![]() |
السابقون إلى الاسلام من الصبيان
فصل وبادر إلى الإسلام على بن أبي طالب رضي الله عنه وكان ابن ثمان سنين ، وقيل : أكثر من ذلك ، وكان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخذه من عمه أبي طالب إعانة له في سنة محل . وبادر زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان غلاماً لخديجة ، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها ، وقدم أبوه وعمه في فدائه ، فسألا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل : هو في المسجد ، فدخلا عليه ، فقالا : يا ابن عبد المطلب ، يا ابن هاشم ، يا ابن سيد قومه ، أنتم أهل حرم الله وجيرانه ، تفكون العاني وتطعمون الأسير ، جئناك في ابننا عندك ، فامنن علينا ، وأحسن إلينا في فدائه ، قال : " ومن هو ؟" قالوا : زيد بن حارثة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فهلا غيرذلك " قالوا : ما هو ؟ قال : " أدعوه فأخيره ، فإن اختاركم ، فهو لكم ، وإن اختارني ، فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحداً " قالا : قد رددتنا على النصف ، وأحسنت ، فدعاه فقال : "هل تعرف هؤلاء ؟ " قال : نعم ، قال : " من هذا ؟ " قال : هذا أبي ، وهذا عمي ، قال : " فأنا من قد علمت ورأيت ، وعرفت صحبتي لك ، فاخترني أو اخترهما " قال : ما أنا بالذي أختار عليك أحداً أبداً ، أنت مني مكان الأب والعم ، فقالا : ويحك يا زيد ، أتختار العبودية على الحرية ، وعلى أبيك وعمك ، وعلى أهل بيتك ؟! قال : نعم ، قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، أخرجه إلى الحجر ، فقال :" أشهدكم أن زيداً ابني ، يرثنى وأرثه " فلما رأى ذلك أبوه وعمه ، طابت نفوسهما ، فانصرفا ، ودعي زيد بن محمد ، حتى جاء الله بالإسلام : فنزلت : " ادعوهم لآبائهم " ( الأحزاب : 5) فدعي من يومئذ : زيد بن حارثة . قال معمر في جامعه عن الزهري : ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد بن حارثة وهو الذي أخبر الله عنه في كتابه أنه أنعم عليه ، وأنعم عليه رسوله ، وسماه باسمه . وأسلم القس ورقة بن نوفل ، وتمنى أن يكون جذعاً إذ يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ، وفي جامع الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه في المنام في هيئة حسنة ، وفي حديث آخر : أنه رأه في ثياب بياض . ودخل الناس في الدين واحداً بعد واحد ، وقريش لا تنكر ذلك ، حتى بادأهم بعيب دينهم ، وسب آلهتهم ، وأنها لا تضر ولا تنفع ، فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة ، فحمى الله رسوله بعمه أبي طالب ، لأنه كان شريفاً معظماً في قريش، مطاعاً في أهله ، وأهل مكة لا يتجاسرون على مكاشفته بشئ من الأذى . وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه ، لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها . وأما أصحابه ، فمن كان له عشيرة تحميه ، امتنع بعشيرته ، وسائرهم تصدوا له بالأذى والعذاب ، منهم عمار بن ياسر ، وأمه سمية ، وأهل بيته ، عذبوا فى الله ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم وهم يعذبون يقول : " صبراً يا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة " . ومنهم بلال بن رباح ، فإنه عذب في الله أشد العذاب ، فهان على قومه ، وهانت عليه نفسه في الله ، وكان كلما اشتد عليه العذاب يقول : أحد أحد ، فيمر به ورقة بن نوفل . فيقول : إي والله يا بلال أحد أحد ، أما والله لئن قتلتموه لأتخذنه حناناً . |
اشتداد أذى المشركين على من أسلم
فصل ولما اشتد أذى المشركين على من أسلم ، وفتن منهم من فتن ، حتى يقولوا لأحدهم : اللات والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول: نعم ، وحتى إن الجعل ليمر بهم ، فيقولون : وهذا إلهك من دون الله ، فيقول : نعم . ومر عدو الله أبو جهل بسمية أم عمار بن ياسر ، وهي تعذب ، وزوجها وابنها ، فطعنها بحربة في فرجها حتى قتلها . كان الصديق إذا مر بأحد من العبيد يعذب ، اشتراه منهم ، وأعتقه ، منهم بلال ، وعامر بن فهيرة ، وأم عبيس ، وزنيرة ، والنهدية ، وابنتها ، وجارية لبني عدي كان عمر يعذبها على الإسلام قبل إسلامه ، وقال له أبوه : يا بني أراك تعتق رقاباً ضعافاً ، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت قوماً جلداً يمنعونك ، فقال له أبو بكر : إني أريد ما أريد . فلما اشتد البلاء ، أذن الله سبحانه لهم بالهجرة الأولى إلى أرض الحبشة ، وكان أول من هاجر إليها عثمان بن عفان ، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أهل هذه الهجرة الأولى اثني عشر رجلاً ، وأربع نسوة : عثمان ، وامرأته ، وأبو حذيفة ، وامرأتة سهلة بنت سهيل ، وأبو سلمة ، وامرأته أم سلمة هند بنت أبي أمية ، والزببر بن العوام ، ومصعب بن عمير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعثمان بن مظعون ، وعامر بن ربيعة ، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة ، وأبو سبرة بن أبي رهم ، وحاطب بن عمرو ، وسهيل بن وهب ، وعبد الله بن مسعود . وخرجوا متسللين سراً ، فوفق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار ، فحملوهم فيهما إلى أرض الحبشة ، وكان مخرجهم في رجب في السنة الخامسة من المبعث ، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤوا البحر ، فلم يدركوا منهم أحداً ، ثم بلغهم أن قريشاً قد كفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فرجعوا ، فلما كانوا دون مكة بساعة من نهار ، بلغهم أن قريشاً أشد ما كانوا عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل من دخل بجوار ، وفي تلك المرة دخل ابن مسعود ، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ، فلم يرد عليه ، فتعاظم ذلك على ابن مسعود ، حتى قال له النبى صلى الله عليه وسلم :" إن الله قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة " هذا هو الصواب ، وزعم ابن سعد وجماعة أن ابن مسعود لم يدخل ، وأنه رجع إلى الحبشة حتى قدم فى المرة الثانية إلى المدينة مع من قدم ، ورد هذا بأن ابن مسعود شهد بدراً ، وأجهز على أبي جهل ، وأصحاب هذه الهجرة إنما قدموا المدينة مع جعفر بن أبى طالب وأصحابه بعد بدر بأربع سنين أو خمس . قالوا : فإن قيل : بل هذا الذي ذكره ابن سعد يوافق قول زيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة ، يكلم الرجل صاحبه ، وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت : " وقوموا لله قانتين " ( البقرة : 238) فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام ، وزيد بن أرقم من الأنصار ، والسورة مدنية ، وحينئذ فابن مسعود سلم عليه لما قدم وهو في الصلاة ، فلم يرد عليه حتى سلم ، وأعلمه بتحريم الكلام ، فاتفق حديثه وحديث ابن أرقم . قيل : يبطل هذا شهود ابن مسعود بدراً ، وأهل الهجرة الثانية إنما قدموا عام خيبر مع جعفر وأصحابه ، ولو كان ابن مسعود ممن قدم قبل بدر ، لكان لقدومه ذكر ، ولم يذكر أحد قدوم مهاجري الحبشة إلا في القدمة الأولى بمكة ، والثانية عام خيبر مع جعفر ، فمتى قدم ابن مسعود في غير هاتين المرتين ومع من ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق ، قال : وبلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا إلى الحبشة إسلام أهل مكة ، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك ، حتى إذا دنوا من مكة ، بلغهم أن إسلام أهل مكة كان باطلاً ، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار ، أو مستخفياً . فكان ممن قدم منهم ، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة ، فشهد بدراً وأحداً فذكر منهم عبد الله بن مسعود . فإن قيل : فما تصنعون بحديث زيد بن أرقم ؟ قيل : قد أجيب عنه بجوابين ، أحدهما : أن يكون النهي عنه قد ثبت بمكة ، ثم أذن فيه بالمدينة ، ثم نهي عنه . والثاني : أن زيد بن أرقم كان من صغار الصحابة ، وكان هو وجماعة يتكلمون في الصلاة على عادتهم ، ولم يبلغهم النهي ، فلما بلغهم انتهوا ، وزيد لم يخبر عن جماعة المسلمين كلهم بأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة إلى حين نزول هذه الآية ، ولو قدر أنه أخبر بذلك لكان وهماً منه . ثم اشتد البلاء من قريش على من قدم من مهاجري الحبشة وغيرهم ، وسطت بهم عشائرهم ، ولقوا منهم أذى شديداً ، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية ، وكان خروجهم الثاني أشق عليهم وأصعب ، ولقوا من قريش تعنيفاً شديداً ، ونالوهم بالأذى ، وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم ، وكان عدة من خرج في هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلاً ، إن كان فيهم عمار بن ياسر ، فإنه يشك فيه ، قاله ابن إسحاق ، ومن النساء تسع عشرة امرأة . قلت : قد ذكر في هذه الهجرة الثانية عثمان بن عفان وجماعة ممن شهد بدراً ، فإما أن يكون هذا وهماً ، وإما أن يكون لهم قدمة أخرى قبل بدر ، فيكون لهم ثلاث قدمات : قدمة قبل الهجرة ، وقدمة قبل بدر ، وقدمة عام خيبر ، ولذلك قال ابن سعد وغيره : إنهم لما سمعوا مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً ، ومن النساء ثمان نسوة ، فمات منهم رجلاً بمكة ، وحبس بمكة سبعة ، وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً . فلما كان شهر ربيع الأول سنة سبع من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام ، وبعث به مع عمرو بن أمية الضمري ، فلما قرىء عليه الكتاب ، أسلم ، وقال: لئن قدرت أن آتيه لآتينه . وكتب إليه أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت فيمن هاجر إلى أرض الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش ، فتنصر هناك ومات ، فزوجه النجاشي إياها ، وأصدقها عنه أربعمائة دينار ، وكان الذي ولي تزويجها خالد بن سعيد بن العاص . وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه ، ويحملهم ، ففعل ، وحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري ، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، فوجدوه قد فتحها ، فكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يدخلوهم في سهامهم ، ففعلوا . وعلى هذا فيزول الإشكال الذي بين حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم ، ويكون ابن مسعود قدم في المرة الوسطى بعد الهجرة قبل بدر إلى المدينة ، وسلم عليه حينئذ ، فلم يرد عليه ، وكان العهد حديثاً بتحريم الكلام ، كما قال زيد بن أرقم ، ويكون تحريم الكلام بالمدينة ، لا بمكة ، وهذا أنسب بالنسخ الذي وقع في الصلاة والتغيير بعد الهجرة ، كجعلها أربعاً بعد أن كانت ركعتين ، ووجوب الاجتماع لها . فإن قيل : ما أحسنه من جمع وأثبته لو لا أن محمد بن إسحاق قد قال : ما حكيتم عنه أن ابن مسعود أقام بمكة بعد رجوعه من الحبشة حتى هاجر إلى المدينة ، وشهد بدراً ، وهذا يدفع ما ذكر . قيل : إن كان محمد بن إسحاق قد قال هذا ، فقد قال محمد بن سعد في طبقاته : إن ابن مسعود مكث يسيراً بعد مقدمه ، ثم رجع الى أرض الحبشة ، وهذا هو الأظهر ، لأن ابن مسعود لم يكن له بمكة من يحميه ، وما حكاه ابن سعد قد تضمن زيادة أمر خفي على ابن إسحاق ، وابن إسحاق لم يذكر من حدثه ، ومحمد بن سعد أسند ما حكاه إلى المطلب بن عبد الله بن حنطب ، فاتفقت الأحاديث ، وصدق بعضها بعضاً ، وزال عنها الإشكال ، ولله الحمد والمنة . وقد ذكر ابن إسحاق في هذه الهجرة إلى الحبشة أبا موسى الأشعري عبد الله بن قيس ، وقد أنكر عليه ذلك أهل السير ، منهم محمد بن عمر الواقدي وغيره ، وقالوا : كيف يخفى ذلك على ابن إسحاق أو على من دونه ؟ قلت : وليس ذلك مما يخفى على من دون محمد بن إسحاق فضلاً عنه ، وإنما نشأ الوهم أن أبا موسى هاجر من اليمن إلى أرض الحبشة إلى عند جعفر وأصحابه لما سمع بهم ، ثم قدم معهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، كما جاء مصرحاً به في الصحيح فعد ذلك ابن إسحاق لأبي موسى هجرة ، ولم يقل : إنه هاجر من مكة إلى أرض الحبشة لينكر عليه . |
هجرة المسلمين إلى الحبشة حين اشتد الأذى عليهم
فصل فانحاز المهاجرون إلى مملكة أصحمة النجاشي آمنين ، فلما علمت قريش بذلك ، بعثت في أثرهم عبد الله بن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص ، بهدايا وتحف من بلدهم إلى النجاشي ليردهم عليهم ، فأبى ذلك عليهم ، وشفعوا إليه بعظماء بطارقته ، فلم يجبهم إلى ما طلبوا ، فوشوا إليه : إن هؤلاء يقولون في عيسى قولاً عظيماً ، يقولون : إنه عبد الله ، فاستدعى المهاجرين إلى مجلسه ، ومقدمهم جعفر بن أبي طالب ، فلما أرادوا الدخول عليه ، قال جعفر : يستأذن عليك حزب الله ، فقال للآذن : قل له يعيد استئذانه ، فأعاده عليه ، فلما دخلوا عليه قال : ما تقولون في عيسى ؟ فتلا عليه جعفر صدراً من سورة ( كهيعص ) فأخذ النجاشى عوداً من الأرض فقال : ما زاد عيسى على هذا ولا هذا العود ، فتناخرت بطارقته عنده ، فقال: وإن نخرتم ، قال : اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي ، من سبكم غرم . والسيوم : الآمنون في لسانهم ، ثم قال للرسولين : لو أعطيتموني دبراً من ذهب ، يقول : جبلاً من ذهب ، ما أسلمتهم إليكما ، ثم أمر فردت عليهما هداياهما ورجعا مقبوحين . |
إسلام حمزة عم النبي وجماعة كثيرين وفشو الاسلام
فصل ثم أسلم حمزة عمه وجماعة كثيرون ، وفشا الإسلام ، فلما رأت قريش أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلو ، والأمور تتزايد ، أجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم ، وبني المطلب ، وبني عبد مناف ، أن لا يبايعوهم ، ولا يناكحوهم ، ولا يكلموهم ، ولا يجالسوهم ، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتبوا بذلك صحيفة ، وعلقوها في سقف الكعبة ، يقال : كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم ، ويقال : النضر بن الحارث ، والصحيح : أنه بغيض بن عامر بن هاشم فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشلت يده ، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم ، إلا أبا لهب ، فإنه ظاهر قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني هاشم ، وبني المطلب ، وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه في الشعب شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم ، سنة سبع من البعثة ، وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة ، وبقوا محبوسين ومحصورين ، مضيقاً عليهم جداً ، مقطوعاً عنهم الميرة والمادة ، نحو ثلاث سنين ، حتى بلغهم الجهد ، وسمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب ، وهناك عمل أبو طالب قصيدته اللامية المشهورة أولها : جزىالله عناعبد شمس ونوفلاً عقوبة شرعاجلاً غير آجل وكانت قريش في ذلك بين راض وكاره ، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارهاً لها ، وكان القائم بذلك هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك ، مشى في ذلك إلى المطعم بن عدي وجماعة من قريش ، فأجابوه إلى ذلك ، ثم أطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم ، وأنه أرسل عليها الأرضة فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم ، إلا ذكر الله عز وجل ، فأخبر بذلك عمه ، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا ، فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه ، وإن كان صادقاً ، رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا ، قالوا : قد أنصفت ، فأنزلوا الصحيفة ، فلما رأوا الأمر كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ازدادوا كفراً إلى كفرهم ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب . قال ابن عبد البر : بعد عشرة أعوام من المبعث ، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر ، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام ، وقيل : غير ذلك . |
خبر نقض الصحيفة
فصل فلما نقضت الصحيفة ، وافق موت أبي طالب وموت خديجة ، وبينهما يسير ، فاشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومه ، وتجرؤوا عليه ، فكاشفوه بالأذى ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف رجاء أن يؤووه وينصروه على قومه ، ويمنعوه منهم ، ودعاهم إلى الله عز وجل فلم ير من يؤوي ، ولم ير ناصراً ، وآذوه مع ذلك أشد الأذى ، ونالوا منه ما لم ينله قومه ، وكان معه زيد بن حارثة مولاه ، فأقام بينهم عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلمه ، فقالوا : أخرج من بلدنا ، وأغروا به سفهاءهم ، فوقفوا له سماطين ، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه ، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج فى رأسه ، فانصرف راجعاً من الطائف إلى مكة محزوناً ، وفي مرجعه ذلك دعا بالدعاء المشهور دعاء الطائف :" اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتى ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربى ، إلا من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني ؟ أو إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل علي غضبك ، أو أن ينزل بي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " . فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه ملك الجبال ، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة ، وهما جبلاها اللذان هي بينهما ، فقال : " لا ، بل أستأني بهم لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً " . فلما نزل بنخلة مرجعه ، قام يصلي من الليل ، فصرف إليه نفر من الجن ، فاستمعوا قراءته ، ولم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه : " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين " ( الأحقاف : 29-32) . وأقام بنخلة أياماً ، فقال له زيد بن حارثة : كيف تدخل عليهم ، وقد أخرجوك ؟ يعني قريشاً ، فقال : " يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً ، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه " . ثم انتهى إلى مكة فأرسل رجلاً من خزاعة إلى مطعم بن عدي : أدخل فى جوارك ؟ فقال : نعم ، ودعا بنيه وقومه ، فقال : البسوا السلاح ، وكونوا عند أركان البيت ، فإني قد أجرت محمداً ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة ، حتى انتهى إلى المسجد الحرام ، فقام المطعم بن عدي على راحلته ، فنادى : يا معشر قريش إني قد أجرت محمداً ، فلا يهجه أحد منكم ، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن ، فاستلمه ، وصلى ركعتين ، وانصرف إلى بيته ، والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته . |
الإسراء والمعراج
فصل ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح ، من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ، راكباً على البراق ، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام ، فنزل هناك ، وصلى بالأنبياء إماماً وربط البراق بحلقة باب المسجد . وقد قيل : إنه نزل ببيت لحم ، وصلى فيه ، ولم يصح ذلك عنه البتة . ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا ، فاستفتح له جبريل ، ففتح له ، فرأى هنالك آدم أبا البشر ، فسلم عليه ، فرد عليه السلام ، ورحب به ، وأقر بنبوته ، وأراه الله أرواح السعداء عن يمينه ، وأرواح الأشقياء عن يساره ، ثم عرج به إلى السماء الثانية ، فاستفتح له ، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم ، فلقيهما وسلم عليهما ، فردا عليه، ورحبا به ، وأقرا بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء الثالثة ، فرأى فيها يوسف ، فسلم عليه ، فرد عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته ثم عرج به إلى السماء الرابعة ، فرأى فيها إدريس . فسلم عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء الخامسة ، فرأى فيها هارون بن عمران ، فسلم عليه ورحب به ، وأقر بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء السادسة ، فلقي فيها موسى بن عمران ، فسلم عليه ورحب به ، وأقر بنبوته ، فلما جاوزه ، بكى موسى ، فقيل له ، ما يبكيك ؟ فقال : أبكي ، لأن غلاماً بعث من بعدي ، يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ، ثم عرج به إلى السماء السابعة ، فلقى فيها إبراهيم ، فسلم عليه ورحب به ، وأقر بنبوته ، ثم رفع إلى سدرة المنتهى ، ثم رفع له البيت المعمور ، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله ، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ، وفرض عليه خمسين صلاة . فرجع حتى مر على موسى ، فقال له : بم أمرت ؟ قال : بخمسين صلاة ، قال : إن أمتك لا تطيق ذلك ، ارجع إلى ربك ، فاسأله التخفيف لأمتك ، فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك ، فأشار أن نعم إن شأت ، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى ، وهو في مكانه . هذا لفظ البخاري في بعض الطرق ، فوضع عنه عشراً ، ثم أنزل حتى مر بموسى ، فأخبره فقال : إرجع إلى ربك ، فاسأله التخفيف ، فلم يزل يتردد بين موسى ، وبين الله عز وجل حتى جعلها خمساً ، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف ، فقال : قد استحييت من ربى ، ولكن أرضى وأسلم فلما بعد نادى مناد : قد أمضيت فريضتي ، وخففت عن عبادي . واختلف الصحابة : هل رأى ربه تلك الليلة ، أم لا ؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه ، وصح عنه أنه قال : رآه بفؤاده . وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك ، وقالا : إن قوله : " ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى " ( النجم : 13) إنما هو جبريل . وصح عن أبي ذر أنه سأله : هل رأيت ربك ؟ فقال : " نور أنى أراه " أي : حال بيني وبين رؤيته النور كما قال في لفظ آخر : " رأيت نوراً " . وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره . قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه : وليس قول ابن عباس : إنه رآه مناقضاً لهذا ، ولا قوله : رآه بفؤاده وقد صح عنه أنه قال : " رأيت ربي تبارك وتعالى " ولكن لم يكن هذا في الإسراء ، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح ، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه ، وعلى هذا بنى الإمام أحمد رحمه الله تعالى ، وقال : نعم رآه حقاً ، فإن رؤيا الأنبياء حق ، ولا بد ، ولكن لم يقل أحمد رحمه الله تعالى : إنه رآه بعيني رأسه يقظة ، ومن حكى عنه ذلك ، فقد وهم عليه ، ولكن قال مرة : رآه ، ومرة قال : رآه بفؤاده فحكيت عنه روايتان ، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه : أنه رآه بعيني رأسه ، وهذه نصوص أحمد موجودة ، ليس فيها ذلك . وأما قول ابن عباس : أنه رآه بفؤاده مرتين ، فإن كان استناده إلى قوله تعالى : " ما كذب الفؤاد ما رأى " ( النجم :11) ثم قال : " ولقد رآه نزلة أخرى " ( النجم :13) والظاهر أنه مستنده ، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل ، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها ، وقول ابن عباس هذا هو مستند الإمام أحمد في قوله : رآه بفؤاده ، والله أعلم . وأما قوله تعالى في سورة النجم : " ثم دنا فتدلى " ( النجم : 8) فهو غير الدنو والتدلي في قصة الإسراء ، فإن الذي في ( سورة النجم ) هو دنو جبريل وتدليه ، كما قالت عائشة وابن مسعود ، والسياق يدل عليه ، فإنه قال : " علمه شديد القوى " ( النجم :5) وهو جبريل " ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى " ( النجم :6-8) ، فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى ، وهو ذو المرة ، أي : القوة ، وهو الذي استوى بالأفق الأعلى ، وهو الذي دنى فتدلى، فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قدر قوسين أو أدنى ، فأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء ، فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتدليه ولا تعرض في ( سورة النجم ) لذلك ، بل فيها أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، وهذا هو جبريل ، رآه محمد صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين : مرة في الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى ، والله أعلم . |
اشتداد أذى المشركين وتكذيبهم حين أخبرهم رسول الله بالإسراء
فصل فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه ، أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى ، فاشتد تكذيبهم له ، وأذاهم وضراوتهم عليه ، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس ، فجلاه الله له حتى عاينه ، فطفق يخبرهم عن آياته ، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئاً . وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه ، وأخبرهم عن وقت قدومها وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها ، وكان الأمر كما قال ، فلم يزدهم ذلك إلا نفوراً ، وأبى الظالمون إلا كفوراً . |
تحقيق القول فى أن الإسراء كان بجسده وروحه
فصل وقد نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا : إنما كان الإسراء بروحه ، ولم يفقد جسده ، ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك ، ولكن ينبغى أن يعلم الفرق بين أن يقال : كان الإسراء مناماً ، وبين أن يقال : كان بروحه دون جسده ، وبينهما فرق عظيم ، وعائشة ومعاوية لم يقولا : كان مناماً ، وإنما قالا : أسري بروحه ولم يفقد جسده ، وفرق بين الأمرين ، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة ، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء ، أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض ، وروحه لم تصعد ولم تذهب ، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال ، والذين قالوا : عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان : طائفة قالت : عرج بروحه وبدنه ، وطائفة قالت : عرج بروحه ولم يفقد بدنه ، وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناماً ، وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها ، وعرج بها حقيقة ، وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة ، وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة في صعودها إلى السماوات سماء سماء حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة ، فتقف بين يدي الله عز وجل ، فيأمر فيها بما يشاء ، ثم تنزل إلى الأرض والذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة . ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم ، لكن لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مقام خرق العوائد ، حتى شق بطنه، وهو حي لا يتألم بذلك ، عرج بذات روحه المقدسة حقيقة من غير إماتة ، ومن سواه لا ينال بذات روحه الصعود إلى السماء إلا بعد الموت والمفارقة ، فالأنبياء إنما استقرت أرواحهم هناك بعد مفارقة الأبدان ، وروح رسول الله صلى الله عليه وسلم صعدت إلى هناك في حال الحياة ثم عادت ، وبعد وفاته استقرت في الرفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ومع هذا ، فلها إشراف على البدن وإشراق وتعلق به ، بحيث يرد السلام على من سلم عليه وبهذا التعلق رأى موسى قائماً يصلي في قبره ، ورآه في السماء السادسة . ومعلوم أنه لم يعرج بموسى من قبره ، ثم رد إليه ، وإنما ذلك مقام روحه واستقرارها ، وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها ، فرآه يصلي في قبره ، ورآه في السماء السادسة ، كما أنه صلى الله عليه وسلم في أرفع مكان في الرفيق الأعلى مستقراً هناك ، وبدنه في ضريحه غير مفقود ، وإذا سلم عليه المسلم رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ، ولم يفارق الملأ الأعلى ، ومن كثف إدراكه ، وغلظت طباعه عن إدراك هذا ، فلينظر إلى الشمس في علو محلها ، وتعلقها ، وتأثيرها في الأرض ، وحياة النبات والحيوان بها ، هذا وشأن الروح فوق هذا ، فلها شأن ، وللأبدان شأن ، وهذه النار تكون في محلها ، وحرارتها تؤثر في الجسم البعيد عنها ، مع أن الارتباط والتعلق الذي بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتم ، فشأن الروح أعلى من ذلك وألطف . فقل للعيون الرمد إياك أن تري سنا الشمس فاستغشي ظلام اللياليا |
الصحيح أن الاسراء كان مرة واحدة
فصل قال موسى بن عقبة عن الزهري : عرج بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وإلى السماء قبل خروجه الى المدينة بسنة . وقال ابن عبد البر وغيره : كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران انتهى . وكان الإسراء مرة واحدة . وقيل : مرتين : مرة يقظة ، ومرة مناماً ، وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك ، وقوله : ثم استيقظت ، وبين سائر الروايات ، ومنهم من قال : بل كان هذا مرتين ، مرة قبل الوحي لقوله في حديث شريك : وذلك قبل أن يوحى إليه ومرة بعد الوحي ، كما دلت عليه سائر الأحاديث ، ومنهم من قال : بل ثلاث مرات : مرة قبل الوحي ، ومرتين بعده ، وكل هذا خبط ، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات ، جعلوه مرة أخرى ، فكلما اختلفت عليهم الروايات ، عددوا الوقائع ، والصواب الذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة . ويا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه مراراً ، كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه فى كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين ، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً ، ثم يقول : أمضيت فريضتي ، وخففت عن عبادي ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ، ثم يحطها عشراً عشراً ، وقد غلط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء ومسلم أورد المسند منه ثم قال : فقدم وأخر وزاد ونقص ، ولم يسرد الحديث ، فأجاد رحمه الله . |
مبدأ الهجرة إلى المدينة
فصل في مبدأ الهجرة التي فرق الله فيها بين أوليائه وأعدائه ، وجعلها مبدأ لإعزاز دينه ونصر عبده ورسوله : قال الواقدي : حدثني محمد بن صالح ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان وغيرهما قالوا : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفياً ، ثم أعلن في الرابعة ، فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين ، يوافي الموسم كل عام ، يتبع الحاج في منازلهم ، وفي المواسم بعكاظ ، ومجنة ، وذي المجاز ، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة ، فلا يجد أحداً ينصره ولا يجيبه ، حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ، ويقول : " يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ، وتملكوا بها العرب ، وتذل لكم بها العجم ، فإذا آمنتم ، كنتم ملوكاً في الجنة " وأبو لهب وراءه يقول : لا تطيعوه فإنه صابىء كذاب ، فيردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح الرد ، ويؤذونه ، ويقولون : أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك ، وهو يدعوهم إلى الله ، ويقول : " اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا " قال: وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم ، وعرض نفسه عليهم : بنو عامر بن صعصعة ، ومحارب بن حصفة ، وفزارة ، وغسان ، ومرة ، وحنيفة ، وسليم ، وعبس ، وبنو النضر ، وبنو البكاء ، وكندة ، وكلب ، والحارث بن كعب ، وعذرة ، والحضارمة ، فلم يستجب منهم أحد . |
الساعة الآن 09:29 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
][ ملاحظة: جميع المشاركات تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تمثل راي ادارة المنتدى بالضرورة، نأمل من الجميع الالتزام بقوانين الحوار المحترم ][