . قال ابن المنذر : روينا عن ابن عمر : أنه كان يصلي قبل الجمعة ثنتي عشرة ركعة . وعن ابن عباس ، أنه كان يصلي ثمان ركعات . وهذا دليل على أن ذلك كان منهم من باب التطوع المطلق ، ولذلك اختلف في العدد المروي عنهم في ذلك ، وقال الترمذي في الجامع : وروي عن ابن مسعود ، أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً. وإليه ذهب ابن المبارك والثوري . وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء النيسابوري : رأيت أبا عبد الله، إذا كان يوم الجمعة يصلي إلى أن يعلم أن الشمس قد قاربت أن تزول ، فإذا قاربت ، أمسك عن الصلاة حتى يؤذن المؤذن ، فإذا أخذ في الأذان ، قام فصلى ركعتين أو أربعاً ، يفصل بينهما بالسلام ، فإذا صلى الفريضة ، انتظر فى المسجد ، ثم يخرج منه ، فيأتي بعض المساجد التي بحضرة الجامع ، فيصلي فيه ركعتين ، ثم يجلس ، وربما صلى أربعاً ، ثم يجلس ، ثم يقوم ، فيصلي ركعتين أخريين ، فتلك ست ركعات على حديث علي ، وربما صلى بعد الست ستاً أخر ، أو أقل ، أو أكثر . وقد أخذ من هذا بعض أصحابه رواية : أن للجمعة قبلها سنة ركعتين أو أربعاً ، وليس هذا بصريح ، بل ولا ظاهر ، فإن أحمد كان يمسك عن الصلاة في وقت النهي ، فإذا زال وقت النهي ، قام فأتم تطوعه إلى خروج الإمام ، فربما أدرك أربعاً ، وربما لم يدرك إلا ركعتين . ومنهم من احتج على ثبوت السنة قبلها ، بما رواه ابن ماجه في سننه حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بقية ، عن مبشر بن عبيد ، عن حجاج بن أرطاة ، عن عطية العوفي ، عن ابن عباس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع قبل الجمعة أربعاً ، لا يفصل بينها في شئ منها . قال ابن ماجه : باب الصلاة قبل الجمعة ، فذكره . وهذا الحديث فيه عدة بلايا ، إحداها : بقية من الوليد : إمام المدلسين وقد عنعنه ، ولم يصرح بالسماع . الثانية : مبشر بن عبيد ، المنكر الحديث . وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : شيخ كان يقال له : مبشر بن عبيد كان بحمص ، أظنه كوفياً ، روى عنه بقية ، وأبو المغيرة ، أحاديثه أحاديث موضوعة كذب . وقال الدارقطني : مبشر بن عبيد متروك الحديث ، أحاديثه لا يتابع عليها . الثالثة : الحجاح بن أرطاة الضعيف المدلس . الرابعة : عطية العوفي ، قال البخاري : كان هشيم يتكلم فيه ، وضعفه أحمد وغيره . وقال البيهقي : عطية العوفي لا يحتج به ، ومبشر بن عبيد الحمصي منسوب إلى وضع الحديث ، والحجاح بن أرطاة ، لا يحتج به . قال بعضهم : ولعل الحديث انقلب على بعض هؤلاء الثلاثة الضعفاء ، لعدم ضبطهم وإتقانهم ، فقال : قبل الجمعة أربعاً ، وإنما هو بعد الجمعة ، فيكون موافقاً لما ثبت في الصحيح ونظير هذا : قول الشافعي في رواية عبد الله بن عمر العمري : للفارس سهمان ، وللراجل سهم . قال الشافعي : كأنه سمع نافعاً يقول : للفرس سهمان ، وللراجل سهم ، فقال : للفارس سهمان ، وللراجل سهم . حتى يكون موافقاً لحديث أخيه عبيد الله ، قال : وليس يشك أحد من أهل العلم في تقديم عبيد الله بن عمر على أخيه عبد الله في الحفظ . قلت : ونظير هذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في حديث أبي هريرة لا تزال جهنم يلقى فيها ، وهي تقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه ، فيزوي بعضها إلى بعض ، وتقول : قط ، قط . وأما الجنة : فينشئ الله لها خلقاً فانقلب على بعض الرواة فقال : أما النار ، فينشئ الله لها خلقاً . قلت : ونظير هذا حديث عائشة " إن بلالاً يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " وهو في الصحيحين ، فانقلب على بعض الرواة ، فقال : ابن أم مكتوم يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال . ونظيره أيضاً عندي حديث أبي هريرة " إذا صلى أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه " وأظنه وهم - والله أعلم - فيما قاله رسوله الصادق المصدوق ، "وليضع ركبتيه قبل يديه". كما قال وائل بن حجر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد ، وضع ركبتيه قبل يديه . وقال الخطابي وغيره : وحديث وائل بن حجر ، أصح من حديث أبي هريرة . وقد سبقت المسألة مستوفاة في هذا الكتاب والحمد لله . وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة ، دخل إلى منزله ، فصلى ركعتين سنتها وأمر من صلاها أن يصلي بعدها أربعاً . قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية : إن صلى في المسجد ، صلى أربعاً ، وإن صلى في بيته ، صلى ركعتين . قلت : وعلى هذا تدل الأحاديث ، وقد ذكر أبو داود عن ابن عمر أنه كان إذا صلى في المسجد ، صلى أربعاً ، وإذا صلى في بيته ، صلى ركعتين . وفي الصحيحين : عن ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته . وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، " إذا صلى أحدكم الجمعة ، فليصل بعدها أربع ركعات " . والله أعلم . |
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في العيدين
كان صلى الله عليه وسلم يصلي العيدين في المصلى ، وهو المصلى الذي على باب المدينة الشرقي ، وهو المصلى الذي يوضع فيه محمل الحاج ، ولم يصل العيد بمسجده إلا مرة واحدة أصابهم مطر ، فصلى بهم العيد في المسجد إن ثبت الحديث ، وهو في سنن أبي داود وابن ماجه ، وهديه كان فعلهما في المصلى دائماً . وكان يلبس للخروج إليهما أجمل ثيابه ، فكان له حلة يلبسها للعيدين والجمعة ، ومرة كان يلبس بردين أخضرين ، ومرة برداً أحمر ، وليس هو أحمر كما يظنه بعض الناس ، فإنه لو كان كذلك ، لم يكن برداً ، وإنما فيه خطوط حمر كالبرود اليمنية ، فسمي أحمر باعتبار ما فيه من ذلك . وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم من غير معارض النهي عن لبس المعصفر والأحمر ، وأمر عبد الله بن عمرو لما رأى عليه ثوبين أحمرين أن يحرقهما فلم يكن ليكره الأحمر هذه الكراهة الشديدة ثم يلبسه ، والذي يقوم عليه الدليل تحريم لباس الأحمر ، أو كراهيته كراهية شديدة . وكان صلى الله عليه وسلم يأكل قبل خروجه في عيد الفطر تمرات ، ويأكلهن وتراً ، وأما في عيد الأضحى ، فكان لا يطعم حتى يرجع من المصلى ، فيأكل من أضحيته . وكان يغتسل للعيدين ، صح الحديث فيه ، وفيه حديثان ضعيفان : حديث ابن عباس ، من رواية جبارة بن مغلس ، وحديث الفاكه بن سعد ، من رواية يوسف بن خالد السمتي . ولكن ثبت عن ابن عمر مع شدة اتباعه للسنة ، أنه كان يغتسل يوم العيد قبل خروجه . وكان صلى الله عليه وسلم يخرح ماشياً ، والعنزة تحمل بين يديه ، فإذا وصل إلى المصلى ، نصبت بين يديه ليصلي إليها ، فإن المصلى كان إذ ذاك فضاء لم يكن فيه بناء ولا حائط ، وكانت الحربة سترته . وكان يؤخر صلاة عيد الفطر ، ويعجل الأضحى ، وكان ابن عمر مع شدة اتباعه للسنة ، لا يخرج حتى تطلع الشمس ، ويكبر من بيته إلى المصلى . وكان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلى ، أخذ فى الصلاة من غير أذان ولا إقامة ولا قول : الصلاة جامعة ، والسنة : أنه لا يفعل شئ من ذلك . ولم يكن هو ولا أصحابه يصلون إذا انتهوا إلى المصلى شيئاً قبل الصلاة ولا بعدها . وكان يبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، فيصلي ركعتين ، يكبر فى الأولى سبع تكبيرات متوالية بتكبيرة الافتتاح ، يسكت بين كل تكبيرتين سكتة يسيرة ، ولم يحفظ عنه ذكر معين بين التكبيرات ، ولكن ذكر عن ابن مسعود أنه قال : يحمد الله ، ويثني عليه ، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكره الخلال . وكان ابن عمر مع تحريه للاتباع ، يرفع يديه مع كل تكبيرة . وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتم التكبير ، أخذ فى القراءة ، فقرأ فاتحة الكتاب ، ثم قرأ بعدها ( ق والقرآن المجيد ) فى إحدى الركعتين ، وفى الأخرى ، ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) . وربما قرأ فيهما ( سبح اسم ربك الأعلى ) ، و( هل أتاك حديث الغاشية ) صح عنه هذا وهذا ، ولم يصح عنه غير ذلك . فإذا فرغ من القراءة ، كبر وركع ، ثم إذا أكمل الركعة ، وقام من السجود ، كبر خمساً متوالية ، فإذا أكمل التكبير ، أخذ في القراءة ، فيكون التكبير أول ما يبدأ به في الركعتين ، والقراءة يليها الركوع ، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه والى بين القراءتين ، فكبر أولاً ، ثم قرأ وركع ، فلما قام في الثانية ، قرأ وجعل التكبير بعد القراءة ، ولكن لم يثبت هذا عنه ، فإنه من رواية محمد بن معاوية النيسابوري . قال البيهقي : رماه غير واحد بالكذب . وقد روى الترمذي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ، عن أبيه عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة ، وفى الآخرة خمساً قبل القراءة . قال الترمذي : سألت محمداً يعني البخاري عن هذا الحديث ، قال : ليس في الباب شئ أصح من هذا ، وبه أقول ، وقال : وحديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده في هذا الباب ، هو صحيح أيضاً . قلت : يريد حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة ، سبعاً في الأولى ، وخمساً في الآخرة ، ولم يصل قبلها ولا بعدها . قال أحمد : وأنا أذهب إلى هذا . قلت : وكثير بن عبد الله بن عمرو هذا ضرب أحمد على حديثه في المسند وقال : لا يساوي حديثه شيئاً ، والترمذي تارة يصحح حديثه ، وتارة يحسنه ، وقد صرح البخاري بأنه أصح شئ في الباب ، مع حكمه بصحة حديث عمرو بن شعيب ، وأخبر أنه يذهب إليه . والله أعلم . وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكمل الصلاة ، انصرف ، فقام مقابل الناس ، والناس جلوس على صفوفهم ، فيعظهم ويوصيهم ، ويأمرهم وينهاهم ، وإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه ، أو يأمر بشئ أمر به . ولم يكن هنالك منبر يرقى عليه ، ولم يكن يخرج منبر المدينة ، وإنما كان يخطبهم قائماً على الأرض ، قال جابر : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة ، ثم قام متوكئاً على بلال ، فأمر بتقوى الله ، وحث على طاعته ، ووعظ الناس ، وذكرهم ، ثم مضى حتى أتى النساء ، فوعظهن وذكرهن ، متفق عليه . وقال أبو سعيد الخدري : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى ، فأول ما يبدأ به الصلاة ، ثم ينصرف ، فيقوم مقابل الناس ، والناس جلوس على صفوفهم . . . الحديث . رواه مسلم . وذكر أبو سعيد الخدري : أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم العيد ، فيصلي بالناس ركعتين ، ثم يسلم ، فيقف على راحلته مستقبل الناس وهم صفوف جلوس ، فيقول : " تصدقوا " ، فأكثر من يتصدق النساء ، بالقرط والخاتم والشئ . فإن كانت له حاجة يريد أن يبعث بعثاً يذكره لهم ، وإلا انصرف . وقد كان يقع لي أن هذا وهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما كان يخرج إلى العيد ماشياً ، والعنزة بين يديه ، وإنما خطب على راحلته يوم النحر بمنى ، إلى أن رأيت بقي بن مخلد الحافظ قد ذكر هذا الحديث في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا داود بن قيس ، حدثنا عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم العيد من يوم الفطر ، فيصلي بالناس تينك الركعتين ، ثم يسلم ، فيستقبل الناس ، فيقول : تصدقوا . وكان أكثر من يتصدق النساء وذكر الحديث . ثم قال : حدثنا أبو بكر بن خلاد ، حدثنا أبو عامر ، حدثنا داود ، عن عياض ، عن أبي سعيد : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في يوم الفطر ، فيصلى بالناس ، فيبدأ بالركعتين ، ثم يستقبلهم وهم جلوس ، فيقول : تصدقوا فذكر مثله وهذا إسناد ابن ماجه إلا أنه رواه عن أبي كريب ، عن أبي أسامة ، عن داود . ولعله : ثم يقوم على رجليه ، كما قال جابر : قام متوكئاً على بلال ، فتصحف على الكاتب : براحلته . والله أعلم . فإن قيل : فقد أخرجا في الصحيحين عن ابن عباس ، قال شهدت صلاة الفطر مع نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان رضي الله عنهم ، فكلهم يصليها قبل الخطبة ، ثم يخطب ، قال : فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ، كأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده ، ثم أقبل يشقهم حتى جاء إلى النساء ومعه بلال ، فقال : " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا " ( الممتحنة : 12) . فتلا الآية حتى فرغ منها ، الحديث . وفي الصحيحين أيضاً ، عن جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ، فبدأ بالصلاة ، ثم خطب الناس بعد ، فلما فرغ نبي الله صلى الله عليه وسلم ، نزل فأتى النساء فذكرهن ، الحديث . وهو يدل على أنه كان يخطب على منبر ، أو على راحلته ، ولعله كان قد بني له منبر من لبن أو طين أو نحوه ؟ قيل : لا ريب في صحة هذين الحديثين ، ولا ريب أن المنبر لم يكن يخرج من المسجد ، وأول من أخرجه مروان بن الحكم ، فأنكر عليه ، وأما منبر اللبن والطين ، فأول من بناه كثير بن الصلت في إمارة مروان على المدينة ، كما هو في الصحيحين فلعله صلى الله عليه وسلم كان يقوم في المصلى على مكان مرتفع ، أو دكان وهي التي تسمى مصطبة ، ثم ينحدر منه إلى النساء ، فيقف عليهن ، فيخطبهن ، فيعظهن ، ويذكرهن . والله أعلم . وكان يفتتح خطبه كلها بالحمد الله ، ولم يحفظ عنه في حديث واحد ، أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير ، وإنما روى ابن ماجه في سننه عن سعد القرظ مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر التكبير بين أضعاف الخطبة ، ويكثر التكبير في خطبتي العيدين . وهذا لا يدل على أنه كان يفتتحها به . وقد اختلف الناس في افتتاح خطبة العيدين والاستسقاء ، فقيل : يفتتحان بالتكبير ، وقيل : تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار ، وقيل : يفتتحان بالحمد . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وهو الصواب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله ، فهو أجذم " . وكان يفتتح خطبه كلها بالحمد لله . ورخص صلى الله عليه وسلم لمن شهد العيد ، أن يجلس للخطبة ، وأن يذهب ، ورخص لهم إذا وقع العيد يوم الجمعة ، أن يجتزئوا بصلاة العيد عن حضور الجمعة . وكان صلى الله عليه وسلم يخالف الطريق يوم العيد ، فيذهب في طريق ، ويرجع في آخر فقيل : ليسلم على أهل الطريقين ، وقيل : لينال بركته الفريقان ، وقيل : ليقضي حاجة من له حاجة منهما ، وقيل : ليظهر شعائر الإسلام في سائر الفجاج والطرق ، وقيل : ليغيظ المنافقين برؤيتهم عزة الإسلام وأهله ، وقيام شعائره ، وقيل : لتكثر شهادة البقاع ، فإن الذاهب إلى المسجد والمصلى إحدى خطوتيه ترفع درجة ، والأخرى تحط خطيئة حتى يرجع إلى منزله ، وقيل هو الأصح : إنه لذلك كله ، ولغيره من الحكم التي لا يخلو فعله عنها . وروي عنه ، أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد . |
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف
لما كسفت الشمس ، خرج صلى الله عليه وسلم إلى المسجد مسرعاً فزعاً يجر رداءه ، وكان كسوفها في أول النهار على مقدار رمحين أو ثلاثة من طلوعها ، فتقدم ، فصلى ركعتين ، قرأ في الأولى بفاتحة الكتاب ، وسورة طويلة ، جهر بالقراءة ، ثم ركع ، فأطال الركوع ، ثم رفع رأسه من الركوع ، فأطال القيام وهو دون القيام الأول ، وقال لما رفع رأسه : " سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد " ، ثم أخذ في القراءة ، ثم ركع ، فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول ، ثم رفع رأسه من الركوع ، ثم سجد سجدة طويلة فأطال السجود ، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الأولى ، فكان في كل ركعة ركوعان وسجودان ، فاستكمل في الركعتين أربع ركعات وأربع سجدات ، ورأى في صلاته تلك الجنة والنار ، وهم أن يأخذ عنقوداً من الجنة ، فيريهم إياه ، ورأى أهل العذاب في النار ، فرأى امرأة تخدشها هرة ربطتها حتى ماتت جوعاً وعطشاً ، ورأى عمرو بن مالك يجر أمعاءه في النار ، وكان أول من غير دين إبراهيم ، ورأى فيها سارق الحاج يعذب ، ثم انصرف ، فخطب بهم خطبة بليغة ، حفظ منها قوله : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ، ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك ، فادعوا الله وكبروا ، وصلوا ، وتصدقوا يا أمة محمد ، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده ، أو تزني أمته ، يا أمة محمد ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً " . وقال : " لقد رأيت في مقامي هذا كل شئ وعدتم به ، حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني أتقدم ، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت " . وفي لفظ : ورأيت النار فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع منها ، ورأيت أكثر أهل النار النساء . قالوا : وبم يا رسول الله ؟ قال : بكفرهن . قيل : أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ، ثم رأت منك شيئاً ، قالت : ما رأيت منك خيراً قط . ومنها : " ولقد أوحي إلي أنكم تفتنوت في القبور مثل ، أو قريباً من فتنة الدجال ، يؤتى أحدكم فيقال له : ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو قال : الموقن ، فيقول : محمد رسول الله ، جاءنا بالبينات والهدى ، فأجبنا ، وآمنا واتبعنا ، فيقال له : نم صالحاً فقد علمنا إن كنت لمؤمناً ، وأما المنافق أو قال : المرتاب، فيقول : لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئاً ، قلته ". وفي طريق أخرى لأحمد بن حنبل رحمه الله ، أنه صلى الله عليه وسلم لما سلم ، حمد الله ، وأثنى عليه ، وشهد أن لا إله إلا الله ، وأنه عبده ورسوله ، ثم قال : " أيها الناس ، أنشدكم بالله هل تعلمون أني قصرت في شئ من تبليغ رسالات ربي لما أخبرتموني بذلك ؟ فقام رجل ، فقال : نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ، ونصحت لأمتك ، وقضيت الذي عليك . ثم قال : أما بعد فإن رجالاً يزعمون أن كسوف هذه الشمس ، وكسوف هذا القمر ، وزوال هذه النجوم عن مطالعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض ، وإنهم قد كذبوا ، ولكنها آيات من آيات الله تبارك وتعالى يعتبر بها عباده ، فينظر من يحدث منهم توبة ، وايم الله الله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم ، وإنه - والله أعلم - لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً آخرهم الأعور الدجال ، ممسوح العين اليسرى ، كأنها عين أبي تحيى لشيخ حينئذ من الأنصار ، بينه وبين حجرة عائشة ، وإنه متى يخرج ، فسوف يزعم أنه الله ، فمن آمن به وصدقه واتبعه ، لم ينفعه صالح من عمله سلف ، ومن كفر به وكذبه ، لم يعاقب بشئ من عمله سلف ، وإنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبيت المقدس ، وإنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس ، فيزلزلون زلزالاً شديداً ، ثم يهلكم الله عز وجل وجنوده ، حتى إن جذم الحائط أو قال : أصل الحائط ، وأصل الشجرة لينادي : يا مسلم ، يا مؤمن ، هذا يهودي ، أو قال : هذا كافر ، فتعال فاقتله قال : ولن يكون ذلك حتى تروا أموراً يتفاقم بينكم شأنها في أنفسكم ، وتساءلون بينكم : هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكراً : وحتى تزول جبال عن مراتبها ، ثم على أثر ذلك القبض " . فهذا الذي صح عنه صلى الله عليه وسلم من صفة صلاة الكسوف وخطبتها . وقد روي عنه أنه صلاها على صفات أخر . منها : كل ركعة بثلاث ركوعات . ومنها : كل ركعة بأربع ركوعات . ومنها : إنها كإحدى صلاة صليت كل ركعة بركوع واحد ، ولكن كبار الأئمة ، لا يصححون ذلك ، كالإمام أحمد ، والبخاري ، والشافعي ، ويرونه غلطاً . قال الشافعي وقد سأله سائل ، فقال : روى بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثلاث ركعات في كل ركعة ، قال الشافعي : فقلت له : أتقول به أنت ؟ قال : لا ، ولكن لم لم تقل به أنت وهو زيادة على حديثكم ؟ يعني حديث الركوعين فى الركعة ، فقلت : هو من وجه منقطع ، ونحن لا نثبت المنقطع على الانفراد ، ووجه نراه - والله أعلم - غلطاً ، قال البيهقي : أراد بالمنقطع قول عبيد بن عمير : حدثني من أصدق ، قال عطاء : حسبته يريد عائشة . . . الحديث ، وفيه : فركع في كل ركعة ثلاث ركوعات وأربع سجدات . وقال قتادة : عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عنها : ست ركعات في أربع سجدات . فعطاء ، إنما أسنده عن عائشة بالظن والحسبان ، لا باليقين ، وكيف يكون ذلك محفوظاً عن عائشة ، وقد ثبت عن عروة ، وعمرة ، عن عائشة خلافه وعروة وعمرة أخص بعائشة وألزم لها من عبيد وعمير وهما اثنان ، فروايتهما أولى أن تكون هي المحفوظة . قال : وأما الذي يراه الشافعي غلطاً ، فأحسبه حديث عطاء عن جابر : " انكسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الناس : إنما انكسفت الشمس لموت إبراهيم ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ، فصلى بالناس ست ركعات في أربع سجدات "الحديث . قال البيهقي : من نظر في قصة هذا الحديث ، وقصة حديث أبي الزبير ، علم أنهما قصة واحدة ، وأن الصلاة التي أخبر عنها إنما فعلها مرة واحدة ، وذلك في يوم توفي ابنه إبراهيم عليه السلام . قال : ثم وقع الخلاف بين عبد الملك يعني ابن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن جابر ، وبين هشام الدستوائي ، عن أبي الزبير ، عن جابر في عدد الركوع في كل ركعة ، فوجدنا رواية هشام أولى ، يعني أن في كل ركعة ركوعين فقط ، لكونه مع أبي الزبير أحفظ من عبد الملك ، ولموافقة روايته في عدد الركوع رواية عمرة وعروة عن عائشة ، ورواية كثير بن عباس ، وعطاء بن يسار ، عن ابن عباس ، ورواية أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو ، ثم رواية يحيى بن سليم وغيره ، وقد خولف عبد الملك في روايته عن عطاء ، فرواه ابن جريج وقتادة ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير : ست ركعات في أربع سجدات ، فرواية هشام عن أبي الزبير عن جابر التي لم يقع فيها الخلاف ويوافقها عدد كثير أولى من روايتي عطاء اللتين إنما إسناد أحدهما بالتوهم ، والأخرى ينفرد بها عنه عبد الملك بن أبي سليمان ، الذي قد أخذ عليه الغلط في غير حديث . قال : وأما حديث حبيب بن أبي ثابت ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه صلى في كسوف ، فقرأ ، ثم ركع ، ثم قرأ ، ثم ركع ، ثم قرأ ، ثم ركع ، ثم قرأ ، ثم ركع ، ثم سجد قال : والأخرى مثلها ، فرواه مسلم فى صحيحه وهو مما تفرد به حبيب بن أبي ثابت ، وحبيب وإن كان ثقة ، فكان يدلس ، ولم يبين فيه سماعه من طاووس ، فيشبه أن يكون حمله عن غير موثوق به ، وقد خالفه في رفعه ومتنه سليمان المكي الأحول ، فرواه عن طاووس ، عن ابن عباس من فعله ثلاث ركعات في ركعة . وقد خولف سليمان أيضاً في عدد الركوع ، فرواه جماعة عن ابن عباس من فعله ، كما رواه عطاء بن يسار وغيره عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني في كل ركعة ركوعان . قال : وقد أعرض محمد بن إسماعيل البخاري عن هذه الروايات الثلاث ، فلم يخرج شيئاً منها في الصحيح لمخالفتهن ما هو أصح إسناداً ، وأكثر عدداً ، وأوثق رجالاً ، وقال البخاري فى رواية أبي عيسى الترمذي عنه : أصح الروايات عندي في صلاة الكسوف أربع ركعات في أربع سجدات . قال البيهقي : وروي عن حذيفة مرفوعاً " أربع ركعات في كل ركعة "، وإسناده ضعيف . وروي عن أبي بن كعب مرفوعاً " خمس ركوعات في كل ركعة " . وصاحبا الصحيح لم يحتجا بمثل إسناد حديثه . قال : وذهب جماعة من أهل الحديث إلى تصحيح الروايات في عدد الركعات ، وحملوها على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها مراراً ، وأن الجميع جائز ، فممن ذهب إليه إسحاق بن راهويه ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ، وأبو بكر بن إسحاق الضبعي ، وأبو سليمان الخطابي ، واستحسنه ابن المنذر . والذي ذهب إليه البخاري والشافعي من ترجيح الأخبار أولى لما ذكرنا من رجوع الأخبار إلى حكاية صلاته صلى الله عليه وسلم يوم توفي ابنه . قلت : والمنصوص عن أحمد أيضاً أخذه بحديث عائشة وحده في كل ركعة ركوعان وسجودان . قال في رواية المروزي : وأذهب إلى أن صلاة الكسوف أربع ركعات ، وأربع سجدات ، في كل ركعة ركعتان وسجدتان ، وأذهب إلى حديث عائشة ، أكثر الأحاديث على هذا . وهذا اختيار أبي بكر وقدماء الأصحاب ، وهو اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية . وكان يضعف كل ما خالفه من الأحاديث ، ويقول : هي غلط ، وإنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الكسوف مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم . والله أعلم . وأمر صلى الله عليه وسلم في الكسوف بذكر الله ، والصلاة ، والدعاء ، والاستغفار والصدقة ، والعتاقة ، والله أعلم . |
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ، انه استسقى على وجوه . أحدها : يوم الجمعة على المنبر في أثناء خطبته ، وقال : " اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللقم اسقنا ، اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا " . الوجه الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم وعد الناس يوماً يخرجون فيه إلى المصلى ، فخرج لما طلعت الشمس متواضعاً ، متبذلاً ، متخشعاً ، مترسلاً ، متضرعاً ، فلما وافى المصلى ، صعد المنبر - إن صح ، وإلا ففي القلب منه شئ - فحمد الله وأثنى عليه وكبره ، وكان مما حفظ من خطبته ودعائه : " الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، لا إله إلا الله ، يفعل ما يريد ، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت ، تفعل ما تريد ، اللهم لا إله إلا أنت ، أنت الغني ونحن الفقراء ، أنزل علينا الغيث ، واجعل ما أنزلته علينا قوة لنا ، وبلاغا إلى حين " . ثم رفع يديه ، وأخذ في التضرع ، والابتهال ، والدعاء ، وبالغ في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ، ثم حول إلى الناس ظهره ، واستقبل القبلة ، وحول إذ ذاك رداءه وهو مستقبل القبلة ، فجعل الأيمن على الأيسر ، والأيسر على الأيمن ، وظهر الرداء لبطنه ، وبطنه لظهره ، وكان الرداء خميصة سوداء ، وأخذ في الدعاء مستقبل القبلة ، والناس كذلك ، ثم نزل فصلى بهم ركعتين كصلاة العيد من غير أذان ولا إقامة ولا نداء البتة ، جهر فيهما بالقراءة ، وقرأ في الأولى بعد فاتحة الكتاب : ( سبح اسم ربك الأعلى ) ، وفي الثانية : ( هل أتاك حديث الغاشية ). الوجه الثالث : أنه صلى الله عليه وسلم استسقى على منبر المدينة استسقاء مجرداً في غير يوم جمعة ، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الاستسقاء صلاة . الوجه الرابع : أنه صلى الله عليه وسلم استسقى وهو جالس في المسجد ، فرفع يديه ، ودعا الله عز وجل ، فحفظ من دعائه حينئد : " اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريعاً طبقاً عاجلاً غير رائث ، نافعاً غير ضار ". الوجه الخامس : أنه صلى الله عليه وسلم استسقى عند أحجار الزيت قريباً من الزوراء ، وهي خارج باب المسجد الذي يدعى اليوم باب السلام نحو قذفة حجر ، ينعطف عن يمين الخارج من المسجد . الوجه السادس : أنه صلى الله عليه وسلم استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء ، فأصاب المسلمين العطش ، فشكوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعض المنافقين : لو كان نبياً ، لاستسقى لقومه ، كما استسقى موسى لقومه ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أوقد قالوها ؟ عسى ربكم أن يسقيكم ، ثم بسط يديه ودعا ، فما رد يديه من دعائه ، حتى أظلهم السحاب ، وأمطروا ، فأفعم السيل الوادي ، فشرب الناس ، فارتووا" . وحفظ من دعائه في الاستسقاء :"اللهم اسق عبادك وبهائمك ، وانشر رحمتك ، وأحي بلدك الميت " ، " اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً ، مريعاً ، نافعاً غير ضار ، عاجلاً غير آجل" . وأغيث صلى الله عليه وسلم في كل مرة استسقى فيها . واستسقى مرة ، فقام إليه أبو لبابة فقال : يا رسول الله ! ان التمر في المرابد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عرياناً ، فيسد ثعلب مربده بإزاره "، فأمطرت ، فاجتمعو إلى أبي لبابة ، فقالوا : إنها لن تقلع حتى تقوم عرياناً، فتسد ثعلب مربدك بإزارك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ، فاستهلت السماء . ولما كثر المطر ، سألوه الاستصحاء ، فاستصحى لهم ، وقال : " اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام والجبال ، والظراب ، وبطون الأودية ، ومنابت الشجر " . وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى مطراً ، قال : " اللهم صيباً نافعاً " . وكان يحسر ثوبه حتى يصيبه من المطر ، فسئل عن ذلك ، فقال : " لأنه حديث عهد بربه ". قال الشافعي رحمه الله : أخبرني من لا أتهم عن يزيد بن الهاد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سال السيل قال : " اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهوراً ، فنتطهر منه ، ونحمد الله عليه " . وأخبرني من لا أتهم ، عن إسحاق بن عبد الله أن عمر كان إذا سال السيل ذهب بأصحابه إليه ، وقال : ما كان ليجيء من مجيئه أحد إلا تمسحنا به . وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى الغيم والريح ، عرف ذلك في وجهه ، فأقبل وأدبر ، فإذا أمطرت ، سري عنه ، وذهب عنه ذلك ، وكان يخشى أن يكون فيه العذاب . قال الشافعي : وروي عن سالم بن عبد الله عن أبيه مرفوعاً أنه كان إذا استسقى قال : " اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً غدقاً مجللاً عاماً طبقاً سحاً دائماً ، اللهم اسقنا الغيث ، ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم إن بالعباد والبلاد والبهائم والخلق من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك ، اللهم أنبت لنا الزرع ، وأدر لنا الضرع ، واسقنا من بركات السماء ، وأنبت لنا من بركات الأرض ، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري ، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك ، اللهم إنا نستغفرك ، إنك كنت غفاراً ، فأرسل السماء علينا مدراراً " . قال الشافعي رحمه الله : وأحب أن يدعو الإمام بهذا ، قال : وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا في الاستسقاء رفع يديه وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمطر في أول مطرة حتى يصيب جسده . قال : وبلغني أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصبح وقد مطر الناس ، قال : مطرنا بنوء الفتح ، ثم يقرأ : " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " (فاطر :2) . قال : وأخبرني من لا أتهم عن عبد العزيز بن عمر ، عن مكحول ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش ، وإقامة الصلاة ، ونزول الغيث " . وقد حفظت عن غير واحد طلب الإجابة عند : نزول الغيث ، وإقامة الصلاة . قال البيهقي : وقد روينا في حديث موصول عن سهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " الدعاء لا يرد عند النداء ، وعند البأس ، وتحت المطر " . وروينا عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تفتح أبواب السماء ، ويستجاب الدعاء في أربعة مواطن : عند التقاء الصفوف ، وعند نزول الغيث ، وعند إقامة الصلاة ، وعند رؤية الكعبة " . |
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سفره وعبادته فيه
كانت أسفاره صلى الله عليه وسلم دائرة بين أربعة أسفار : سفره لهجرته ، وسفره للجهاد وهو أكثرها ، وسفره للعمرة ، وسفره للحج . وكان إذا أراد سفراً ، أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها ، سافر بها معه ، ولما حج ، سافر بهن جميعاً . وكان إذا سافر ، خرج من أول النهار ، وكان يستحب الخروج يوم الخميس ، ودعا الله تبارك وتعالى أن يبارك لأمته في بكورها. وكان إذا بعث سرية أو جيشاً ، بعثهم من أول النهار ، وأمر المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمروا أحدهم . ونهى أن يسافر الرجل وحده ، وأخبر أن الراكب شيطان ، والراكبان شيطانان ، والثلاثة ركب . وذكر عنه أنه كان يقول حين ينهض للسفر " اللهم إليك توجهت ، وبك اعتصمت ، اللهم اكفني ما أهمني وما لا أهتم به ، اللهم زودني التقوى ، واغفر لي ذنبي ، ووجهني للخير أينما توجهت " . وكان إذا قدمت إليه دابته ليركبها ، يقول : " بسم الله حين يضع رجله الركاب ، وإذا استوى على ظهرها ، قال : الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا الى ربنا لمنقلبون ، ثم يقول : الحمد لله ، الحمد لله ، الحمد لله ، ثم يقول : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، ثم يقول : سبحانك إني ظلمت نفسي ، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ". وكان يقول : " اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللهم هون علينا سفرنا هذا ، واطو عنا بعده ، اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل ، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكابة المنقلب ، وسوء المنظر في الأهل والمال " وإذا رجع ، قالهن ، وزاد فيهن : آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون . وكان هو وأصحابه إذا علوا الثنايا ، كبروا ، وإذا هبطوا الأودية ، سبحوا . وكان إذا أشرف على قرية يريد دخولها يقول " اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما ذرين ، أسألك خير هذه القرية وخير أهلها ، وأعوذ بك من شرها ، وشر أهلها وشر ما فيها ". وذكر عنه أنه كان يقول : " اللهم إني أسألك من خير هذه القرية وخير ما جمعت فيها ، وأعوذ بك من شرها وشر ما جمعت فيها، اللهم ارزقنا جناها ، وأعذنا من وباها ، وحببنا إلى أهلها ، وحبب صالحي أهلها إلينا " . وكان يقصر الرباعية ، فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافراً إلى أن يرجع إلى المدينة ، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة ، وأما حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ، ويتم ، ويفطر ويصوم ، فلا يصح . وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى ، وقد روي : كان يقصر وتتم ، الأول بالياء آخر الحروف ، والثاني بالتاء المثناة من فوق ، وكذلك يفطر ويصوم ، أي : تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين ، قال شيخنا ابن تيمية : وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه ، فتصلي خلاف صلاتهم ، كيف والصحيح عنها أنها قالت : إن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، زيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر فكيف يظن بها مع ذلك أن تصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه . قلت : وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عباس وغيره : إنها تأولت كما تأول عثمان وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر دائماً ، فركب بعض الرواة من الحديثين حديثاً ، وقال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصر وتتم هي ، فغلط بعض الرواة ، فقال: كان يقصر ويتم ، أي : هو . والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه ، فقيل : ظنت أن القصر مشروط بالخوف في السفر ، فإذا زال الخوف ، زال سبب القصر ، وهذا التأويل غير صحيح ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سافر آمناً وكان يقصر الصلاة ، والآية قد أشكلت على عمر وعلى غيره ، فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجابه بالشفاء وأن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة ، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد ، وإن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف ، وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم ، أو رفع له ، وقد يقال : إن الآية اقتضت قصراً يتناول قصر الأركان بالتخفيف ، وقصر العدد بنقصان ركعتين ، وقيد ذلك بأمرين : الضرب في الأرض ، والخوف ، فإذا وجد الأمران ، أبيح القصران ، فيصلون صلاة الخوف مقصورة عددها وأركانها ، وإن انتفى الأمران ، فكانوا آمنين مقيمين ، انتفى القصران ، فيصلون صلاة تامة كاملة ، وإن وجد أحد السببين ، ترتب عليه قصره وحده ، فإذا وجد الخوف والإقامة ، قصرت الأركان ، واستوفي العدد ، وهذا نوع قصر ، وليس بالقصر المطلق في الآية ، فإن وجد السفر والأمن ، قصر العدد واستوفي الأركان ، وسميت صلاة أمن ، وهذا نوع قصر ، وليس بالقصر المطلق ، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد ، وقد تسمى تامة باعتبار إتمام أركانها ، وأنها لم تدخل في قصر الآية ، والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين ، والثاني يدل عليه كلام الصحابة ، كعائشة وابن عباس وغيرهما ، قالت عائشة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، زيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر . فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع ، وإنما هي مفروضة كذلك ، وأن فرض المسافر ركعتان . وقال ابن عباس : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة متفق على حديث عائشة ، وانفرد مسلم بحديث ابن عباس . وقال عمر رضي الله عنه : صلاة السفر ركعتان ، والجمعة ركعتان ، والعيد ركعتان ، تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد خاب من افترى . وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه ، وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم : ما بالنا نقصر وقد أمنا ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صدقة تصدق بها الله عليكم ، فاقبلوا صدقته " . ولا تناقض بين حديثيه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ، ودينه اليسر السمح ، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد كما فهمه كثير من الناس ، فقال : صلاة السفر ركعتان ، تمام غير قصر . وعلى هذا ، فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح ، فإن شاء المصلي ، فعله ، وإن شاء ، أتم . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين ، ولم يربع قط إلا شيئاً فعله في بعض صلاة الخوف ، كما سنذكره هناك ، ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى . وقال أنس : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة . متفق عليه. ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان . متفق عليه . ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما ، بل الأولى على قول ، وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه على صلاة ركعتين في السفر . وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان في السفر لا يزيد على ركعتين ، وأبا بكر وعمر وعثمان . يعني في صدر خلافة عثمان ، وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته ، وكان ذلك أحد الأسباب التي أنكرت عليه . وقد خرج لفعله تأويلات ، أحدها : أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة ، فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع ، لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر ، ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانوا حديثي عهد بالإسلام ، والعهد بالصلاة قريب ، ومع هذا ، فلم يربع بهم النبي صلى الله عليه وسلم . ==>>>يتبع |
التأويل الثاني : أنه كان إماماً للناس ، والإمام حيث نزل ، فهو عمله ومحل ولايته ، فكأنه وطنه ، ورد هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو أولى بذلك ، وكان هو الإمام المطلق ، ولم يربع .
التأويل الثالث : أن منى كانت قد بنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده ، ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كانت فضاء ، ولهذا قيل له : يا رسول الله ألا نبني لك بمنى بيتاً يظلك من الحر ؟ فقال :" لا منى مناخ من سبق ". فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر . ورد هذا التأويل بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشراً يقصر الصلاة . التأويل الرابع : أنه أقام بها ثلاثاً ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً " فسماه مقيماً ، والمقيم غير مسافر ، ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر ، وقد أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشراً يقصر الصلاة ، وأقام بمنى بعد نسكه أيام الجمار الثلاث يقصر الصلاة . التأويل الخامس : أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى ، واتخاذها دار الخلافة ، فلهذا أتم ، ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة ، وهذا التأويل أيضاً مما لا يقوى ، فإن عثمان رضي الله عنه من المهاجرين الأولين ، وقد منع صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإقامة بمكة بعد نسكهم ، ورخص لهم فيها ثلاثة أيام فقط ، فلم يكن عثمان ليقيم بها ، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ، وإنما رخص فيها ثلاثاً وذلك لأنهم تركوها لله ، وما ترك لله ، فإنه لا يعاد فيه ، ولا يسترجع ، ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من شراء المتصدق لصدقته ، وقال لعمر : " لا تشترها ، ولا تعد في صدقتك " . فجعله عائدأ في صدقته مع أخذها بالثمن . التأويل السادس : أنه كان قد تأهل بمنى والمسافر إذا أقام في موضع ، وتزوج فيه ، أو كان له به زوجة ، أتم ، يروى في ذلك حديث مرفوع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي ، عن ابن أبي ذباب ، عن أبيه قال : صلى عثمان بأهل منى أربعاً وقال : يا أيها الناس ! لما قدمت تأهلت بها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا تأهل الرجل ببلدة ، فإنه يصلي بها صلاة مقيم ". رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده وعبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده أيضاً ، وقد أعله البيهقي بانقطاعه ، وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم . قال أبو البركات ابن تيمية : ويمكن المطالبة بسبب الضعف ، فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه ، وعادته ذكر الجرح والمجروحين ، وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج ، لزمه الإتمام ، وهذا قول أبي حنيفة ، ومالك ، وأصحابهما ، وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان . وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين ، فحيث نزلت كان وطنها ، وهو أيضاً اعتذار ضعيف ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين أيضاً ، وأمومة أزواجه فرع عن أبوته ، ولم يكن يتم لهذا السبب . وقد روى هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنها كانت تصلي في السفر أربعاً ، فقلت لها : لو صليت ركعتين ، فقالت : يا ابن أختي ! إنه لا يشق علي . قال الشافعي رحمه الله : لو كان فرض المسافر ركعتين ، لما أتمها عثمان ، ولا عائشة ، ولا ابن مسعود ، ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم ، وقد قالت عائشة : كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتم وقصر ، ثم روي عن إبراهيم بن محمد ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة قالت : كل ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، قصر الصلاة في السفر وأتم . قال البيهقي : وكذلك رواه المغيرة بن زياد ، عن عطاء ، وأصح إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحارثي ، عن الدارقطني ، عن المحاملي ، حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا عمر بن سعيد ، عن عطاء ، عن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يقصر في الصلاة ويتم ، ويفطر ، ويصوم . قال الدارقطني : وهذا إسناد صحيح . ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري ، عن عباس الدوري ، أنبأنا أبو نعيم ، حدثنا العلاء بن زهير ، حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، عن عائشة ، أنها اعتمرت مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، حتى إذا قدمت مكة ، قالت : يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي ، قصرت وأتممت ، وصمت وأفطرت . قال . أحسنت يا عائشة . وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذا الحديث كذب على عائشة ، ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة ، وهي تشاهدهم يقصرون ، ثم تتم هي وحدها بلا موجب . كيف وهي القائلة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر . فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله ، وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . قال الزهري لعروة لما حدثه عنها بذلك : فما شأنها كانت تتم الصلاة ؟ فقال : تأولت كما تأول عثمان . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها وأقرها عليه ، فما للتأويل حينئذ وجه ، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير ، وقد أخبر ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ، ولا أبو بكر ، ولا عمر . أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم ، وهي تراهم يقصرون ؟ وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم ، فإنها أتمت كما أتم عثمان ، وكلاهما تأول تأويلاً ، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له والله أعلم . وقد قال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر : إنا نجد صلاة الحضر ، وصلاة الخوف في القرآن ، ولا نجد صلاة السفر في القرآن ؟ فقال له ابن عمر : يا أخي ! إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ، ولا نعلم شيئاً ، فإنما نفعل كما رأينا محمداً صلى الله عليه وسلم يفعل . وقد قال أنس : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين ، حتى رجعنا إلى المدينة . وقال ابن عمر : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين ، وأبا بكر وعمر ، وعثمان رضي الله عنهم ، وهذه كلها أحاديث صحيحة . |
فصل في هديه في التطوع في السفر
فصل وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في سفره الاقتصار على الفرض ، ولم يحفظ عنه أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها ، إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر ، فإنه لم يكن ليدعهما حضراً ، ولا سفراً . قال ابن عمر وقد سئل عن ذلك : فقال : صحبت النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم أره يسبح في السفر ، وقال الله عز وجل : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " ( الأحزاب :21) ومراده بالتسبيح : السنة الراتبة ، وإلا فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه . وفى الصحيحين ، عن ابن عمر ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت ، يومىء إيماء صلاة الليل ، إلا الفرائض ويوتر على راحلته . قال الشافعي رحمه الله : وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يتنفل ليلاً ، وهو يقصر ، وفي الصحيحين : عن عامر بن ربيعة ، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته . فهذا قيام الليل . وسئل الإمام أحمد رحمه الله ، عن التطوع في السفر ؟ فقال : أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس ، وروي عن الحسن قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون ، فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها ، وروي هذا عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وجابر ، وأنس ، وابن عباس ، وأبي ذر . وأما ابن عمر ، فكان لا يتطوع قبل الفريضة ولا بعدها ، إلا من جوف الليل مع الوتر ، وهذا هو الظاهر من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يصلي قبل الفريضة المقصورة ولا بعدها شيئاً ، ولكن لم يكن يمنع من التطوع قبلها ولا بعدها ، فهو كالتطوع المطلق ، لا أنه سنة راتبة للصلاة ، كسنة صلاة الإقامة ، ويؤيد هذا أن الرباعية قد خففت إلى ركعتين تخفيفاً على المسافر ، فكيف يجعل لها سنة راتبة يحافظ عليها وقد خفف الفرض إلى ركعتين ، فلو لا قصد التخفيف على المسافر ، وإلا كان الإتمام أولى به ، ولهذا قال عبد الله بن عمر : لو كنت مسبحاً ، لأتممت ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه صلى يوم الفتح ثمان ركعات ضحى ، وهو إذ ذاك مسافر . وأما ما رواه أبو داود والترمذي في السنن ، من حديث الليث ، عن صفوان بن سليم ، عن أبي بسرة الغفاري ، عن البراء بن عازب ، قال : سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفراً ، فلم أره ترك ركعتين عند زيغ الشمس قبل الظهر . قال الترمذي : هذا حديث غريب . قال : وسألت محمداً عنه ، فلم يعرفه إلا من حديث الليث بن سعد ، ولم يعرف اسم أبي بسرة ورآه حسناً . وبسرة : بالباء الموحدة المضمومة ، وسكون السين المهملة . وأما حديث عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، فرواه البخاري في صحيحه ولكنه ليس بصريح في فعله ذلك في السفر ، ولعلها أخبرت عن أكثر أحواله وهو الإقامة ، والرجال أعلم بسفره من النساء ، وقد أخبر ابن عمر أنه لم يزد على ركعتين ، ولم يكن ابن عمر يصلي قبلها ولا بعدها شيئاً . والله أعلم . |
فصل في هديه في التطوع على الراحلة
فصل وكان من هديه صلى الله عليه وسلم صلاة التطوع على راحلته حيث توجهت به ، وكان يومىء إيماء برأسه في ركوعه ، وسجوده ، وسجوده أخفض من ركوعه ، وروى أحمد وأبو داود عنه ، من حديث أنس ، أنه كان يستقبل بناقته القبلة عند تكبيرة الافتتاح ، ثم يصلي سائر الصلاة حيث توجهت به . وفي هذا الحديث نظر ، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته ، أطلقوا أنه كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به ، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها ، كعامر بن ربيعة ، وعبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وأحاديثهم أصح من حديث أنس هذا ، والله أعلم . وصلى على الراحلة ، وعلى الحمار إن صح عنه ، وقد رواه مسلم فى صحيحه من حديث ابن عمر . وصلى الفرض بهم على الرواحل لأجل المطر والطين إن صح الخبر بذلك ، وقد رواه أحمد والترمذي والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام انتهي إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته ، والسماء من فوقهم ، والبلة من أسفل منهم ، فحضرت الصلاة ، فأمر المؤذن فأذن ، وأقام ، ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته ، فصلى بهم يومى إيماء ، فجعل السجود أخفض من الركوع . قال الترمذي : حديث غريب ، تفرد به عمر بن الرماح ، وثبت ذلك عن أنس من فعله . |
فصل في هديه في الجمع بين الصلاتين
فصل وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، أنه إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس ، أخر الظهر إلى وقت العصر ، ثم نزل ، فجمع بينهما ، فإن زالت الشمس قبل أن يرتحل ، صلى الظهر ، ثم ركب . وكان إذا أعجله السير ، أخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء في وقت العشاء . وقد روي عنه في غزوة تبوك ، أنه كان إذا زاغت الشمس قبل أت يرتحل ، جمع بين الظهر والعصر ، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس ، أخر الظهر حتى ينزل للعصر ، فيصليهما جميعاً ، وكذلك في المغرب والعشاء ، لكن اختلف في هدا الحديث ، فمن مصحح له ، ومن محسن ، ومن قادح فيه ، وجعله موضوعاً كالحاكم ، وإسناده على شرط الصحيح ، لكن رمي بعلة عجيبة ، قال الحاكم : حدثنا أبو بكر بن محمد بن أحمد بن بالويه ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ بن جبل ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس ، أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر ، ويصليهما جميعاً ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس ، صلى الظهر والعصر جميعاً ، ثم سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب ، أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بعد المغرب ، عجل العشاء فصلاها مع المغرب . قال الحاكم : هذا الحديث رواته أئمة ثقات ، وهو شاذ الإسناد والمتن ، ثم لا نعرف له علة نعله بها . فلو كان الحديث عن الليث ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، لعللنا به الحديث . ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، لعللنا به ، فلما لم نجد له العلتين ، خرج عن أن يكون معلولاً ، ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية ، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عن أحد من أصحاب أبي الطفيل ، ولا عن أحد ممن روى عن معاذ بن جبل غير أبي الطفيل ، فقلنا : الحديث شاذ . وقد حدثوا عن أبي العباس الثقفي قال : كان قتيبة بن سعيد يقول لنا : على هذا الحديث علامة أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، ويحيى بن معين ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي خيثمة ، حتى عد قتيبة سبعة من أئمة الحديث كتبوا عنه هذا الحديث ، وأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجباً من إسناده ومتنه ، ثم لم يبلغنا عن أحد منهم أنه ذكر للحديث علة ، ثم قال : فنظرنا فإذا الحديث موضوع ، وقتيبة ثقة مأمون ، ثم ذكر بإسناده إلى البخاري . قال: قلت لقتيبة بن سعيد : مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ؟ قال : كتبته مع خالد بن القاسم أبي الهيثم المدائني . قال البخاري : وكان خالد المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ . قلت : وحكمه بالوضع على هذا الحديث غير مسلم ، فإن أبا داود رواه عن يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الرملي ، حدثنا المفضل بن فضالة ، عن الليث ، بن سعد ، عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ فذكره . . . فهذا المفضل قد تابع قتيبة ، وإن كان قتيبة أجل من المفضل وأحفظ ، لكن زال تفرد قتيبة به ، ثم إن قتيبة صرح بالسماع فقال : حدثنا ولم يعنعن ، فكيف يقدح في سماعه ، مع أنه بالمكان الذي جعله الله به من الأمانة ، والحفظ ، والثقة ، والعدالة . وقد روى إسحاق بن راهويه : حدثنا شبابة ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان إذا كان في سفر ، فزالت الشمس ، صلى الظهر والعصر ، ثم ارتحل . وهذا إسناد كما ترى ، وشبابة : هو شبابة بن سوار الثقة المتفق على الاحتجاج بحديثه ، وقد روى له مسلم في صحيحه عن الليث بن سعد بهذا الإسناد ، على شرط الشيخين ، وأقل درجاته أن يكون مقوياً لحديث معاذ ، وأصله في الصحيحين لكن ليس فيه جمع التقديم . ثم قال أبو داود : وروى هشام ، عن عروة ، عن حسين بن عبد لله ، عن كريب ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحو حديث المفضل ، يعني حديث معاذ في الجمع والتقديم ، ولفظه : عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن كريب ، عن ابن عباس ، أنه قال : ألا أخبركم عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في السفر ؟ كان إذا زالت الشمس وهو في منزله ، جمع بين الظهر والعصر في الزوال ، وإذا سافر قبل أن تزول الشمس ، أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر ، قال : وأحسبه قال في المغرب والعشاء مثل ذلك ، ورواه الشافعي من حديث ابن أبي يحيى ، عن حسين ، ومن حديث ابن عجلان بلاغاً عن حسين . قال البيهقي : هكذا رواه الأكابر ، هشام بن عروة وغيره ، عن حسين بن عبد الله . ورواه عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن حسين ، عن عكرمة ، وعن كريب كلاهما عن ابن عباس ، ورواه أيوب عن أبي قلابة ، عن ابن عباس ، قال : ولا أعلمه إلا مرفوعاً . وقال إسماعيل بن إسحاق : حدثنا إسماعيل بن أبي إدريس ، قال : حدثني أخي ، عن سليمان بن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن كريب عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير ، فراح قبل أن تزيغ الشمس ، ركب فسار ، ثم نزل ، فجمع بين الظهر والعصر ، وإذا لم يرح حتى تزيغ الشمس ، جمع بين الظهر والعصر ، ثم ركب ، وإذا أراد أن يركب ودخلت صلاة المغرب ، جمع بين المغرب وبين صلاة العشاء . قال أبو العباس بن سريج : روى يحيى بن عبد الحميد ، عن أبي خالد الأحمر ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يرتحل حتى تزيغ الشمس ، صلى الظهر والعصر جميعاً ، فإذا لم تزغ ، أخرها حتى يجمع بينهما في وقت العصر . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ويدل على جمع التقديم جمعه بعرفة بين الظهر والعصر لمصلحة الوقوف ، ليتصل وقت الدعاء ، ولا يقطعه بالنزول لصلاة العصر مع إمكان ذلك بلا مشقة ، فالجمع كذلك لأجل المشقة والحاجة أولى . قال الشافعي : وكان أرفق به يوم عرفة تقديم العصر لأن يتصل له الدعاء ، فلا يقطعه بصلاة العصر ، وأرفق بالمزدلفة أن يتصل له المسير ، ولا يقطعه بالنزول للمغرب ، لما في ذلك من التضييق على الناس . والله أعلم . |
فصل في هديه في عدم الجمع راكباً في سفره
فصل ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم الجمع راكباً في سفره ، كما يفعله كثير من الناس ، ولا الجمع حال نزوله أيضاً ، وإنما كان يجمع إذا جد به السير ، وإذا سار عقيب الصلاة ، كما ذكرنا في قصة تبوك ، وأما جمعه وهو نازل غير مسافر ، فلم ينقل ذلك عنه إلا بعرفة لأجل اتصال الوقوف ، كما قال الشافعي رحمه الله وشيخنا ، ولهذا خصه أبو حنيفة بعرفة ، وجعله من تمام النسك ، ولا تأثير للسفر عنده فيه . وأحمد ، ومالك ، والشافعي ، جعلوا سببه السفر ، ثم اختلفوا ، فجعل الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه التأثير للسفر الطويل ، ولم يجوزاه لأهل مكة ، وجوز مالك وأحمد في الرواية الأخرى عنه لأهل مكة الجمع ، والقصر بعرفة ، واختارها شيخنا وأبو الخطاب في عباداته ، ثم طرد شيخنا هذا ، وجعله أصلاً في جواز القصر والجمع في طويل السفر وقصيره ، كما هو مذهب كثير من السلف ، وجعله مالك وأبو الخطاب مخصوصاً بأهل مكة . ولم يحد صلى الله عليه وسلم لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر ، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض ، كما أطلق لهم التيمم في كل سفر ، وأما ما يروى عنه من التحديد باليوم ، أو اليومين ، أو الثلاثة ، فلم يصح عنه منها شئ البتة ، والله أعلم . |
فصل في هديه في قراءة القرآن واستماعه وخشوعه
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن ، واستماعه ، وخشوعه ، وبكائه عند قراءته ، واستماعه وتحسين صوته به وتوابع ذلك كان له صلى الله عليه وسلم حزب يقرؤه ، ولا يخل به ، وكانت قراءته ترتيلاً لا هذاً ولا عجلة ، بل قراءة مفسرة حرفاً حرفاً . وكان يقطع قراءته آية آية ، وكان يمد عند حروف المد ، فيمد ( الرحمن ) ويمد ( الرحيم ) ، وكان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في أول قراءته ، فيقول : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "، وربما كان يقول : " اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ، ونفثه " . وكان تعوذه قبل القراءة . وكان يحب أن يسمع القرآن من غيره ، وأمر عبد الله بن مسعود ، فقرأ عليه وهو يسمع . وخشع صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن منه ، حتى ذرفت عيناه . وكان يقرأ القرآن قائماً ، وقاعداً ، ومضطجعاً ، ومتوضئاً ، ومحدثاً ، ولم يكن يمنعه من قراءته إلا الجنابة . وكان صلى الله عليه وسلم يتغنى به ، ويرجع صوته به أحياناً كما رجع يوم الفتح في قراءته " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " . وحكى عبد الله بن مغفل ترجيعه ، آ آ آ ثلاث مرات ، ذكره البخاري . وإذا جمعت هذه الأحاديث إلى قوله : " زينوا القرآن بأصواتكم ". وقوله : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " . وقوله : " ما أذن الله لشئ ، كأذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن " . علمت أن هذا الترجيع منه صلى الله عليه وسلم ، كان اختياراً لا اضطراراً لهز الناقة له ، فإن هذا لو كان لأجل هز الناقة ، لما كان داخلاً تحت الاختيار ، فلم يكن عبد الله بن مغفل يحكيه ويفعله اختياراً ليؤتسى به ، وهو يرى هز الراحلة له حتى ينقطع صوته ، ثم يقول : كان يرجع في قراءته ، فنسب الترجيع إلى فعله . ولو كان من هز الراحلة ، لم يكن منه فعل يسمى ترجيعاً . وقد استمع ليلة لقراءة أبي موسى الأشعري ، فلما أخبره بذلك ، قال : لو كنت أعلم أنك تسمعه ، لحبرته لك تحبيراً . أي : حسنته وزينته بصوتي تزييناً ، وروى أبو داود في سننه عن عبد الجبار بن الورد ، قال : سمعت ابن أبي مليكة يقول : قال عبد الله بن أبي يزيد : مر بنا أبو لبابة ، فاتبعناه حتى دخل بيته ، فإذا رجل رث الهيئة ، فسمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن ". قال : فقلت لابن أبي مليكة : يا أبا محمد ! أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت ؟ قال : يحسنه ما استطاع . قلت : لا بد من كشف هذه المسألة ، وذكر اختلاف الناس فيها ، واحتجاج كل فريق ، وما لهم وعليهم في احتجاجهم ، وذكر الصواب في ذلك بحول الله تبارك وتعالى ومعونته ، فقالت طائفة : تكره قراءة الألحان ، وممن نص على ذلك أحمد ومالك وغيرهما ، فقال أحمد في رواية علي بن سعيد في قراءة الألحان : ما تعجبني وهو محدث . وقال في رواية المروزي : القراءة بالألحان بدعة لا تسمع ، وقال في رواية عبد الرحمن المتطبب : قراءة الألحان بدعة ، وقال في رواية ابنه عبد الله ، ويوسف بن موسى ، ويعقوب بن بختان ، والأثرم ، وإبراهيم بن الحارث : القراءة بالألحان لا تعجبني إلا أن يكون ذلك حزناً ، فيقرأ بحزن مثل صوت أبي موسى ، وقال في رواية صالح : " زينوا القرآن بأصواتكم " ، معناه : أن يحسنه ، وقال في رواية المروزي : "ما أذن الله لشئ كأذنه لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن " وفي رواية قوله : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن" ، فقال : كان ابن عيينة يقول : يستغني به . وقال الشافعي : يرفع صوته ، وذكر له حديث معاوية بن قرة في قصة قراءة سورة الفتح والترجيع فيها ، فأنكر أبو عبد الله أن يكون على معنى الألحان ، وأنكر الأحاديث التي يحتج بها في الرخصة في الألحان . وروى ابن القاسم ، عن مالك ، أنه سئل عن الألحان في الصلاة ، فقال : لا تعجبني ، وقال : إنما هو غناء يتغنون به ، ليأخذوا عليه الدراهم ، وممن رويت عنه الكراهة ، أنس بن مالك ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والقاسم بن محمد ، والحسن ، وابن سيرين ، وإبراهيم النخعي . وقال عبد الله بن يزيد العكبري : سمعت رجلاً يسأل أحمد ، ما تقول في القراءة بالألحان ؟ فقال : ما اسمك ؟ قال محمد : قال : أيسرك أن يقال لك : يا موحمد ممدوداً ، قال القاضي أبو يعلى : هذه مبالغة في الكراهة . وقال الحسن بن عبد العزيز الجروي : أوصى إلي رجل بوصية ، وكان فيما خلف جارية تقرأ بالألحان ، وكانت أكثر تركته أو عامتها ، فسألت أحمد بن حنبل والحارث بن مسكين ، وأبا عبيد ، كيف أبيعها ؟ فقالوا : بعها ساذجة ، فأخبرتهم بما في بيعها من النقصان ، فقالوا : بعها ساذجة ، قال القاضي : وإنما قالوا ذلك ، لأن سماع ذلك منها مكروه ، فلا يجوز أن يعاوض عليه كالغناء . قال ابن بطال : وقالت طائفة : التغني بالقرآن ، هو تحسين الصوت به ، والترجيع بقراءته ، قال : والتغني بما شاء من الأصوات واللحون هو قول ابن المبارك ، والنضر بن شميل ، قال : وممن أجاز الألحان في القرآن : ذكر الطبري ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه كان يقول لأبي موسى : ذكرنا ربنا ، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن ، وقال : من استطاع أن يتغنى بالقرآن غناء أبي موسى ، فليفعل ، وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتاً بالقرآن ، فقال له عمر : اعرض علي سورة كذا ، فعرض عليه ، فبكى عمر ، وقال : ما كنت أظن أنها نزلت ، قال : وأجازه ابن عباس ، وابن مسعود ، وروي عن عطاء بن أبي رباح ، قال : وكان عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد ، يتتبع الصوت الحسن في المساجد في شهر رمضان . وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه : أنهم كانوا يستمعون القرآن بالألحان . وقال محمد بن عبد الحكم : رأيت أبي والشافعي ويوسف بن عمر يستمعون القرآن بالألحان ، وهذا اختيار ابن جرير الطبري . قالا المجوزون - واللفظ لابن جرير - : الدليل : على أن معنى الحديث تحسين الصوت ، والغناء المعقول الذي هو تحزين القارىء سامع قراءته ، كما أن الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذي يطرب سامعه - : ما روى سفيان ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " ما أذن الله لشئ ما أذن لنبى حسن الترنم بالقرآن " ومعقول عند ذوى الحجا ، أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به . وروي في هذا الحديث "ما أذن الله لشئ ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به " . قال الطبري : وهذا الحديث من أبين البيان أن ذلك كما قلنا ، قال : ولو كان كما قال ابن عيينة ، يعني : يستغني به عن غيره ، لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى ، والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع ، قال الشاعر : تغن بالشعر إما كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار قال : وأما ادعاء الزاعم ، أن تغنيت بمعنى استغنيت فاش في كلام العرب ، فلم نعلم أحداً قال به من أهل العلم بكلام العرب . وأما احتجاجه لتصحيح قوله بقول الأعشى : وكنت امرءاً زمنا بالعراق عفيف المناخ طويل التغن وزعم أنه أراد بقوله : طويل التغني : طويل الاستغناء ، فإنه غلط منه ، وإنما عنى الأعشى بالتغني في هذا الموضع : الإقامة من قول العرب : غني فلان بمكان كذا : إذا أقام به ، ومنه قوله تعالى : " كأن لم يغنوا فيها " ( الأعراف : 92) ، واستشهاده بقول الآخر : كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا فإنه إغفال منه ، وذلك لأن التغاني تفاعل من تغنى : إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه ، كما يقال : تضارب الرجلان ، إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه ، وتشاتما ، وتقاتلا . ومن قال : هذا في فعل اثنين ، لم يجز أن يقول مثله في الفعل الواحد ، فيقول : تغانى زيد ، وتضارب عمرو ، وذلك غير جائز أن يقول : تغنى زيد بمعنى استغنى ، إلا أن يريد به قائله أنه أظهر الاستغناء ، وهو غير مستغن ، كما يقال : تجلد فلان : إذا أظهر جلداً من نفسه ، وهو غير جليد ، وتشجع ، وتكرم ، فإن وجه موجه التغني بالقرآن إلى هذا المعنى على بعده من مفهوم كلام العرب ، كانت المصيبة في خطئه في ذلك أعظم ، لأنه يوجب على من تأوله أن يكون الله تعالى ذكره لم يأذن لنببه أن يستغني بالقرآن ، وإنما أذن له أن يظهر من نفسه لنفسه خلاف ما هو به من الحال ، وهذا لا يخفى فساده . قال : ومما يبين فساد تأويل ابن عيينة أيضاً أن الاستغناء عن الناس بالقرآن من المحال أن يوصف أحد به أنه يؤذن له فيه أو لا يؤذن ، إلا أن يكون الأذن عند ابن عيينة بمعنى الإذن الذي هو إطلاق وإباحة ، وإن كان كذلك ، فهو غلط من وجهين ، أحدهما : من اللغة ، والثاني : من إحالة المعنى عن وجهه . أما اللغة ، فإن الأذن مصدر قوله : أذن فلان لكلام فلان ، فهو يأذن له : إذا استمع له وأنصت ، كما قال تعالى : " وأذنت لربها وحقت " ( الإنشقاق : 2 ) ، بمعنى سمعت لربها وحق لها ذلك ، كما قال عدي بن زيد : إن همي في سماع وأذن بمعنى ، في سماع واستماع . فمعنى قوله : ما أذن الله لشئ ، إنما هو : ما استمع الله لشئ من كلام الناس ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن . وأما الإحالة في المعنى ، فلأن الاستغناء بالقرآن عن الناس غير جائز وصفه بأنه مسموع ومأذون له ، انتهى كلام الطبري . قال أبو الحسن بن بطال : وقد وقع الإشكال في هذه المسألة أيضاً ، بما رواه ابن أبي شيبة ، حدثنا زيد بن الحباب ، قال : حدثني موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعلموا القرآن وتغنوا به ، واكتبوه ، فوالذي نفسي بيده ، لهو أشد تفصياً من المخاض من العقل " . قال : وذكر عمر بن شبة ، قال : ذكر لأبي عاصم النبيل تأويل ابن عيينة في قوله يتغنى بالقرآن يستغني به ، فقال : لم يصنع ابن عيينة شيئاً ، حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، قال : كانت لداود نبي الله صلى الله عليه وسلم معزفة يتغنى عليها يبكي ويبكي . وقال ابن عباس : إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحناً ، تكون فيهن ، ويقرأ قراءة يطرب منها الجموع . وسئل الشافعي رحمه الله ، عن تأويل ابن عيينة فقال : نحن أعلم بهذا ، لو أراد به الاستغناء ، لقال : من لم يستغن بالقرآن ، ولكن لما قال : يتغنى بالقرآن ، علمنا أنه أراد به التغني . قالوا : ولأن تزيينه ، وتحسين الصوت به ، والتطريب بقراءته أوقع في النفوس ، وأدعى إلى الاستماع والإصغاء إليه ، ففيه تنفيذ للفظه إلى الأسماع ، ومعانيه إلى القلوب ، وذلك عون على المقصود ، وهو بمنزلة الحلاوة التي تجعل في الدواء لتنفذه إلى موضع الداء ، وبمنزلة الأفاويه والطيب الذي يجعل في الطعام ، لتكون الطبيعة أدعى له قبولاً ، وبمنزلة الطيب والتحلي ، وتجمل المرأة لبعلها ، ليكون أدعى إلى مقاصد النكاح . قالوا : ولا بد للنفس من طرب واشتياق إلى الغناء ، فعوضت عن طرب الغناء بطرب القرآن ، كما عوضت عن كل محرم ومكروه بما هو خير لها منه ، وكما عوضت عن الاستقسام بالأزلام بالاستخارة التي هي محض التوحيد والتوكل ، وعن السفاح بالنكاح ، وعن القمار بالمراهنة بالنصال وسباق الخيل ، وعن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني القرآني ، ونظائره كثيرة جداً . قالوا : والمحرم ، لا بد أن يشتمل على مفسدة راجحة ، أو خالصة ، وقراءة التطريب والألحان لا تتضمن شيئاً من ذلك ، فإنها لا تخرج الكلام عن وضعه ، ولا في تحول بين السامع وبين فهمه ، ولو كانت متضمنة لزيادة الحروف كما ظن المانع منها ، لأخرجت الكلمة عن موضعها ، وحالت بين السامع وبين فهمها ، ولم يدر ما معناها ، والواقع بخلاف ذلك . قالوا : وهذا التطريب والتلحين ، أمر راجع إلى كيفية الأداء ، وتارة يكون سليقة وطبيعة ، وتارة يكون تكلفاً وتعملاً ، وكيفيات الأداء لا تخرج الكلام عن وضع مفرداته ، بل هي صفات لصوت المؤدي ، جارية مجرى ترقيقه وتفخيمه وإمالته ، وجارية مجرى مدود القراء الطويلة والمتوسطة ، لكن تلك الكيفيات متعلقة بالحروف ، وكيفيات الألحان والتطريب ، متعلقة بالأصوات ، والآثار في هذه الكيفيات ، لا يمكن نقلها ، بخلاف كيفيات أداء الحروف ، فلهذا نقلت تلك بألفاظها ، ولم يمكن نقل هذه بألفاظها ، بل نقل منها ما أمكن نقله ، كترجيع النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الفتح بقوله : آ آ آ . قالوا : والتطريب والتلحين راجع إلى أمرين : مد وترجيع ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يمد صوته بالقراءة يمد الرحمن ويمد الرحيم ، وثبت عنه الترجيع كما تقدم . قال المانعون من ذلك : الحجة لنا من وجوه . أحدها : ما رواه حذيفة بن اليمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق ، فإنه سيجئ من بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح ، لا يجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم ، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم " . رواه أبو الحسن رزين في تجريد الصحاح ورواه أبو عبد الله الحكيم الترمذي في نوادر الأصول . واحتج به القاضي أبو يعلى في الجامع ، واحتج معه بحديث آخر ، أنه صلى الله عليه وسلم ذكر شرائط الساعة ، وذكر أشياء ، منها : " أن يتخذ القرآن مزامير ، يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ما يقدمونه إلا ليغنيهم غناء" . قالوا : وقد جاء زياد النهدي إلى أنس رضي الله عنه مع القراء ، فقيل له : إقرأ ، فرفع صوته وطرب ، وكان رفيع الصوت ، فكشف أنس عن وجهه ، وكان على وجهه خرقة سوداء ، وقال : يا هذا ! ماهكذا كانوا يفعلون ، وكان إذا رأى شيئاً ينكره ، رفع الخرقة عن وجهه . قالوا : وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم المؤذن المطرب في أذانه من التطريب ، كما روى ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم :" إن الأذان سهل سمح ، فإن كان أذانك سهلاً سمحاً ، وإلا فلا تؤذن " رواه الدارقطني . وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن أبيه ، قال : كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم المد ، ليس فيها ترجيع . قالوا : والترجيع والتطريب يتضمن همز ما ليس بمهموز ، ومد ما ليس بممدود ، وترجيع الألف الواحد ألفات ، والواو واوات ، والياء ياءآت ، فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن ، وذلك غير جائز ، قالوا : ولا حد لما يجوز من ذلك ، وما لا يجوز منه ، فإن حد بحد معين ، كان تحكماً في كتاب الله تعالى ودينه ، وإن لم يحد بحد ، أفضى إلى أن يطلق لفاعله ترديد الأصوات ، وكثرة الترجيعات ، والتنويع في أصناف الإيقاعات والألحان المشبهة للغناء ، كما يفعل أهل الغناء بالأبيات ، وكما يفعله كثير من القراء أمام الجنائز ، ويفعله كثير من قراء الأصوات ، مما يتضمن تغيير كتاب الله والغناء به على نحو ألحان الشعر والغناء ، ويوقعون الإيقاعات عليه مثل الغناء سواء ، اجتراء على الله وكتابه ، وتلاعباً بالقرآن ، وركوناً إلى تزيين الشيطان ، ولا يجيز ذلك أحد من علماء الإسلام ، ومعلوم : أن التطريب والتلحين ذريعة مفضية إلى هذا إفضاء قريباً ، فالمنع منه ، كالمنع من الذرائع الموصلة إلى الحرام ، فهذا نهاية اقدام الفريقين ، ومنتهى احتجاج الطائفتين . وفصل النزاع ، أن يقال : التطريب والتغني على وجهين ، أحدهما : ما اقتضته الطبيعة ، وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم ، بل إذا خلي وطبعه ، واسترسلت طبيعته ، جاءت بذلك التطريب والتلحين ، فذلك جائز ، وإن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين ، كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم :" لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيراً " والحزين ومن هاجه الطرب ، والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة ، و لكن النفوس تقبله وتستحليه لموافقته الطبع ، وعدم التكلف والتصنع فيه ، فهو مطبوع لا متطبع وكلف لا متكلف ، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه ، وهو التغني الممدوح المحمود ، وهو الذي يتأثر به التالي والسامع ، وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها . الوجه الثاني : ما كان من ذلك صناعة من الصنائع ، وليس في الطبع السماحة به ، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن ، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة ، والمركبة على إيقاعات مخصوصة ، وأوزان مخترعة ، لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف ، فهذه هي التي كرهها السلف ، وعابوها ، وذموها ، ومنعوا القراءة بها ، وأنكروا على من قرأ بها ، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه ، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ، ويتبين الصواب من غيره ، وكل من له علم بأحوال السلف ، يعلم قطعاً أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة ، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة ، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها ، ويسوغوها ، ويعلم قطعاً أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب ، ويحسنون أصواتهم بالقرآن ، ويقرؤونه بشجى تارة ، وبطرب تارة ، وبشوق تارة ، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه ، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له ، بل أرشد إليه وندب إليه ، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به ، وقال : " ليس منا من لم يتغن بالقرأن " وفيه وجهان : أحدهما : أنه إخبار بالواقع الذي كلنا نفعله ، والثاني : أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم . |
فصل في هديه في عيادة المرضى
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في عيادة المرضى كان صلى الله عليه وسلم يعود من مرض من أصحابه ، وعاد غلاماً كان يخدمه من أهل الكتاب ، وعاد عمه وهو مشرك ، وعرض عليهما الإسلام ، فأسلم اليهودي ، ولم يسلم عمه . وكان يدنو من المريض ، ويجلس عند رأسه ، ويسأله عن حاله ، فيقول : كيف تجدك ؟ وذكر أنه كان يسأل المريض عما يشتهيه ، فيقول : هل تشتهي شيئا ؟ فإن اشتهى شيئاً وعلم أنه لا يضره ، أمر له به . وكان يمسح بيده اليمنى على المريض ، ويقول : " اللهم رب الناس ، أذهب البأس ، واشفه أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقماً " . وكان يقول : " امسح البأس رب الناس ، بيدك الشفاء ، لا كاشف له إلا أنت " . وكان يدعو للمريض ثلاثاً كما قاله لسعد :" اللهم اشف سعداً ، اللهم اشف سعداً ، اللهم اشف سعداً ". وكان إذا دخل على المريض يقول له : " لابأس طهور إن شاء الله ". وربما كان يقول : " كفارة وطهور " . وكان يرقي من به قرحة ، أو جرح ، أو شكوى ، فيضع سبابته بالأرض ، ثم يرفعها ويقول :" بسم الله ، تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا ، بإذن ربنا ". هذا في الصحيحين ، وهو يبطل اللفظة التي جاءت في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب وأنهم لا يرقون ولا يسترقون . فقوله في الحديث :" لا يرقون" غلط من الراوي ، سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول ذلك . قال : وإنما الحديث "هم الذين لا يسترقون " . قلت : وذلك لأن هؤلاء دخلوا الجنة بغير حساب ، لكمال توحيدهم ، ولهذا نفى عنهم الاسترقاء ، وهو سؤال الناس أن يرقوهم . ولهذا قال : " وعلى ربهم يتوكلون " ، فلكمال توكلهم على ربهم ، وسكونهم إليه ، وثقتهم به ، ورضاهم عنه ، وإنزال حوائجهم به ، لا يسألون الناس شيئاً ، لا رقية ولا غيرها، ولا يحصل لهم طيرة تصدهم عما يقصدونه ، فإن الطيرة تنقص التوحيد وتضعفه . قال : والراقي متصدق محسن ، والمسترقي سائل ، والنبي صلى الله عليه وسلم رقى ، ولم يسترق ، وقال : "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه" . فإن قيل : فما تصنعون بالحديث الذي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أوى إلى فراشه ، جمع كفيه ثم نفث فيهما ، فقرأ " قل هو الله أحد " ، و " قل أعوذ برب الفلق " ، و " قل أعوذ برب الناس " ، ويمسح بهما ما استطاع من جسده ، ويبدأ بهما على رأسه ووجه ما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات قالت عائشة : فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يأمرني أن أفعل ذلك به . فالجواب : أن هذا الحديث قد روي بثلاثة ألفاظ . أحدها : هذا . والثاني : أنه كان ينفث على نفسه ، والثالث : قالت : كنت أنفث عليه بهن ، وأمسح بيد نفسه لبركتها ، وفي لفظ رابع : كان إذا اشتكى ، يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث ، وهذه الألفاظ يفسر بعضها بعضاً . وكان صلى الله عليه وسلم ينفث على نفسه ، وضعفه ووجعه يمنعه من إمرار يده على جسده كله . فكان يأمر عائشة أن تمر يده على جسده بعد نفثه هو ، وليس ذلك من الاسترقاء في شئ ، وهي لم تقل : كان يأمرني أن أرقيه ، وإنما ذكرت المسح بيده بعد النفث على جسده ، ثم قالت : كان يأمرني أن أفعل ذلك به، أي : أن أمسح جسده بيده ، كما كان هو يفعل . ولم يكن من هديه عليه الصلاة والسلام أن يخص يوماً من الأيام بعيادة المريض ، ولا وقتاً من الأوقات ، بل شرع لأمته عيادة المرضى ليلاً ونهاراً ، وفي سائر الأوقات . وفي المسند عنه : " إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خرفة الجنة حتى يجلس ، فإذا جلس ، غمرته الرحمة ، فإن كان غدوة ، صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي ، وإن كان مساء ، صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح ". وفي لفظ " ما من مسلم يعود مسلماً إلا بعث الله له سبعين ألف ملك يصلون عليه أي ساعة من النهار كانت حتى يمسي ، وأي ساعة من الليل كانت حتى يصبح " . وكان يعود من الرمد وغيره ، وكان أحياناً يضع يده على جبهة المريض ، ثم يمسح صدره وبطنه ويقول : "اللهم اشفه" وكان يمسح وجهه أيضاً . وكان إذا يئس من المريض قال : " إنا لله وإنا إليه راجعون ". |
فصل في هديه في الجنائز والصلاة عليها
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز والصلاة عليها ، واتباعها ، ودفنها ، وما كان يدعو به للميت في صلاة الجنازة وبعد الدفن وتوابع ذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكمل الهدي ، مخالفاً لهدي سائر الأمم ، مشتملاً على الإحسان إلى الميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده ، وعلى الإحسان إلى أهله وأقاربه ، وعلى إقامة عبودية الحي لله وحده فيما يعامل به الميت . وكان من هديه في الجنائز إقامة العبودية للرب تبارك وتعالى على أكمل الأحوال ، والإحسان إلى الميت ، وتجهيزه إلى الله على أحسن أحواله وأفضلها ، ووقوفه ووقوف أصحابه صفوفاً يحمدون الله ويستغفرون له ، ويسألون له المغفرة والرحمة والتجاوز عنه ، ثم المشي بين يديه إلى أن يودعوه حفرته ، ثم يقوم هو وأصحابه بين يديه على قبره سائلين له التثبيت أحوج ما كان إليه ، ثم يتعاهده بالزيارة له في قبره ، والسلام عليه ، والدعاء له كما يتعاهد الحي صاحبه في دار الدنيا . فأول ذلك : تعاهده في مرضه ، وتذكيره الآخرة ، وأمره بالوصية ، والتوبة ، وأمر من حضره بتلقينه شهادة أن لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه ، ثم النهي عن عادة الأمم التي لا تؤمن بالبعث والنشور ، من لطم الخدود ، وشق الثياب ، وحلق الرؤوس ، ورفع الصوت بالندب ، والنياحة وتوابع ذلك . وسن الخشوع للميت ، والبكاء الذي لا صوت معه ، وحزن القلب ، وكان يفعل ذلك ويقول : " تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب " . وسن لأمته الحمد والاسترجاع ، والرضى عن الله ، ولم يكن ذلك منافياً لدمع العين وحزن القلب ، ولذلك كان أرضى الخلق عن الله في قضائه ، وأعظمهم له حمداً ، وبكى مع ذلك يوم موت ابنه إبراهيم رأفة منه ، ورحمة للولد ، ورقة عليه ، والقلب ممتلئ بالرضى عن الله عز وجل وشكره ، واللسان مشتغل بذكره وحمده . ولما ضاق هذا المشهد والجمع بين الأمرين على بعض العارفين يوم مات ولده ، جعل يضحك ، فقيل له : أتضحك في هذه الحالة ؟ قال : إن الله تعالى قضى بقضاء ، فأحببت أن أرضى بقضائه ، فأشكل هذا على جماعة من أهل العلم ، فقالوا : كيف يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم وهو أرضى الخلق عن الله ، ويبلغ الرضى بهذا العارف إلى أن يضحك ، فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هدي نبينا صلى الله عليه وسلم كان أكمل من هدي هذا العارف ، فإنه أعطى العبودية حقها ، فاتسع قلبه للرضى عن الله ، ولرحمة الولد ، والرقة عليه ، فحمد الله ، ورضي عنه في قضائه ، وبكى رحمة ورأفة ، فحملته الرأفة على البكاء ، وعبوديته لله ، ومحبته له على الرضى والحمد ، وهذا العارف ضاق قلبه عن اجتماع الأمرين ، ولم يتسع باطنه لشهودهما والقيام بهما ، فشغلته عبودية الرضى عن عبودية الرحمة والرأفة . |
فصل في هديه الإسراع بتجهيز الميت
فصل وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الإسراع بتجهيز الميت إلى الله ، وتطهيره ، وتنظيفه ، وتطييبه ، وتكفينه في الثياب البيض ، ثم يؤتى به إليه ، فيصلي عليه بعد أن كان يدعى إلى الميت عند احتضاره ، فيقيم عنده حتى يقضي ، ثم يحضر تجهيزه ، ثم يصلي عليه ، ويشيعه إلى قبره ، ثم رأى الصحابة أن ذلك يشق عليه ، فكانوا إذا قضى الميت ، دعوه ، فحضر تجهيزه ، وغسله ، وتكفينه . ثم رأوا أن ذلك يشق عليه ، فكانوا هم يجهزون ميتهم ، ويحملونه إليه صلى الله عليه وسلم على سريره ، فيصلي عليه خارج المسجد . ولم يكن من هديه الراتب الصلاة عليه في المسجد ، وإنما كان يصلي على الجنازة خارج المسجد ، وربما كان يصلي أحياناً على الميت في المسجد ، كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه في المسجد . ولكن لم يكن ذلك سنته وعادته ، وقد روى أبو داود في سننه من حديث صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى على جنازة في المسجد فلا شئ له ". وقد اختلف في لفظ الحديث ، فقال الخطيب في روايته لكتاب السنن : في الأصل " فلا شئ عليه " وغيره يرويه "فلا شئ له " وقد رواه ابن ماجه في سننه ولفظه : "فليس له شئ ". ولكن قد ضعف الإمام أحمد وغيره هذا الحديث ، قال الإمام أحمد : هو مما تفرد به صالح مولى التوأمة ، وقال البيهقي : هذا حديث يعد في أفراد صالح ، وحديث عائشة أصح منه ، وصالح مختلف فى عدالته ، كان مالك يجرحه ، ثم ذكر عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، أنه صلى عليهما في المسجد . قلت : وصالح ثقة في نفسه ، كما قال عباس الدوري عن ابن معين : هو ثقة في نفسه . وقال ابن أبي مريم ويحيى : ثقة حجة ، فقلت له : إن مالكاً تركه ، فقال : إن مالكاً أدركه بعد أن خرف ، والثوري إنما أدركه بعد أن خرف ، فسمع منه ، لكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف . وقال علي بن المديني : هو ثقة إلا أنه خرف وكبر فسمع منه الثوري بعد الخرف وسماع ابن أبي ذئب منه قبل ذلك . وقال ابن حبان : تغير في سنة خمس وعشرين ومائة ، وجعل يأتي بما يشبه الموضوعات عن الثقات ، فاختلط حديثه الأخير بحديثه القديم ولم يتميز ، فاستحق الترك انتهى كلامه . وهذا الحديث : حسن ، فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه ، وسماعه منه قديم قبل اختلاطه ، فلا يكون اختلاطه موجباً لرد ما حدث به قبل الاختلاط . وقد سلك الطحاوي في حديث أبي هريرة هذا ، وحديث عائشة مسلكاً آخر ، فقال : صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد منسوخة ، وترك ذلك آخر الفعلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل إنكار عامة الصحابة ذلك على عائشة ، وما كانوا ليفعلوه إلا لما علموا خلاف ما نقلت . ورد ذلك على الطحاوي جماعة ، منهم : البيهقي وغيره . قال البيهقي : ولو كان عند أبي هريرة نسخ ما روته عائشة ، لذكره يوم صلي على أبي بكر الصديق في المسجد ، ويوم صلي على عمر بن الخطاب فى المسجد ، ولذكره من أنكر على عائشة أمرها بإدخاله المسجد ، ولذكره أبو هريرة حين روت فيه الخبر ، وإنما أنكره من لم يكن له معرفة بالجواز ، فلما روت فيه الخبر ، سكتوا ولم ينكروه ، ولا عارضوه بغيره . قال الخطابي : وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صلي عليهما في المسجد ، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما ، وفي تركهم الإنكار الدليل على جوازه ، قال : ويحتمل أن يكون معنى حديث أبي هريرة إن ثبت ، متأولاً على نقصان الأجر ، وذلك أن من صلى عليها في المسجد ، فالغالب أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه ، وأن من سعى إلى الجنازة ، فصلى عليها بحضرة المقابر ، شهد دفنه ، وأحرز أجر القيراطين ، وقد يؤجر أيضاً على كثرة خطاه ، وصار الذي يصلي عليه في المسجد منقوص الأجر بالإضافة إلى من يصلي عليه خارج المسجد . وتأولت طائفة معنى قوله : " فلا شئ له " ، أي فلا شئ عليه ، ليتحد معنى اللفظين ، ولا يتناقضان كما قال تعالى : " وإن أسأتم فلها " ( الإسراء : 7) ، أي : فعليها ، فهذه طرق الناس في هذين الحديثين . والصواب ما ذكرناه أولاً ، وأن سنته وهديه الصلاة على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر ، وكلا الأمرين جائز ، والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد . والله أعلم . |
فصل في هديه تسجية الميت إذا مات
فصل وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تسجية الميت إذا مات ، وتغميض عينيه ، وتغطية وجهه وبدنه ، وكان ربما يقبل الميت كما قبل عثمان بن مظعون وبكى . وكذلك الصديق أكب عليه ، فقبله بعد موته صلى الله عليه وسلم . وكان يأمر بغسل الميت ثلاثاً أو خمساً ، أو أكثر بحسب ما يراه الغاسل ، ويأمر بالكافور في الغسلة الأخيرة ، وكان لا يغسل الشهداء قتلى المعركة ، وذكر الإمام أحمد ، أنه نهى عن تغسيلهم ، وكان ينزع عنهم الجلود والحديد ويدفنهم في ثيابهم ، ولم يصل عليهم . وكان إذا مات المحرم ، أمر أن يغسل بماء وسدر ، ويكفن في ثوبيه وهما ثوبا إحرامه : إزاره ورداؤه ، وينهى عن تطييبه وتغطية رأسه وكان يأمر من ولي الميت أن يحسن كفنه ، ويكفنه في البياض ، وينهى عن المغالاة في الكفن ، وكان إذا قصر الكفن عن ستر جميع البدن ، غطى رأسه ، وجعل على رجليه من العشب . |
فصل في هديه إذا قدم إليه ميت يصلى عليه سأل
فصل وكان إذا قدم إليه ميت يصلي عليه ، سأل : هل عليه دين ، أم لا ؟ فإن لم يكن عليه دين ، صلى عليه ، وإن كان عليه دين ، لم يصل عليه ، وأذن لأصحابه أن يصلوا عليه ، فإن صلاته شفاعة ، وشفاعته موجبة ، والعبد مرتهن بدينه ، ولا يدخل الجنة حتى يقضى عنه ، فلما فتح الله عليه ، كان يصلي على المدين ، ويتحمل دينه ، ويدع ماله لورثته . فإذا أخذ في الصلاة عليه ، كبر وحمد الله وأثنى عليه ، وصلى ابن عباس على جنازة ، فقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب جهراً ، وقال : " لتعلموا أنها سنة " وكذلك قال أبو أمامة بن سهل : إن قراءة الفاتحة في الأولى سنة . ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه أمر أن يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب . ولا يصح إسناده . قال شيخنا : لا تجب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ، بل هي سنة ، وذكر أبو أمامة بن سهل ، عن جماعة من الصحابة ، الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة . وروى يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، أنه سأل عبادة بن الصامت عن الصلاة على الجنازة فقال : أنا والله أخبرك : تبدأ فتكبر ، ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقول : اللهم إن عبدك فلاناً كان لا يشرك بك وأنت أعلم به ، إن كان محسناً ، فزد في إحسانه ، وإن كان مسيئاً ، فتجاوز عنه ، اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تضلنا بعده . |
فصل في مقصود الصلاة على الجنازة
فصل ومقصود الصلاة على الجنازة : هو الدعاء للميت ، لذلك حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ونقل عنه ما لم ينقل من قراءة الفاتحة والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم . فحفظ من دعائه : " اللهم اغفر له ، وارحمه ، وعافه ، واعف عنه ، وأكرم نزله ، ووسع مدخله ، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله ، وزوجاً خيراً من زوجه ، وأدخله الجنة ، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار " . وحفظ من دعائه : " اللهم اغفر لحينا ، وميتنا ، وصغيرنا ، وكبيرنا ، وذكرنا ، وأنثانا ، وشاهدنا وغائبنا ، اللهم من أحييته منا ، فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا ، فتوفة على الإيمان ، اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده " . وحفظ من دعائه : " اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك ، فقه من فتنة القبر ، ومن عذاب النار ، فأنت أهل الوفاء والحق ، فاغفر له وارحمه ، إنك أنت الغفور الرحيم " . وحفظ من دعائه أيضاً : " اللهم أنت ربها ، وأنت خلقتها ، وأنت رزقتها ، وأنت هديتها للإسلام ، وأنت قبضت روحها ، وتعلم سرها وعلانيتها ، جئنا شفعاء فاغفر لها " . وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بإخلاص الدعاء للميت ، وكان يكبر أربع تكبيرات ، وصح عنه أنه كبر خمساً ، وكان الصحابة بعده يكبرون أربعاً ، وخمساً ، وستاً ، فكبر زيد بن أرقم خمساً ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كبرها ، ذكره مسلم . وكبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على سهل بن حنيف ستاً ، وكان يكبر على أهل بدر ستاً ، وعلى غيرهم من الصحابة خمساً ، وعلى سائر الناس أربعاً . ذكره الدارقطني . وذكر سعيد بن منصور ، عن الحكم بن عتيبة أنه قال : كانوا يكبرون على أهل بدر خمساً ، وستاً ، وسبعاً . وهذه آثار صحيحة ، فلا موجب للمنع منها ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع مما زاد على الأربع ، بل فعله هو وأصحابه من بعده . والذين منعوا من الزيادة على الأربع ، منهم من احتج بحديث ابن عباس ، أن آخر جنازة صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، كبر أربعاً . قالوا : وهذا آخر الأمرين ، وإنما يؤخذ بالآخر ، فالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم هذا . وهذا الحديث ، قد قال الخلال في العلل : أخبرني حرب : قال : سئل الإمام أحمد عن حديث أبي المليح ، عن ميمون ، عن ابن عباس ، فذكر الحديث . فقال أحمد : هذا كذب ليس له أصل ، إنما رواه محمد بن زياد الطحان وكان يضع الحديث . واحتجوا بأن ميمون بن مهران ، روى عن ابن عباس ، أن الملائكة لما صلت على آدم عليه الصلاة والسلام ، كبرت عليه أربعاً ، وقالوا : تلك سنتكم يا بني آدم . وهذا الحديث قد قال في الأثرم : جرى ذكر محمد بن معاوية النيسابوري الذي كان بمكة ، فسمعت أبا عبد الله قال : رأيت أحاديثه موضوعة ، فذكر منها عن أبي المليح ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس ، أن الملائكة لما صلت على آدم ، كبرت عليه أربعاً ، واستعظمه أبو عبد الله وقال : أبو المليح كان أصح حديثاً وأتقى لله من أن يروي مثل هذا . واحتجوا بما رواه البيهقي من حديث يحيى ، عن أبي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أن الملائكة لما صلت على آدم ، فكبرت عليه أربعاً ، وقالت : هذه سنتكم يا بني آدم ، وهذا لا يصح . وقد روي مرفوعاً وموقوفاً . وكان أصحاب معاذ يكبرون خمساً ، قال علقمة : قلت لعبد الله : إن ناساً من أصحاب معاذ قدموا من الشام ، فكبروا على ميت لهم خمساً ، فقال عبد الله : ليس على الميت في التكبير وقت ، كبر ما كبر الإمام ، فإذا انصرف الإمام فانصرف . |
فصل في هديه في التسليم من صلاة الجنازة
فصل وأما هديه صلى الله عليه وسلم في التسليم من صلاة الجنازة . فروي عنه : إنه كان يسلم واحدة . وروي عنه : أنه كان يسلم تسليمتين . فروى البيهقي وغيره ، من حديث المقبري ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ، فكبر أربعاً ، وسلم تسليمة واحدة . لكن قال الإمام أحمد فى رواية الأثرم : هذا الحديث عندي موضوع ، ذكره الخلال في العلل . وقال إبرهيم الهجري : حدثنا عبد الله بن أبي أوفى : إنه صلى على جنازة ابنته ، فكبر أربعاً ، فمكث ساعة حتى ظننا أنه يكبر خمساً ، ثم سلم عن يمينه وعن شماله ، فلما انصرف ، قلنا له : ما هذا ؟ فقال : إني لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ، أو هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن مسعود : ثلاث خلال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يفعلهن تركهن الناس ، إحداهن : التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة ، ذكرهما البيهقي . ولكن إبراهيم بن مسلم العبدي الهجري ، ضعفه يحيى بن معين ، والنسائي ، وابن حاتم ، وحديثه هذا، قد رواه الشافعي في كتاب حرملة عن سفيان عنه وقال : كبر عليهما أربعاً ، ثم قام ساعة ، فسبح به القوم فسلم ، ثم قال : كنتم ترون أن أزيد على أربع ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر أربعاً ، ولم يقل : ثم سلم عن يمينه وشماله . ورواه ابن ماجه من حديث المحاربي عنه كذلك ، ولم يقل : ثم سلم عن يمينه وشماله . وذكر السلام عن يمينه وعن شماله انفرد بها شريك عنه . قال البيهقي : ثم عزاه للنبي صلى الله عليه وسلم في التكبير فقط ، أو في التكبير وغيره . قلت : والمعروف عن ابن أبي أوفى خلاف ذلك ، أنه كان يسلم واحدة ، ذكره الإمام أحمد عنه . قال أحمد بن القاسم ، قيل لأبي عبد الله ، أتعرف عن أحد من الصحابة أنه كان يسلم على الجنازة تسليمتين ؟ قال : لا ، ولكن عن ستة من الصحابة أنهم كانوا يسلمون تسليمة واحدة خفيفة عن يمينه ، فذكر ابن عمر ، وابن عباس ، وأبا هريرة ، وواثلة بن الأسقع ، وابن أبي أوفى ، وزيد بن ثابت . وزاد البيهقي : علي بن أبي طالب ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وأبا أمامة بن سهل بن حنيف ، فهؤلاء عشرة من الصحابة ، وأبو أمامة أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، وسماه باسم جده لأمه أبي أمامة : أسعد بن زرارة ، وهو معدود في الصحابة ومن كبار التابعين . وأما رفع اليدين ، فقال الشافعي : ترفع للأثر ، والقياس على السنة فى الصلاة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في كل تكبيرة كبرها في الصلاة وهو قائم . قلت : يريد بالأثر ما رواه عن ابن عمر ، وأنس بن مالك ، أنهما كانا يرفعان أيديهما كلما كبرا على الجنازة ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يرفع يديه في أول التكبير ، ويضع اليمنى على اليسرى ، ذكره البيهقي في السنن . وفي الترمذي من حديث أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وضع يده اليمنى على يده اليسرى في صلاة الجنازة ، وهو ضعيف بيزيد بن سنان الرهاوي . |
فصل في هديه في الصلاة على القبر
فصل وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة على الجنازة ، صلى على القبر ، فصلى مرة على قبر بعد ليلة ، ومرة بعد ثلاث ، ومرة بعد شهر ، ولم يوقت في ذلك وقتاً . قال أحمد رحمه الله : من يشك في الصلاة على القبر ؟! ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان إذا فاتته الجنازة ، صلى على القبر من ستة أوجه كلها حسان ، فحد الإمام أحمد الصلاة على القبر بشهر ، إذ هو أكثر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعده ، وحده الشافعي رحمه الله ، بما إذا لم يبل الميت ، ومنع منها مالك وأبو حنيفة رحمهما الله إلا للولي إذا كان غائباً . وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يقوم عند رأس الرجل ووسط المرأة . |
فصل في هديه في الصلاة على الطفل
فصل وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الصلاة على الطفل ، فصح عنه أنه قال : " الطفل يصلى عليه " . وفي سنن ابن ماجه مرفوعاً ، " صلوا على أطفالكم ، فإنهم من أفراطكم " . قال أحمد بن أبي عبدة : سألت أحمد : متى يجب أن يصلى على السقط ؟ قال : إذا أتى عليه أربعة أشهر ، لأنه ينفخ فيه الروح . قلت : فحديث المغيرة بن شعبة " الطفل يصلى عليه" ؟ قال : صحيح مرفوع ، قلت : ليس في هذا بيان الأربعة الأشهر ولا غيرها ؟ قال: قد قاله سعيد بن المسيب . فإن قيل : فهل صلى النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم يوم مات ؟ قيل : قد اختلف في ذلك ، فروى أبو داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت : مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهراً ، فلم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثني أبي عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عمرة ، عن عائشة .... فذكره . وقال أحمد في رواية حنبل : هذا حديث منكر جداً ، ووهى ابن إسحاق . وقال الخلال : وقرئ على عبد الله : حدثني أبي ، حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا جابر الجعفي ، عن عامر، عن البراء بن عازب ، قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم ومات وهو ابن ستة عشر شهراً . وذكر أبو داود عن البهي ، قال : لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقاعد . وهو مرسل ، والبهي اسمه عبد الله بن يسار كوفي . وذكر عن عطاء بن أبي رباح ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ابنه إبراهيم وهو ابن سبعين ليلة . وهذا مرسل وهم فيه عطاء ، فإنه قد كان تجاوز السنة . فاختلف الناس في هذه الآثار ، فمنهم من أثبت الصلاة عليه ، ومنع صحة حديث عائشة ، كما قال الإمام أحمد وغيره : قالوا : وهذه المراسيل ، مع حديث البراء ، يشد بعضها بعضاً ، ومنهم من ضعف حديث البراء بجابر الجعفي ، وضعف هذه المراسيل وقال : حديث ابن إسحاق أصح منها . ثم اختلف هؤلاء في السبب الذي لأجله لم يصل عليه ، فقالت طائفة : استغنى ببنوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قربة الصلاة التي هي شفاعة له ، كما استغنى الشهيد بشهادته عن الصلاة عليه . وقالت طائفة أخرى : إنه مات يوم كسفت الشمس ، فاشتغل بصلاة الكسوف عن الصلاة عليه . وقالت طائفة : لا تعارض بين هذه الآثار ، فإنه أمر بالصلاة عليه ، فقيل : صلي عليه ، ولم يباشرها بنفسه لاشتغاله بصلاة الكسوف ، وقيل : لم يصل عليه ، وقالت فرقة : رواية المثبت أولى ، لأن معه زيادة علم ، وإذا تعارض النفي والإثبات ، قدم الإثبات . |
فصل في تركه الصلاة على قاتل نفسه وعلى الغال وذكر الصلاة على المرجوم
فصل وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، أنه لا يصلي على من قتل نفسه ، ولا على من غل من الغنيمة . واختلف عنه في الصلاة على المقتول حداً ، كالزاني المرجوم ، فصح عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى على الجهنية التي رجمها ، فقال عمر : تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت ؟ فقال : " لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى " . ذكره مسلم . وذكر البخاري في صحيحه ، قصة ماعز بن مالك وقال : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيراً وصلى عليه وقد اختلف على الزهري في ذكر الصلاة عليه ، فأثبتها محمود بن غيلان ، عن عبد الرزاق عنه ، وخالفه ثمانية من أصحاب عبد الرزاق ، فلم يذكروها ، وهم : إسحاق بن راهويه ، ومحمد بن يحيى الذهلي ، ونوح بن حبيب ، والحسن بن علي ، ومحمد بن المتوكل ، وحميد بن زنجويه ، و أحمد بن منصور الرمادي . قال البيهقى : وقول محمود بن غيلان : إنه صلى عليه ، خطأ لإجماع أصحاب عبد الرزاق على خلافه ، ثم إجماع أصحاب الزهري على خلافه . وقد اختلف في قصة ماعز بن مالك ، فقال أبو سعيد الخدري : ما استغفر له ولا سبه ، وقال بريدة بن الحصيب : إنه قال : " استغفزوا لماعز بن مالك " . فقالوا : غفر الله لماعز بن مالك . ذكرهما مسلم . وقال جابر : فصلى عليه ، ذكره البخاري ، وهو حديث عبد الرزاق المعلل ، وقال أبو برزة الأسلمي : لم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم ينه عن الصلاة عليه ، ذكره أبو داود . قلت : حديث الغامدية ، لم يختلف فيه أنه صلى عليها . و حديث ماعز ، إما أن يقال : لا تعارض بين ألفاظه ، فإن الصلاة فيه : هي دعاؤه له بأن يغفر الله له ، وترك الصلاة فيه هي تركه الصلاة على جنازته تأديباً وتحذيراً ، وإما أن يقال : إذا تعارضت ألفاظه ، عدل عنه إلى حديث الغامدية . |
فصل في هديه في المشي أمام الجنازة
فصل وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى على ميت ، تبعه إلى المقابر ماشياً أمامه . وهذه كانت سنة خلفائه الراشدين من بعده ، وسن لمن تبعها إن كان راكباً أن يكون وراءها ، وإن كان ماشياً أن يكون قريباً منها ، إما خلفها ، أو أمامها ، أو عن يمينها ، أو عن شمالها . وكان يأمر بالإسراع بها ، حتى إن كانوا ليرملون بها رملاً ، وأما دبيب الناس اليوم خطوة خطوة ، فبدعة مكروهة مخالفة للسنة ، ومتضمنة للتشبه بأهل الكتاب واليهود . وكان أبو بكرة يرفع السوط على من يفعل ذلك ، ويقول : لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نرمل رملاً . قال ابن مسعود رضي الله عنه : سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة ، فقال : " ما دون الخبب " . رواه أهل السنن وكان يمشي إذا تبع الجنازة ويقول : " لم أكن لأركب والملائكة يمشون " . فإذا انصرف عنها ، فربما مشى ، وربما ركب . وكان إذا تبعها ، لم يجلس حتى توضع ، وقال : " إذا تبعتم الجنازة ، فلا تجلسوا حتى توضع " . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : والمراد : وضعها بالأرض . قلت : قال أبو داود : روى هذا الحديث الثوري ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة . قال : وفيه " حتى توضع بالأرض " ورواه أبو معاوية ، عن سهيل وقال : " حتى توضع في اللحد ". قال : وسفيان أحفظ من أبي معاوية ، وقد روى أبو داود والترمذي ، عن عبادة بن الصامت ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد . لكن في إسناده بشر بن رافع ، قال الترمذي : ليس بالقوي في الحديث ، وقال البخاري : لا يتابع على حديثه ، وقال أحمد : ضعيف ، وقال ابن معين : حدث بمناكير ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وقال ابن حبان : يروى أشياء موضوعة كأنه المتعمد لها . |
فصل في هديه في الصلاة على الغائب وذكر الاختلاف فيه
فصل ولم يكن من هديه وسنته صلى الله عليه وسلم الصلاة على كل ميت غائب . فقد مات خلق كثير من المسلمين وهم غيب ، فلم يصل عليهم ، وصح عنه : أنه صلى على النجاشي صلاته على الميت ، فاختلف الناس في ذلك على ثلاثة طرق ، أحدها : أن هذا تشريع منه ، وسنة للأمة الصلاة على كل غائب ، وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه ، وقال أبو حنيفة ومالك : هذا خاص به ، وليس ذلك لغيره ، قال أصحابهما : ومن الجائز أن يكون رفع له سريره فصلى عليه وهو يرى صلاته على الحاضر المشاهد ، وإن كان على مسافة من البعد ، والصحابة وإن لم يروه ، فهم تابعون للنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة . قالوا : ويدل على هذا ، أنه لم ينقل عنه أنه كان يصلي على كل الغائبين غيره ، وتركه سنة، كما أن فعله سنة ، ولا سبيل لأحد بعده إلى أن يعاين سرير الميت من المسافة البعيدة ، ويرفع له حتى يصلي عليه ، فعلم أن ذلك مخصوص به . وقد روى عنه ، أنه صلى على معاوية بن معاوية الليثي وهو غائب ، ولكن لا يصح ، فإن في إسناده العلاء بن زيد ، ويقال : ابن زيدل ، قال علي بن المديني : كان يضع الحديث ، ورواه محبوب بن هلال ، عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس . قال البخاري : لا يتابع عليه . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : الصواب : أن الغائب إن مات ببلد لم يصل عليه فيه ، صلي عليه صلاة الغائب ، كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ، لأنه مات بين الكفار ولم يصل عليه ، وإن صلي عليه حيث مات ، لم يصل عليه صلاة الغائب ، لأن الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه ، والنبي صلى الله عليه وسلم ، صلى على الغائب ، وتركه ، وفعله ، وتركه سنة ، وهذا له موضع ، وهذا له موضع، والله أعلم ، والأقوال ثلاثة في مذهب أحمد ، وأصحها : هذا التفصيل ، والمشهور عند أصحابه : الصلاة عليه مطلقاً . |
فصل في هديه في القيام للجنازة
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قام للجنازة لما مرت به ، وأمر بالقيام لها ، وصح عنه أنه قعد ، فاختلف في ذلك ، فقيل : القيام منسوخ ، والقعود آخر الأمرين ، وقيل : بل الأمران جائزان ، وفعله بيان للاستحباب ، وتركه بيان للجواز ، وهذا أولى من ادعاء النسخ . |
فصل في هديه في الأوقات المكروهة لدفن الميت
فصل وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، ألا يدفن الميت عند طلوع الشمس ، ولاعند غروبها ، ولا حين يقوم قائم الظهيرة . وكان من هديه اللحد وتعميق القبر وتوسيعه من عند رأس الميت ورجليه ، ويذكر عنه ، أنه كان إذا وضع الميت في القبر قال : " بسم الله ، وبالله ، وعلى ملة رسول الله " . وفي رواية : "بسم الله ، وفي سبيل الله ، وعلى ملة رسول الله" . ويذكر عنه أيضاً أنه كان يحثوا التراب على قبر الميت إذا دفن من قبل رأسه ثلاثاً . وكان إذا فرغ من دفن الميت قام على قبره هو وأصحابه ، وسأل له التثبيت ، وأمرهم أن يسألوا له التثبيت . ولم يكن يجلس يقرأ عند القبر ، ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم ، وأما الحديث الذي رواه الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره ، فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل : يافلان ، فإنه يسمعه ولا يجيب ، ثم يقول : يا فلان بن فلانة ، فإنه يستوي قاعداً ، ثم يقول : يا فلان بن فلانة ، فإنه يقول : أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تشعرون ، ثم يقول : اذكر ما خرجت عليه من الدنيا : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأنك رضيت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً ، وبالقرآن إماماً ، فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول : انطلق بنا ما نقعد عند من لقن حجته ، فيكون الله حجيحه دونهما . فقال رجل : يا رسول الله ! فإن لم يعرف أمه ؟ قال : فينسبه إلى حواء: يا فلان بن حواء " . فهذا حديث لا يصح رفعه ، ولكن قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : فهذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول : يا فلان بن فلانة ، اذكر ما فارقت عليه الدنيا : شهادة أن لا إله إلا الله . فقال : ما رأيت أحداً فعل هذا إلا أهل الشام ، حين مات أبو المغيرة ، جاء إنسان فقال ذلك ، وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن أشياخهم ، أنهم كانوا يفعلونه ، وكان ابن عياش يروي فيه . قلت : يريد حديث إسماعيل بن عياش هذا الذي رواه الطبراني عن أبي أمامة . وقد ذكر سعيد بن منصور في سننه عن راشد بن سعد ، وضمرة بن حبيب ، وحكيم بن عمير ، قالوا : إذا سوي على الميت قبره ، وانصرف الناس عنه ، فكانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره : يا فلان ! قل : لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ثلاث مرات ، يا فلان ! قل : ربي الله وديني الإسلام ، نبيي محمد ، ثم ينصرف . |
فصل في هديه في عدم تعلية القبور وتشييدها
فصل ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم ، تعلية القبور ولا بناؤها بآجر ، ولا بحجر ولبن ، ولا تشيدها ، ولا تطيينها ، ولا بناء القباب عليها ، فكل هذا بدعة مكروهة ، مخالفة لهديه صلى الله عليه وسلم . وقد بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن ، ألا يدع تمثالاً إلا طمسه ، ولا قبراً مشرفاً إلا سواه ، فسنته صلى الله عليه وسلم تسوية هذه القبور المشرفة كلها ، ونهى أن يجصص القبر ، وأن يبنى عليه ، وأن يكتب عليه . وكانت قبور أصحابه لا مشرفة ، ولا لاطئة ، وهكذا كان قبره الكريم ، وقبر صاحبيه ، فقبره صلى الله عليه وسلم مسنم مبطوح ببطحاء العرصة الحمراء لا مبني ولا مطين ، وهكذا كان قبر صاحبيه . وكان يعلم قبر من يريد تعرف قبره بصخرة . |
فصل في النهي عن اتخاذ القبور مساجد
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد ، وإيقاد السرج عليها ، واشتد نهيه في ذلك حتى لعن فاعله ، ونهى عن الصلاة إلى القبور ، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيداً ، ولعن زورات القبور . وكان هديه أن لا تهان القبور وتوطأ ، وألا يجلس عليها ، ويتكأ عليها ، ولا تعظم بحيث تتخذ مساجد فيصلى عندها وإليها ، وتتخذ أعياداً وأوثاناً . |
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور
كان إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم ، والترحم عليهم ، والاستغفار لهم ، وهذه هي الزيارة التي سنها لأمته ، وشرعها لهم ، وأمرهم أن يقولوا إذا زاروها : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية " . وكان هديه أن يقول ويفعل عند زيارتها ، من جنس ما يقوله عند الصلاة على الميت ، من الدعاء والترحم ، والاستغفار . فأبى المشركون إلا دعاء الميت والإشراك به ، والإقسام على الله به ، وسؤاله الحوائج ، والاستعانة به ، والتوجه إليه ، بعكس هديه صلى الله عليه وسلم ، فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت ، وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم ، وإلى الميت ، وهم ثلاثة أقسام : إما أن يدعوا الميت ، أو يدعوا به ، أو عنده ، ويرون الدعاء عنده أوجب وأولى من الدعاء في المساجد ، ومن تأمل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، تبين له الفرق بين الأمرين وبالله التوفيق . |
فصل في التعزية وعدم الاجتماع لها
فصل وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، تعزية أهل الميت ، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء ، ويقرأ له القرآن ، لا عند قبره ولا غيره ، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة . وكان من هديه : السكون والرضى بقضاء الله ، والحمد لله ، و الاسترجاع ، ويبرأ ممن خرق لأجل المصيبة ثيابه ، أو رفع صوته بالندب والنياحة ، أو حلق لها شعره . وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن أهل الميت لا يتكلفون الطعام للناس ، بل أمر أن يصنع الناس لهم طعاماً يرسلونه إليهم وهذا من أعظم مكارم الأخلاق والشيم ، والحمل عن أهل الميت ، فإنهم في شغل بمصابهم عن إطعام الناس . وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، ترك نعي الميت ، بل كان ينهى عنه ، و يقول : هو من عمل الجاهلية ، وقد كره حذيفة أن يعلم به أهله الناس إذا مات وقال : أخاف أن يكون من النعي . |
فصل في صلاة الخوف
فصل وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، في صلاة الخوف ، ان أباح الله سبحانه وتعالى قصر أركان الصلاة وعددها إذا اجتمع الخوف والسفر ، وقصر العدد وحده إذا كان سفر لا خوف معه ، وقصر الأركان وحدها إذا كان خوف لا سفر معه وهذا كان من هديه صلى الله عليه وسلم ، وبه تعلم الحكمة في تقييد القصر في الآية بالضرب في الأرض والخوف . وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف ، إذا كان العدو بينه وبين القبلة ، أن يصف المسلمين كلهم خلفه ، ويكبر ويكبرون جميعاً، ثم يركع فيركعون جميعاً ، ثم يرفع ويرفعون جميعاً معه ، ثم ينحدر بالسجود والصف الذي يليه خاصة ، ويقوم الصف المؤخر مواجه العدو ، فإذا فرغ من الركعة الأولى ، ونهض إلى الثانية ، سجد الصف المؤخر بعد قيامه سجدتين ، ثم قاموا ، فتقدموا إلى مكان الصف الأول ، وتأخر الصف الأول مكانهم لتحصل فضيلة الصف الأول للطائفتين ، وليدرك الصف الثاني مع النبي صلى الله عليه وسلم السجدتين في الركعة الثانية ، كما أدرك الأول معه السجدتين في الأولى ، فتستوي الطائفتان فيما أدركوا معه ، وفيما قضوا لأنفسهم ، وذلك غاية العدل ، فإذا ركع ، صنع الطائفتان كما صنعوا أول مرة فإذا جلس للتشهد ، سجد الصف المؤخر سجدتين ، ولحقوه في التشهد ، فيسلم بهم جميعاً . وإن كان العدو في غير جهة القبلة ، فإنه كان تارة يجعلهم فرقتين : فرقة بإزاء العدو ، وفرقة تصلي معه ، فتصلي معه إحدى الفرقتين ركعة ، ثم تنصرف في صلاتها إلى مكان الفرقة الأخرى ، وتجي الأخرى إلى مكان هذه ، فتصلي معه الركعة الثانية ، ثم تسلم ، وتقضي كل طائفة ركعة ركعة بعد سلام الإمام . وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعة ، ثم يقوم إلى الثانية ، وتقضي هي ركعة وهو واقف ، وتسلم قبل ركوعه ، وتأتي الطائفة الأخرى ، فتصلي معه الركعة الثانية ، فإذا جلس في التشهد ، قامت ، فقضت ركعة وهو ينتظرها في التشهد ، فإذا تشهدت ، يسلم بهم . وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعتين ، فتسلم قبله ، وتأتي الطائفة الأخرى ، فيصلي بهم الركعتين الأخيرتين ، ويسلم بهم ، فتكون له أربعاً ، ولهم ركعتين ركعتين . وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعتين ، ويسلم بهم ، وتأتي الأخرى ، فيصلي بهم ركعتين ، ويسلم فيكون قد صلى بهم بكل طائفة صلاة . وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعة ، فتذهب ولا تقضي شيئاً ، وتجيئ الأخرى ، فيصلي بهم ركعة ، ولا تقضي شيئاً ، فيكون له ركعتان ، ولهم ركعة ركعة ، وهذه الأوجه كلها تجوز الصلاة بها . قال الإمام أحمد : كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف ، فالعمل به جائز . وقال : ستة أوجه أو سبعة ، تروى فيها ، كلها جائزة ، وقال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : تقول بالأحاديث كلها ، كل حديث في موضعه ، أو تختاز واحداً منها ؟ قال : أنا أقول : من ذهب إليها كلها ، فحسن . وظاهر هذا ، أنه جوز أن تصلي كل طائفة معه ركعة ركعة ، ولا تقضي شيئاً ، وهذا مذهب ابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وطاووس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والحكم ، وإسحاق بن راهويه . قال صاحب المغني : وعموم كلام أحمد يقتضي جواز ذلك ، وأصحابنا ينكرونه . وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف صفات أخر ، ترجع كلها إلى هذه وهذه أصولها ، وربما اختلف بعض ألفاظها ، وقد ذكرها بعضهم عشر صفات ، وذكرها أبو محمد بن حزم نحو خمس عشرة صفة ، والصحيح : ما ذكرناه أولاً ، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة ، جعلوا ذلك وجوهاً من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو من اختلاف الرواة . والله أعلم . بعونه تعالى وتوفيقه تم الجزء الأول من زاد المعاد في هدي خير العباد ويليه الجزء الثاني وأوله فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصدقة والزكاة |
وااااااااااااااااااااااااااو
معلومااااااااااااااااااااااات ماااااااااااااااااااااااااااااا تتفوتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتت |
الساعة الآن 11:52 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
][ ملاحظة: جميع المشاركات تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تمثل راي ادارة المنتدى بالضرورة، نأمل من الجميع الالتزام بقوانين الحوار المحترم ][