![]() |
فصل إنه صلى الله عليه وسلم خيرهم عند الإحرام بين الأنساك الثلاثة
فصل ثم إنه صلى الله عليه وسلم خيرهم عند الإحرام بين الأنساك الثلاثة ، ثم ندبهم عند دنوهم من مكة إلى فسخ الحج والقران إلى العمرة لمن لم يكن معه هدي ، ثم حتم ذلك عليهم عند المروة . وولدت أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر رضي الله عنهما بذي الحليفة محمد بن أبي بكر، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن تغتسل ، وتستثفر، بثوب وتحرم وتهل . وكان في قصتها ثلاث سنن ، إحداها: غسل المحرم ، والثانية : أن الحائض تغتسل لإحرامها ، والثالثة : أن الإحرام يصح من الحائض . ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبي بتلبيته المذكورة ، والناس معه يزيدون فيها وينقصون ، وهو يقرهم ولا ينكر عليهم . ولزم تلبيته ، فلما كانوا بالروحاء ، رأى حمار وحش عقيراً ، فقال : "دعوه فإنه يوشك أن يأتي صاحبه " فجاء صاحبه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار، فأمر رسول الله أبا بكر فقسمة بين الرفاق . وفي هذا دليل على جواز أكل المحرم من صيد الحلال إذا لم يصده لأجله ، وأما كون صاحبه لم يحرم ، فلعله لم يمر بذي الحليفة، فهو كأبي قتادة في قصته . وتدل هذه القصة على أن الهبة لا تفتقر إلى لفظ : وهبت لك ، بل تصح بما يدل عليها، وتدل على قسمته اللحم مع عظامه بالتحري ، وتدك على أن الصيد يملك بالإثبات ، وإزالة امتناعه ، وأنه لمن أثبته لا لمن أخذه ، وعلى حل أكل لحم الحمار الوحشي ، وعلى التوكيل في القسمة ، وعلى كون القاسم واحداً . |
فصل ثم إنه صلى الله عليه وسلم خيرهم عند الإحرام بين الأنساك الثلاثة ، ثم ندبهم عند دنوهم من مكة إلى فسخ الحج والقران إلى العمرة لمن لم يكن معه هدي ، ثم حتم ذلك عليهم عند المروة .
وولدت أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر رضي الله عنهما بذي الحليفة محمد بن أبي بكر، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن تغتسل ، وتستثفر، بثوب وتحرم وتهل . وكان في قصتها ثلاث سنن ، إحداها: غسل المحرم ، والثانية : أن الحائض تغتسل لإحرامها ، والثالثة : أن الإحرام يصح من الحائض . ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبي بتلبيته المذكورة ، والناس معه يزيدون فيها وينقصون ، وهو يقرهم ولا ينكر عليهم . ولزم تلبيته ، فلما كانوا بالروحاء ، رأى حمار وحش عقيراً ، فقال : "دعوه فإنه يوشك أن يأتي صاحبه " فجاء صاحبه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار، فأمر رسول الله أبا بكر فقسمة بين الرفاق . وفي هذا دليل على جواز أكل المحرم من صيد الحلال إذا لم يصده لأجله ، وأما كون صاحبه لم يحرم ، فلعله لم يمر بذي الحليفة، فهو كأبي قتادة في قصته . وتدل هذه القصة على أن الهبة لا تفتقر إلى لفظ : وهبت لك ، بل تصح بما يدل عليها، وتدل على قسمته اللحم مع عظامه بالتحري ، وتدك على أن الصيد يملك بالإثبات ، وإزالة امتناعه ، وأنه لمن أثبته لا لمن أخذه ، وعلى حل أكل لحم الحمار الوحشي ، وعلى التوكيل في القسمة ، وعلى كون القاسم واحداً . |
فصل في الصيد
فصل ثم مضى حتى إذا كان بالأثاية بين الرويثة والعرج ، إذا ظبي حاقف في ظل فيه سهم ، فأمر رجلاً أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس ، حتى يجاوزوا . والفرق بين قصة الظبي ، وقصة الحمار، أن الذي صاد الحمار كان حلالاً، فلم يمنع من أكله ، وهذا لم يعلم أنه حلال وهم محرمون ، فلم يأذن لهم فى أكله ، ووكل من يقف عنده ، لئلا يأخذه أحد حتى يجاوزوه . وفيه دليل على أن قتل المحرم للصيد يجعله بمنزلة الميتة في عدم الحل إذ لوكان حلالاً ، لم تضع ماليته . |
فصل المحرم يؤدب غلامه
فصل ثم سار حتى إذا نزل بالعرج ، وكانت زمالته وزمالة أبي بكر واحدة ، وكانت مع غلام لأبي بكر، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى جانبه ، وعائشة إلى جانبه الآخر ، وأسماء زوجته إلى جانبه ، وأبو بكر ينتظر الغلام والزمالة ، إذ طلع الغلام ليس معه البعير، فقال : أين بعيرك ؟ فقال : أضللته البارحة، فقال أبو بكر: بعير واحد تضله . قال : فطفق يضربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ، ويقول : "انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ، وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقول ذلك ويتبسم ". ومن تراجم أبي داود على هذه القصة ، باب المحرم يؤدب غلامه . |
بحث في لحم الصيد للمحرم
فصل ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بالأبواء ، أهدى له الصعب بن جثامة عجز حمار وحشي ، فرده عليه ، فقال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم . وفي الصحيحين : "أنه أهدى له حماراً وحشياً "، وفي لفظ لمسلم : "لحم حمار وحش". وقال الحميدي : كان سفيان يقول في الحديث : أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار وحش ، وربما قال سفيان : يقطر دماً ، وربما لم يقل ذلك ، وكان سفيان فيما خلا ربما قال : حمار وحش ، ثم صار إلى لحم حتى مات . وفي رواية : شق حمار وحش ، وفي رواية : رجل حمار وحش . وروى يحيى بن سعيد، عن جعفر، عن عمرو بن أمية الضمري ، عن أبيه ، عن الصعب ، أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم عجز حمار وحش وهو بالجحفة، فأكل منه وأكل القوم . قال البيهقي : وهذا إسناد صحيح . فإن كان محفوظاً ، فكأنه رد الحي ، وقبل اللحم . وقال الشافعي رحمه الله : فإن كان الصعب بن جثامة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم الحمار حياً ، فليس للمحرم ذبح حمار وحش ، وإن كان أهدى له لحم الحمار ، فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له ، فرده عليه ، وإيضاحه في حديث جابر . قال : وحديث مالك : أنه أهدى له حماراً أثبت من حديث من حدث له من لحم حمار . قلت : أما حديث يحيى بن سعيد، عن جعفر، فغلط بلا شك ، فإن الواقعة واحدة ، وقد اتفق الرواة أنه لم يأكل منه ، إلا هذه الرواية الشاذة المنكرة . وأما الاختلاف في كون الذي أهداه حياً، أو لحماً، فرواية من روى لحماً أولى لثلاثة أوجه . أحدها : أن راويها قد حفظها، وضبط الواقعة حتى ضبطها : أنه يقطر دماً، وهذا يدل على حفظه للقصة حتى لهذا الأمر لا يؤبه له . الثاني : أن هذا صريح في كونه بعض الحمار، وأنه لحم منه ، فلا يناقض قوله : أهدى له حماراً، بل يمكن حمله على رواية من روى لحماً ، تسمية للحم بإسم الحيوان ، وهذا مما لا تأباه اللغة . الثالث : أن سائر الروايات متفقة على أنه بعض من أبعاضه ، وإنما اختلفوا في ذلك البعض ، هل هو عجزه ، أو شقه ، أو رجله ، أو لحم منه ؟ ولا تناقض بين هذه الروايات ، إذ يمكن أن يكون الشق هو الذي فيه العجز وفيه الرجل ، فصح التعبير عنه بهذا وهذا، وقد رجع ابن عيينة عن قوله حماراً وثبت على قوله : لحم حمار حتى مات . وهذا يدل على له أنه تبين له إنما أهدى له لحماً لا حيواناً، ولا تعارض بين هذا وبين أكله لما صاده أبو قتادة، فإن قصة أبي قتادة كانت عام الحديبية سنة ست ، وقصة الصعب قد ذكر غير واحد أنها كانت في حجة الوداع ، منهم : المحب الطبري في كتاب حجة الوداع له . أو في بعض عمره وهذا مما ينظر فيه . وفي قصة الظبي وحمار يزيد بن كعب السلمي البهزي ، هل كانت في حجة الوداع ، أو في بعض عمره ، والله أعلم ؟ فإن حمل حديث أبي قتادة على أنه لم يصده لأجله ، وحديث الصعب على أنه صيد لأجله ، زال الإشكال ، وشهد لذلك حديث جابر المرفوع "صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم " وإن كان الحديث قد أكل بأن المطلب بن حنطب راويه عن جابر لا يعرف له سماع منه ، قاله النسائي . قال الطبري في حجة الوداع له : فلما كان في بعض الطريق ، اصطاد أبو قتادة حماراً وحشياً ، ولم يكن محرماً، فأحله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد أن سألهم : هل أمره أحد منكم بشيء ، أو أشار إليه ؟ وهذا وهم منه رحمه الله ، فإن قصة أبي قتادة إنما كانت عام الحديبية ، هكذا روي في الصحيحين من حديث عبد الله ابنه عنه قال : انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولم أحرم ، فذكر قصة الحمار الوحشي . |
بحث في إحرام عائشة ورفضها العمرة وذكر اختلاف الروايات فيه
فصل "فلما مر بوادي عسفان ، قال : يا أبا بكر أي واد هذا ؟ قال : وادي عسفان . قال : لقد مر به هود وصالح على بكرين أحمرين خطمهما الليف وأزرهم العباء ، وأرديتهم النمار ، يلبون يحجون البيت العتيق "ذكره الإمام أحمد في المسند . فلما كان بسرف ، حاضت عائشة رضي الله عنها، وقد كانت أهلت بعمرة ، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي ، قال: "ما يبكيك لعلك نفست ؟ قالت : نعم قال : هذا شيء قد كتبه الله على بنات آدم ، افعلي ما يفعل الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت ". وقد تنازع العلماء في قصة عائشة : هل كانت متمتعة أو مفردة ؟ فإذا كانت متمتعة، فهل رفضت عمرتها، أو انتقلت إلى الإفراد ، وأدخلت عليها الحج ، وصارت قارنة، وهل العمرة التي أتت بها من التنعيم كانت واجبة أم لا ؟ وإذا لم تكن واجبة، فهل هي مجزئة عن عمرة الإسلام أم لا ؟ واختلفوا أيضاً في موضع حيضها ، وموضع طهرها ، ونحن نذكر البيان الشافي في ذلك بحول الله وتوفيقه ، واختلف العلماء في مسألة مبنية على قصة عائشة، وهي أن المرأة إذا أحرمت بالعمرة، فحاضت ، ولم يمكنها الطواف قبل التعريف ، فهل ترفض الإحرام بالعمرة، وتهل بالحج مفرداً ، أوتدخل الحج على العمرة وتصير قارنة ؟ فقال بالقول الأول : فقهاء الكوفة، منهم أبو حنيفة وأصحابه ، وبالثاني : فقهاء الحجاز. منهم : الشافعي ومالك ، وهو مذهب أهل الحديث كالإمام أحمد وأتباعه . قال الكوفيون : ثبت في الصحيحين ، عن عروة، عن عائشة، أنها قالت : "أهللت بعمرة، فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : انقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج ، ودعي العمرة. قالت : ففعلت فلما قضيت الحج ، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم ، فاعتمرت منه ، فقال : هذه مكان عمرتك ". قالوا : فهذا يدل على أنها كانت متمتعة ، وعلى أنها رفضت عمرتها وأحرمت بالحج ، لقوله صلى الله عليه وسلم ، "دعي عمرتك " ولقوله : "انقضي رأسك وامتشطي ". ولو كانت باقية على إحرامها، لما جاز لها أن تمتشط ، ولأنه قال للعمرة التي أتت بها من التنعيم : "هذه مكان عمرتك " . ولو كانت عمرتها الأولى باقية، لم تكن هذه مكانها ، بل كانت عمرة مستقلة . قال الجمهور: لو تأملت قصة عائشة حق التأمل ، وجمعتم بين طرقها وأطرافها، لتبين لكم أنها قرنت ، ولم ترفض العمرة، ففي صحيح مسلم : "عن جابر رضي الله عنه ، قال : أهلت عائشة بعمرة، حتى إذا كانت بسرف ، عركت ، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، فوجدها تبكي ، فقال : ما شأنك ؟ قالت : شأني أني قد حضت وقد أحل الناس ، ولم أحل ، ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن ، قال : إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم ، فاغتسلي ، ثم أهلي بالحج ففعلت ، ووقفت المواقف كلها ، حتى إذا طهرت ، طافت بالكعبة وبالصفا والمروة . ثم قال : قد حللت من حجك وعمرتك قالت : يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت . قال : فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم ". وفي صحيح مسلم : من حديث طاووس عنها : أهللت بعمرة، وقدمت ولم أطف حتى حضت ، فنسكت المناسك كلها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر : "يسعك طوافك لحجك وعمرتك " . فهذه نصوص صريحة، أنها كانت في حج وعمرة، لا في حج مفرد ، وصريحة في أن القارن يكفيه طواف واحد، وسعي واحد، وصريحة في أنها لم ترفض إحرام العمرة، بل بقيت في إحرامها كما هي لم تحل منه . وفي بعض ألفاظ الحديث : "كوني في عمرتك ، فعسى أن الله يرزقكيها". ولا يناقض هذا "دعي عمرتك " . فلو كان المراد به رفضها وتركها، لما قال لها : "يسعك طوافك لحجك وعمرتك " ، فعلم أن المراد : دعي أعمالها ليس المراد به رفض إحرامها وأما قوله : "انقضي رأسك وامتشطي " ، فهذا مما أعضل على الناس، ولهم فيه أربعة مسالك . أحدها : أنه دليل ، على رفض العمرة، كما قالت الحنفية . المسلك الثاني . إنه دليل على أنه يجوز للمحرم أن يمشط رأسه ، ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه من ذلك ، ولا تحريمه وهذا قول ابن حزم وغيره. المسلك الثالث : تعليل هذه اللفظة ، وردها بأن عروة انفرد بها ، وخالف بها سائر الرواة ، وقد روى حديثها طاووس والقاسم والأسود وغيرهم ، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة . قالوا : وقد رزق حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه ، عن عائشة ، حديث حيضها في الحج فقال فيه : حدثني غير واحد، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال لها : " دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي " وذكر تمام الحديث........ قالوا : فهذا يدل على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة . المسلك الرابع : أن قوله : "دعي العمرة" ، أي دعيها، بحالها لا تخرجي ، وليس المراد تركها ، قالوا : ويدل عليه وجهان . أحدهما قوله : "يسعك طوافك لحجك وعمرتك " . الثاني : قوله: "كوني في عمرتك ". قالوا: وهذا أولى من حمله على رفضها لسلامته من التناقض . قالوا : وأما قوله : "هذه مكان عمرتك فعائشة أحبت أن تأتي بعمرة مفردة ، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن طوافها وقع عن حجتها وعمرتها ، وأن عمرتها قد دخلت في حجها، فصارت قارنة، فأبت إلا عمرة مفردة كما قصدت أولاً، فلما حصل لها ذلك ، قال : هذه مكان عمرتك " . وفي سنن الأثرم ، عن الأسود، قال : قلت لعائشة : اعتمرت بعد الحج ؟ قالت : والله ما كانت عمرة ، ما كانت إلا زيارة زرت البيت . قال الإمام أحمد: إنما أعمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة حين ألحت عليه ، فقالت : يرجع الناس بنسكين ، وأرجع بنسك ؟ فقال : "يا عبد الرحمن ، أعمرها" فنظر إلى أدنى الحل ، فأعمرها منه. |
فصل واختلف الناس فيما أحرمت به عائشة أولاً على قولين .
أحدهما : أنه عمرة مفردة ، وهذا هو الصواب لما ذكرنا من الأحاديث . وفي الصحيح عنها، قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أراد منكم أن يهل بعمرة، فليهل فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة" . قالت : وكان من القوم من أهل بعمرة ، ومنهم من أهل بالحج ، قالت : فكنت أنا ممن أهل بعمرة ، وذكرت الحديث ....... وقوله في الحديث : " دعي العمرة وأهلي بالحج " قاله لها بسرف قريباً من مكة وهو صريح في أن إحرامها كان بعمرة . القول الثاني : أنها أحرمت أولاً بالحج وكانت مفردة، قال ابن عبد البر : روى القاسم بن بن محمد، والأسود بن يزيد، وعمرة كلهم عن عائشة ما يدل على أنها كانت محرمة بحج لا بعمرة ، منها : حديث عمرة عنها : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا نرى إلا أنه الحج ، وحديث الأسود بن يزيد مثله ، وحديث القاسم : لبينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج . قال : وغلطوا عروة في قوله عنها :" كنت فيمن أهل بالعمرة " قال إسماعيل بن إسحاق : قد اجتمع هؤلاء ، يعني الأسود، والقاسم ، وعمرة ، على الروايات التي ذكرنا ، فعلمنا بذلك أن الروايات التي رويت عن عروة غلط ، قال : ويشبه أن يكون الغلط ، إنما وقع فيه أن يكون لم يمكنها الطواف بالبيت ، وأن تحل بعمرة كما فعل من لم يسق الهدي . فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تترك الطواف ، وتمضي على الحج ، فتوهموا بهذا المعنى أنها كانت معتمرة، وأنها تركت عمرتها ، وابتدأت بالحج . قال أبو عمر : وقد روى جابر بن عبد الله ، أنها كانت مهلة بعمرة، كما روى عنها عروة . قالوا : والغلط الذي دخل على عروة، إنما كان في قوله : "انقضي رأسك ، وامتشطي ، ودعي العمرة ، وأهلي بالحج " . وروى حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه : حدثني غير واحد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : "دعي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وافعلي ما يفعل الحاج " . فبين حماد، أن عروة لم يسمع هذا الكلام من عائشة . قلت : من العجب رد هذه النصوص الصحيحة الصريحة التي لا مدفع لها ، ولا مطعن فيها، ولا تحتمل تأويلاً ، البتة بلفظ مجمل ليس ظاهراً في أنها كانت مفردة، فإن غاية ما احتج به من زعم أنها كانت مفردة، قولها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا أنه الحج . فيا لله العجب أيظن بالمتمتع أنه خرج لغير الحج ، بل خرح للحج متمتعاً، كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يقول : خرجت لغسل الجنابة؟ وصدقت أم المؤمنين رضي الله عنها، إذ كانت لا ترى إلا أنه الحج حتى أحرمت بعمرة ، بأمره صلى الله عليه وسلم ، وكلامها يصدق بعضه بعضاً ، وأما قولها: لبينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالحج ، فقد قال جابر عنها في الصحيحين : إنها أهلت بعمرة، وكذلك قال طاووس عنها في صحيح مسلم وكذلك قال مجاهد عنها، فلو تعارضت الروايات عنها، فرواية الصحابة أولى أن يؤخذ بها من رواية التابعين ، كيف ولا تعارض في ذلك البتة ، فإن القائل : فعلنا كذا ، يصدق ذلك منه بفعله ، وبفعل أصحاب . ومن العجب أنهم يقولون في قول ابن عمر: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج ، معناه : تمتع أصحابه ، فأضاف الفعل إليه لأمره به ، فهلا قلتم في قول عائشة: لبينا بالحج ، أن المراد به جنس الصحابة الذين لبوا بالحج ، وقولها : فعلنا، كما قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسافرنا معه ونحوه . ويتعين قطعاً إن لم تكن هذه الرواية غلطاً أن تحمل على ذلك للأحاديث الصحيحة الصريحة ، أنها كانت أحرمت بعمرة وكيف ينسب عروة في ذلك إلى الغلط ، وهو أعلم الناس بحديثها وكان يسمع منها مشافة بلا واسطة . وأما قوله في رواية حماد: حدثني غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : "دعي عمرتك " فهذا إنما يحتاج إلى تعليله ، ورده إذا خالف الروايات الثابتة عنها ، فأما إذا وافقها وصدقها، وشهد لها أنها أحرمت بعمرة، فهذا يدل على أنه محفوظ ، وأن الذي حدث به ضبطه وحفظه ، هذا مع أن حماد بن زيد انفرد بهذه الرواية المعتلة ، وهي قوله : فحدثني غير واحد ، وخالفه جماعة ، فرووه متصلاً عن عروة، عن عائشة . فلو قدر التعارض ، فالأكثرون أولى بالصواب ، فيا لله العجب ! كيف يكون تغليط أعلم الناس بحديثها وهو عروة في قوله عنها : "وكنت فيمن أهل بعمرة" سائغاً بلفظ مجمل محتمل ، ويقضى به على النص الصحيح الصريح الذي شهد له سياق القصة من وجوه متعددة قد تقدم ذكر بعضها ؟ فهؤلاء ، أربعة رووا عنها ، أنها أهل بعمرة : جابر ، وعروة ، وطاووس ، ومجاهد، فلو كانت رواية القاسم ، وعمرة ، والأسود ، معارضة لرواية هؤلاء ، لكانت روايتهم أولى بالتقديم لكثرتهم ، ولأن فيهم جابراً ، ولفضل عروة ، وعلمه بحديث خالته رضي الله عنها ، ومن العجب قوله : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرها أن تترك الطواف ، وتمضي على الحج ، توهموا لهذا أنها كانت معتمرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرها أن تدع العمرة وتنشىء إهلالاً بالحج ، فقال لها : "وأهلي بالحج " ولم يقل : "استمري عليه "، ولا امضي فيه ، وكيف يغلط راوي الأمر بالامتشاط بمجرد مخالفته لمذهب الراد؟ فأين في كتاب الله وسنة رسوله ، وإجماع الأمة ما يحرم على المحرم تسريح شعره ، ولا يسوغ تغليط الثقات لنصرة الآراء، والتقليد . والمحرم وإن أمن من تقطيع الشعر، لم يمنع من تسريح رأسه ، وإن لم يأمن من سقوط شيء من الشعر بالتسريح ، فهذا المنع منه محل نزاع واجتهاد ، والدليل يفصل بين المتنازعين فإن لم يدل كتاب ولا سنة ولا اجماع على منعه ، فهو جائز . |
بحث في المراد من العمرة التي أتت بها عائشة من التنعيم
فصل وللناس في هذه العمرة التي أتت بها عائشة من التنعيم أربعة مسالك . أحدها : أنها كانت زيادة تطييباً لقلبها وجبراً لها، وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حجها وعمرتها ، وكانت متمتعة، ثم أدخلت الحج على العمرة ، فصارت قارنة وهذا أصح الأقوال ، والأحاديث لا تدل على غيره ، وهذا مسلك الشافعي وأحمد وغيرهما . المسلك الثاني : أنها لما حاضت ، أمرها أن ترفض عمرتها، وتنتقل عنها إلى حج مفرد، فلما حلت من الحج ، أمرها أن تعتمر قضاء لعمرتها التي أحرمت بها أولاً ، وهذا مسلك أبي حنيفة ومن تبعه ، وعلى هذا القول ، فهذه العمرة كانت في حقها واجبة، ولا بد منها، وعلى القول الأول كانت جائزة، وكل متمتعة حاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف فهي على هذين القولين ، إما أن تدخل الحج على العمرة، وتصير قارنة، وإما أن تنتقل عن العمرة إلى الحج ، وتصير مفردة ، وتقضي العمرة . المسلك الثالث : أنها لما قرنت ، لم يكن بد من أن تأتي بعمرة مفردة ، لأن عمرة القارن لا تجزىء عن عمرة الإسلام ، وهذا أحد الروايتين عن أحمد . المسلك الرابع : أنها كانت منفردة، وإنما امتنعت من طواف القدوم لأجل الحيض ، واستمرت على الإفراد حتى طهرت ، وقضت الحج ، وهذه العمرة هي عمرة الإسلام ، وهذا مسلك القاضي إسماعيل بن إسحاق وغيره من المالكية ، ولا يخفى ما في هذا المسلك من الضعف ، بل هو أضعف المسالك في الحديث . وحديث عائشة هذا ، يؤخذ فه أصول عظيمة من أصول المناسك . أحدها : اكتفاء القارن بطواف واحد وسعي واحد . الثاني : سقوط طواف القدوم عن الحائض ، كما أن حديث صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أصل في سقوط طواف الوداع عنها . الثالث : أن إدخال الحج على العمرة للحائض جائز ، كما يجوز للطاهر، وأولى، لأنها معذورة محتاجة إلى ذلك . الرابع : أن الحائض تفعل أفعال الحج كلها ، إلا أنها لا تطوف بالبيت . الخامس: أن التنعيم من الحل . السادس : جواز عمرتين في سنة واحدة، بل في شهر واحد . السابع : أن المشروع في حق المتمتع اذا لم يأمن الفوات أن يدخل الحج على العمرة ، وحديث عائشة أصل فيه . الثامن : أنه أصل في العمرة المكية، وليس مع من يستحبها غيره ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر هو ولا أحد ممن حج معه من مكة خارجاً منها إلا عائشة وحدهـا ، فجعل أصحاب العمرة المكية قصة عائشة أصلاً لقولهم ، ولا دلالة لهم فيها، فإن عمرتها إما أن تكون قضاء للعمرة المرفوضة عند من يقول : إنها رفضتها ، فهي واجبة قضاء لها، أو تكون زيادة محضة، وتطييباً لقلبها عند من يقول : إنها كانت قارنة، وان طوافها وسعيها أجزأها عن حجها وعمرتها. والله أعلم . |
فصل عمرتها مجزئة عن عمرة الإسلام أم لا
فصل وأما كون عمرتها تلك مجزئة عن عمرة الإسلام ، ففيه قولان للفقهاء ، وهما روايتان عن أحمد، والذين قالوا : لا تجزىء ، قالوا : العمرة المشروعة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها نوعان لا ثالث لهما : عمرة التمتع وهي التي أذن فيها عند الميقات ، وندب إليها في أثناء الطريق ، وأوجبها على من لم يسق الهدي عند الصفا والمروة . الثانية : العمرة المفردة التي ينشأ لها سفر ، كعمره المتقدمة ، ولم يشرع عمرة مفردة غير هاتين ، وفي كلتيهما المعتمر داخل إلى مكة . وأما عمرة الخارج إلى أدنى الحل ، فلم تشرع . وأما عمرة عائشة، فكانت زيارة محضة ، وإلا فعمرة قرانها قد أجزأت عنها بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا دليل على أن عمرة القارن تجزىء عن عمرة الإسلام ، وهذا هو الصواب المقطوع به ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : "يسعك طوافك لحجك وعمرتك " وفي لفظ : "يجزئك " وفي لفظ : "يكفيك " . وقال : "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" وأمر كل من ساق الهدي أن يقرن بين الحج والعمرة، ولم يأمر أحداً ممن قرن سعه وساق الهدي بعمرة أخرى غير عمرة القران ، فصخ إجزاء عمرة القارن عن عمرة الإسلام قطعاً وبالله التوفيق . |
فصل موضع حيضها ، وموضع طهرها
فصل وأما موضع حيضها، فهوبسرف بلا ريب ، وموضع طهرها قد اختلف فيه ، فقيل : بعرفة هكذا روى مجاهد عنها وروى عروة عنها أنها أظلها يوم عرفة وهي حائض ولا تنافي بينهما، والحديثان صحيحان ، وقد حملهما ابن حزم على معنيين ، فطهر عرفة : هو الاغتسال للوقوف بها عنده ، قال : لأنها قالت : تطهرت بعرفة، والتطهر غير الطهر، قال : وقد ذكر القاسم يوم طهرها، أنه يوم النحر، وحديثه في صحيح مسلم . قال : وقد اتفق القاسم وعروة على أنها كانت يوم عرفة حائضاً، وهما أقرب الناس منها . وقد روى أبو داود : حدتنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه ، عنها : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين هلال ذي الحجة ..... فذكرت الحديث ، وفيه ، فلما كانت ليلة البطحاء، طهرت عائشة، وهذا إسناد صحيح لكن قال ابن حزم : إنه حديث منكر، مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها، وهو قوله : إنها طهرت ليلة البطحاء، وليلة البطحاء كانت بعد يوم النحر بأربع ليال ، وهذا محال إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذه اللفظة، ليست من كلام عائشة، فسقط التعلق بها، لأنها ممن دون عائشة، وهي أعلم بنفسها. قال : وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيب بن خالد ، وحماد بن زيد، فلم يذكرا هذه اللفظة . قلت : يتعين تقديم حديث حماد بن زيد ومن معه على حديث حماد بن سلمة لوجوه . أحدها : أنه أحفظ وأثبت من حماد بن سلمة . الثاني : أن حديثهم فيه إخبارها عن نفسها ، وحديثه فيه الإخبار عنها . الثالث : أن الزهري روى عن عروة عنها الحديث ، وفيه : فلم أزل حائضاً حتى كان يوم عرفة، وهذه الغاية هي التي بينها مجاهد والقاسم عنها، لكن قال مجاهد عنها : فتطهرت بعرفة، والقاسم قال : يوم النحر . |
الساعة الآن 11:10 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
][ ملاحظة: جميع المشاركات تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تمثل راي ادارة المنتدى بالضرورة، نأمل من الجميع الالتزام بقوانين الحوار المحترم ][