![]() |
حوادث سنة ثمان وثلاثين :
ثم دخلت السنة الثامنة والثلاثون : فيها : قتل محمد بن أبي بكر وأحرق . وفيها : مات سهل بن حنيف ، وصهيب الرومي . ثم دخلت السنة الأربعون . وفيها : كتب معاوية إلى علي :أما إذا شئت فلك العراق ، ولي الشام ، ونكف السيف عن هذه الأمة ، ولا نهريق دماء المسلمين. ففعل ، وتراضيا رضي الله عنهما على ذلك . وفيها : قتل علي رضي الله عنه ، قتله ابن ملجم -رجل من الخوارج- لما خرج لصلاة الصبح ، لثلاث عشرة ليلة بقيت من رمضان . فبايع الناس ابنه الحسن ، فبقي خليفة نحو سبعة أشهر ، ثم سار إلى معاوية ، فلما التقى الجمعان ، علم الحسن : أن لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى ، فصالح معاوية ، وترك الأمر له ، وبايعه على أشياء اشترطها ، فأعطاه معاوية إياها وأضعافها . وجرى مصداق ما صح "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن : إني ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". "وصح عنه أنه قال في الخوارج : يخرجون على حين فرقة من الناس ، تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق" . "وصح عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة : أنه نهى عن القتال في الفتنة ، وأخبر صلى الله عليه وسلم بوقوعها، وحذر منها ". فحصل بمجموع ما ذكرنا : أن الصواب مع سعد بن أبي وقاص، وابن عمر ، وأسامة بن زيد ، وأكثر الصحابة الذي قعدوا واعتزلوا الطائفتين . وأن علي بن أبي طالب وأصحابه : أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه . وأن الفريقين كلهم لم يخرجوا من الإيمان . وأن الذين خرجوا من الإيمان : إنما هم أهل النهروان . وأن ما فعل الحسن بن علي رضي الله عنهما : أحب إلى الله مما فعل أبوه علي ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمدحه على ترك واجب ، أو مستحب . وأجمع أهل السنة على السكوت عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم . ولا يقال فيهم إلا الحسنى ، فمن تكلم في معاوية أو غيره من الصحابة ، فقد خرج عن الإجماع ، والله سبحانه وتعالى أعلم . |
عام الجماعة
وكان هذا العام يسمى عام الجماعة ، لاجتماع المسلمين فيه على إمام واحد ، بعد الفرقة ، وهو عام إحدى وأربعين في ربيع الأول ، فاجتمعوا على معاوية رضي الله عنه ، ودعي أمير المؤمنين ، ورجع الحسن بن علي رضي الله عنهما إلى المدينة . ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين : فيها مات عمرو بن العاص رضي الله عنه بمصر ، وهو واليها . ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين : فيها مات عبد الله بن سلام رضي الله عنه . ثم دخلت سنة أربع وأربعين : فماتت فيها أم حبيبة بنت أبي سفيان ، أم المؤمنين رضي الله عنهما . ثم دخلت سنة خمس وأربعين : فماتت فيها حفصة بنت عمر ، أم المؤمنين ، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم . ثم دخلت سنة ست وأربعين : فمات فيها محمد بن مسلمة ، رضي الله عنه . ثم دخلت سنة سبع وأربعين : فمات فيها قيس بن عاصم رضي الله عنه . حوادث سنة تسع وأربعين : ثم دخلت سنة تسع وأربعين : وفيها : كانت غزوة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الروم ، حتى بلغ قسطنطينية . ومعه ابن عباس ، وابن عمر، وابن الزبير، وأبو أيوب الأنصاري . وفيها : مات الحسن بن علي ، وجويرية بنت الحارث أم المؤمنين ، وصفية بنت حيي أم المؤمنين ، وجبير بن مطعم ، وحسان بن ثابت ، ودحية بن خليفة الكلبي ، وكعب بن مالك ، وعمرو بن أمية الضمري ، وعقيل بن أبي طالب ، وعتبان بن مالك ، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم أجمعين . ثم دخلت سنة إحدى وخمسين : فمات فيها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وجرير بن عبد الله البجلي ، رضي الله عنهم . ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين : فمات فيها أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري غازياً ، ودفن عند سور القسطنطينية . وكان النصارى يستسقون بقبره رضي الله عنه، وبرأه الله من عقائد النصارى . ومات بها أبو موسى الأشعري ، وعمران بن حصين رضي الله عنهما . ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين : فمات فيها صعصعة بن ناجية الصحابي ، الذي يقال : إنه أحيا أربعمائة موؤدة في الجاهلية ، وزياد بن سمية رضي الله عنهم . ثم دخلت سنة أربع وخمسين : فماتت فيها سودة بنت زمعة أم المؤمنين ، وأبو قتادة الأنصاري ، وحكيم بن حزام رضي الله عنهم . ثم دخلت سنة خمس وخمسين : فمات فيها سعد بن مالك ، والأرقم بن أبي الأرقم -الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام مختبئاً في داره- وسحبان وائل ، البليغ الذي يضرب به المثل في الفصاحة . ثم دخلت سنة ست وخمسين : فدعا فيها معاوية الناس إلى بيعة ابنه يزيد . ثم دخلت سنة سبع وخمسين : فمات فيها عثمان بن حنيف رضي الله عنه . ثم دخلت سنة ثمان وخمسين : فمات فيها سعيد بن العاص -أحد الأجواد السبعة- وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الله بن عباس -أحد الأجواد السبعة رضي الله عنهم . حوادث سنة ستين : ثم دخلت سنة ستين : فمات فيها معاوية بن أبي سفيان ، وصح أن أبا هريرة مات قبلها بسنة ، وأنه كان يقول :اللهم إني أعوذ بك من رأس الستين، وإمارة الصبيان . واستخلف معاوية ابنه يزيد ، فجرت الفتنة الثانية . ولم تزل الفتنة قائمة سنين ، حتى اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان . فأول ما جرى في أيام يزيد : مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما وأهل بيته في يوم عاشوراء سنة إحدى وستين . ثم بعدها : جرت وقعة الحرة العظيمة بالمدينة ، قتلوا أهلها ، وأباحوها ثلاثة أيام . ثم بعد ذلك : توجهوا إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، فحاصروها ، فلم يزالوا محاصريها حتى بلغهم موت يزيد، فلما مات يزيد افترق الناس افتراقاً كثيراً ، كما قيل : وتشعبوا شعباً بكل جزيرة فيها أمير المؤمنين ومنبر وثبت مروان بالشام ، وخرج المختار بن أبي عبيد الثقفي المبيد المفسد بالعراق ، ونجدة بن عويمر باليمامة . والمشهور بأمير المؤمنين في هذه السنين : عبد الله بن الزبير بمكة ، وبايع له أكثر الناس . فلما مات مروان تولى بعده ابنه عبد الملك سنة خمس وستين . ولما تولى تصدى لحرب عبد الله بن الزبير ، فجرى بينهما ما يطول ذكره ، وآخره : أنه وجه لقتال ابن الزبير جيشاً عليهم الحجاج بن يوسف الثقفي ، فحصره بمكة، ثم قتله رضي الله عنه ، سنة ثلاث وسبعين . فاجتمع الناس بعده على عبد الملك بن مروان ، فلم يزل والياً كذلك إلى سنة ست وثمانين ، فمات واستخلف ولده الوليد . فبقي في الخلافة سبع سنين وأشهراً . وفي أيامه مات أنس بن مالك رضي الله عنه ، والحجاج بن يوسف . ثم ولي بعده أخوه سليمان بن عبد الملك . فبقي سنتين وأشهراً . واستخلف عمر بن عبد العزيز ، فبايعه الناس سنة تسع وتسعين في صفر . فسار رحمه الله سيرة الخلفاء الراشدين . وأحيا السنن وأمات البدع . وبقي في الخلافة رشيداً مهدياً سنتين وأشهراً ، ومات في رجب سنة إحدى ومائة . ومات في أيامه ابنه عبد الملك ، وكان يشبه أباه رحمهما الله . ثم تولى بعده : يزيد بن عبد الملك ، بقي أربع سنين وشهراً واحداً . وتوفي سنة خمس ومائة . ثم تولى بعده : أخوه هشام بن عبد الملك ، فبقي تسع عشرة سنة وأشهراً. وفي خلافته ظهر الجعد بن درهم ، أول من قال بخلق القرآن ، وأظهره في دمشق . فطلبه بنو أميه ، فهرب منهم إلى الكوفة . فلما أظهر قوله هناك : أخذه خالد بن عبد الله القسري ، قتله يوم عيد الأضحى من سنة أربع وعشرين ومائة . خطب الناس ، فقال : أيها الناس ضحوا ، تقبل الله ضحاياكم . فإني مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم : أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ، ولم يكلم موسى تكليماً ، تعالى الله عما قال الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر . وتوفي هشام بن عبد الملك سنة خمس وعشرين ومائة . ثم تولى بعده : ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، فبقي سنة أو أقل أو أكثر ، ثم قتل سنة ست وعشرين ومائة . ثم تولى بعده : ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك ، فبقي خمسة أشهر . وتوفي في ذي القعدة -أو في أول ذي الحجة- من سنة ست وعشرين ومائة . وبعده انقضت الخلافة التامة . ولم تجتمع الأمة بعده على إمام واحد إلى اليوم . وهو آخر الخلفاء الاثني عشر ، الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : :"لا يزال أمر هذه الأمة عزيزاً ، ينصرون على من ناوأهم إلى اثني عشر خليفة ، كلهم من قريش" . وفي لفظ لمسلم : "إن هذا الأمر لا ينقض ، حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة" . وعند البزار : "لا يزال أمر أمتي قائماً ، حتى يمضي اثنا عشر خليفة" . وفي لفظ : "لا يزال الإسلام عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة" . وعند أبي داود : "قالوا : ثم يكون ماذا ؟ قال : ثم يكون الهرج" . فلما مات يزيد : طلب الأمر أخوه إبراهيم ، فبايعه أخوه ، ولم ينتظم له أمر . فطلب الأمر مروان بن محمد بن مروان -الذي يقال له مروان الحمار- فبايعه بعض الناس في صفر سنة سبع وعشرين ومائة . ولم يزل في حروب وتخبيط إلى آخر سنة اثنتي وثلاثين ومائة -يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة- فقتل في كنيسة أبي صير . وكانت مدة خلافته : خمس سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام ، وهو آخر من ولي الخلافة من بني أمية . |
دولة بني العباس :
ثم قامت دولة بني العباس . وفي هذه السنين : وقعت الفتنة الثالثة التي لم يرفع الخرق بعدها إلى اليوم . فأول من قام من بني العباس : السفاح ، واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، فبقي نحو ست سنين ثم مات . وعهد إلى أخيه المعروف بالمنصور ، فبقي فيها اثنتين وعشرين سنة . ثم توفي وعهد إلى ابنه المعروف بالمهدي ، فبقي نحو عشر سنين ، ثم مات . وقام بعده ابنه موسى ، المسمى بالهادي ، فبقي سنة وشهراً ، ثم توفي . وقام بعده أخوه هارون ، المسمى بالرشيد ، فبقي أكثر من عشرين سنة ، ثم مات . وقام بعده ابنه المسمى بالأمين -وأمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور- وبقي نحو ثلاث سنين ، ثم قتله عسكر أخيه المأمون . وقام بعده : المأمون ، وهو الذي جر على المسلمين كثيراً من الفتن في العقائد . فترجم كتب اليونان في الفلسفة . وأظهر القول بخلق القرآن وألزم الناس القول به وامتحن الإمام أحمد وغيره من الأئمة رحمهم الله في ذلك . |
بدء تأليف الكتب :
وفي أيام عمر بن عبد العزيز : كتب إلى أبي بكر بن حزم بالمدينة : أنظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعه ، فإني خفت دروس العلم ، وذهاب العلماء . وفي أيام المنصور : شرع العلماء في تصنيف كتب التفسير والحديث ، فصنف ابن جريج بمكة ، ومالك بن أنس بالمدينة ، وابن عمرو الأوزاعي بالشام ، وحماد بن سلمة بالبصرة ، وسفيان الثوري بالكوفة ، ومعمر بن المثنى باليمن . وصنف محمد بن إسحاق المغازي ، وصنف أبو حنيفة النعمان بن ثابت الرأي . وقبل هذا : كان الأئمة يتكلمون من حفظهم ، ويروون العلم صحفاً غير مرتبة ، والله سبحانه وتعالى أعلم . والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم المرسلين محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين . وكان الفراغ من نسخ هذا الكتاب الشريف يوم الأربعاء ، لإحدى عشرة خلت من شهر رجب سنة 1309 على يد الفقير إلى ربه . سليمان بن سحمان ، غفر الله له ولوالديه وللمسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات . |
=
= = ((( أعلام النبوة ))) = = = = |
في مقدمة الأدلة
و الأدلة ما أوصلت إلى العلوم بالمدلول عليه ، و الدليل معلوم بالعقل ، و الدليل عليه معلوم بالدليل ، فيكون العقل موصلاً إلى الدليل و ليس بدليل ، لأن العقل أصل كل معلوم من دليل و مدلول عليه ، و لذلك سمي أم العلم ، فصار العقل مستدلاً و إن لم يكن دليلاً . و العلم الحادث عنه ما تميز به الحق من الباطل ، و الصحيح من الفاسد ، و الممكن من الممتنع . و هو على ضربين : علم اضطرار و علم اكتساب . علم الاضطرار : فأما علم الاضطرار فهو ما أدرك ببداهة العقول . وهو نوعان : حسن ظاهر و خبر متواتر ، و علم الحس متأخر عن العقل ، و علم الخبر متقدم عليه ، و لا يفتقر علم الاضطرار إلى نظر و استدلال لإدراكه ببديهة العقل ، و يشترك فيه الخاصة و العامة ، و لا يتوجه إليه جحد و لا تحسن المطالبة فيه بدليل لأنه غاية لتناهي النظر . علم الاكتساب : و أما علم الاكتساب فطريقة النظر و الاستدلال : لأنه غير مدرك ببديهة العقل فصح أن يتوجه إليه الاعتراض فيه بطلب الدليل عليه ، فلذلك لم يتوصل إليه إلا بالنظر و الاستدلال و هو على ضربين : أحدهما : ما كان من قضايا العقول . و الثاني : ما كان من أحكام السمع . قضايا العقول : فأما قضايا العقول فضربان أحدهما : ما علم استدلالاً بضرورة العقل ، و الثاني : ماعلم استدلالاً بدليل العقل ، فأما المعلوم بضرورة العقل فهو ما لا يجوز أن يكون على خلاف ما هو به كالتوحيد فيوجب العلم الضروري و إن كان عن استدلال للوصول إليه بضرورة العقل ، و أما المعلوم بدليل العقل فهو ما يجوز أن يكون على خلاف ما هو به كأحد الأنبياء إذا ادعى النبوة ، فيوجب علم الاستدلال و لا يوجب علم الاضطرار لحدوثه عن دليل العقل لا عن ضرورته . ثبوت النبوات : و اختلف في أصل النبوات على العموم هل يعلم بضرورة العقل أو بدليله على اختلافهم في التعبد بالشرائع هل اقترن بالعقل أو بعقبه فذهب من جعله مقترناً بالعقل إلى إثبات عموم النبوات بضرورة العقل . و ذهب من جعله متأخراً عن العقل إلى إثباتها بدليل العقل . و ذهب أصحاب الإلهام إلى إسقاط الاستدلال بقضايا العقول و جعلوا إثبات المعارف بالإلهام أصلاً يغني عن أصل و هذا فاسد بقول الله تعالى : " فاعتبروا يا أولي الأبصار " فجعله بالاعتبار مدركاً دون الإلهام ، يقال لمن أثبت المعارف بالإلهام لم قلت بالإلهام فإنه استدلال ناقص قال قلته بالإلهام قيل له انفصل عمن أسقط الإلهام بالإلهام و عمن قال في الإلهام بغير إلهامك في جميع أقوالك فلا تجد فصلاً و كفى في ذلك فساداً .فإذا ثبت أن كلا الضربين مدرك بقضية العقل فيما علم بضرورته من التوحيد أو بدليله من النبوة صار بعد العلم به واجباً . وجوب الإيمان بالأنبياء : و اختلف في وجوبه هل و جب بما صار معلوماً به من قضية العقل أو بالسمع ؟ فذهب قوم إلى وجوب التوحيد و النبوة بالعقل كما علم بالعقل ، و يكون التوحيد و عموم النبوات قبل السمع فرضاً . و ذهب آخرون إلى وجوبهما بالسمع و إن علما بالعقل ، لأن الوجوب تعبد لا يثبت إلا بالسمع ، و اختلف من قال بهذا في وجوب ورود السمع به فأوجبه بعضهم و لم يوجبه آخرون منهم ، و أسقطوا فرض التوحيد عن العقلاء إذا لم يرد سمع بإيجابه . و ذهب آخرون إلى أن ما علم بضرورة العقل من التوحيد واجب بالعقل و ما علم بدليل العقل من النبوة واجب بالسمع لأن التوحيد أصل و النبوة فرع والاجتهاد فيهما فرض على أعيان ذوي العقول إذا اقترن بكمال عقله قوة الفطنة و صحة الروية ، فيستغني بكمال عقله و صحة رويته عن تنبيه ذوي العقول الوافرة ليصل باجتهاد عقله من اضطرار أو استدلال إلى قضايا العقول ليصير عالماً بها و مستغنياً عن عقل غيره فيها . و إن ضعفت فطنته و قلت رويته لزمه أن يتنبه بذوي العقول على الوصول إليها بعقله لا بعقولهم فيعلمها بالتنبيه كما علمها غيره بالنظر ، و إن لم يصل إليها بالتنبيه فليس بكامل العقل ، و يصير تبعاً لذوي العقول لأن عدم الموجب دال على سقوط الموجب . ما هو العقل : و العقل : هو ما أفاد العلم بموجباته ، و قيل : بل هو قوة التمييز بين الحق و الباطل ، و قيل : هو العلم بخفيات الأمور التي لا يوصل إليها إلا بالاستدلال و النظر ، و هو ضربان : غريزي هو أصل ، و مكتسي هو فرع . فأما الغريزي فهو الذي يتعلق به التكليف و يلزم به التعبد ، و أما المكتسب فهو الذي يؤدي إلى صحة الاجتهاد و قوة النظر ، و يمتنع أن يتجرد المكتسب عن الغريزي و لا يمتنع أن يتجرد الغريزي عن المكتسب لأن الغريزي أصل يصح قيامه بذاته و المكتسب فرع لا يصح قيامه إلا بأصله . و من الناس من امتنع من تسمية المكتسب عقلاً لأنه من نتائجه ، و لا اعتبار بالنزاع في التسمية إذا كان المعنى مسلماً . الإيمان بالسمع : و أما أحكام السمع فمأخوذة عمن يلزم طاعته من الرسل ، و العقل مشروط في التزامها ، و إن لم يكن السمع مشروطاً في قضايا العقول و ما يتضمنه السمع نوعان : تعبد و إنذار . فالتعبد الأوامر و النواهي و الإنذار الوعد و الوعيد ، فإن حمع الرسول بين التعبد و الإنذار ، فهو الشرع الكامل المغني عن غيره ، و إن انفرد بالتعبد دون الإنذار فإن تقدمه إنذار غيره كمل الشرع بتعبده و إنذاره من تقدمه ، و إن لم يتقدمه إنذار من غيره إما في مبادئ النبوات أو في من لم تبلغهم دعوة الأنبياء . هل تقتضي العقول الثواب ؟ فقد اختلف في قضايا العقول هل تقتضي الثواب على الطاعة و العقاب على المعصية ؟ فذهب فريق إلى اقتضائهما لذلك فعلى هذا يكون شرعاً كمل بتعبد الرسول و إنذار العقول . و ذهب فريق إلى أن قضايا العقول لا تقتضي ثواباً و لا عقاباً فعلى هذا اختلف في التعبد هل يكون مستحقاً على ما تقدم من نعم الله تعالى على خلقه أو لجزاء مستقبل ؟ فذهب فريق إلى استحقاقه بسابق النعمة ، فإن وعد الله تعالى ثواباً عليه كان تفضلاً منه يستحق بالوعد دون التعبد ، فعلى هذا يكون التعبد فرضاً مستحقاً يقتضي تركه عقاباً و إن لم يقتض فعله ثواباً . و ذهب آخرون إلى استحقاقه بما يقابله من الجزاء بالثواب عليه ، و ما تقدم من النعمة تفضل منه ، فعلى هذا يكون التزام التعبد مستحباً ، و ليس بمستحق ، فلا يلزم على تركه عقاب كما لم يستحق على فعله ثواب لأنه لم يقترن به وعد بثواب يوجب التزام التعبد . و إن انفرد الرسول بالإنذار دون التعبد فالإنذار لا يكون إلا على فعل و إلا كان عبثاً لا يصدر عن كليم ، فإن كان إنذاره على شرع تقدمه تضمن إنذاره إثبات ذلك الشرع و كان هذا المنذر من أمة ذلك المتعبد ، و إن كان المتعبد قد أنذر كان هذا الإنذار تأكيداً و لم يحتج هذا المنذر إلى إظهار معجز ، و إن لم يكن المتعبد قد أنذر تكامل شرع المتعبد بإنذار المتأخر و تكامل إنذار المتأخر بتعبد المتقدم و احتاج هذا المنذر إلى إظهار معجز إلى إنذاره موجب لكمال الشرع ، و إن أنذر المتأخر على فعل الخير و اجتناب الشر خرج عن حكم الشرع إلى الوعظ و الزجر بأمر إلهي يستحق له بسط اليد في الإنكار و استيفاء ما تضمنه الإنذار . |
في معرفة الإله المعبود
لا يصح التعبد ببعثة الرسل إلا بعد معرفة المعبود المرسل ليعلم أنهم رسل مطاع معبود فيطاعوا لفرض طاعة المعبود ، و المعبود هو الله عز و جل المنعم على عباده بما كلفهم من عبادته و افترض عليهم من طاعته بعد النعمة عليهم بخلق ذواتهم ، و الإرشاد إلى مصالحهم ، و استودعهم علم اضطرار يدرك ببداية العقول ، و علم اكتساب يدرك بالفكر و النظر . و لما كانوا محجوبين عن ذاته لم يدركوه ببداية الحواس اضطراراً ، و قد ظهر من إظهار آثار صنعته و إتقان حكمته ما يوصل إلى معرفة ذاته و صفاته اكتساباً لإدراكها بالاعتبار و النظر . و لو شاء لخلق ما يدرك ببداية الحواس ، لكن معرفته بالاستدلال أبلغ في الحكمة لظهور التباين في الرتبة فلذلك ما امتنع الوصول إلى معرفته اضطراراً و وصل إليها استدلالاً و اكتساباً يخرج عن بداية العقول إلى استدلال معقول . و الذي يؤدي إلى معرفته جل جلاله ثلاثة فصول : أحدهما : أن العالم محدث و ليس بقديم . و الثاني : ان للعالم محدثاً قديماً . و الثالث : أنه واحد لا شريك له . حدوث العالم : فأما الفصل الأول في حدوث العالم ، فالمحدث ما كان له أول و القديم ما لا أول له . و الدليل على حدوث العالم شيئان : أحدهما : أن العالم جواهر ، و أجسام لا تنفك عن أعراض محدثة من اجتماع و افتراق و حركة و سكون ، و إنما كانت الأعراض محدثة لأمرين : أحدهما : أنه لا يصح قيامها بذواتها ، و الثاني : لوجودها بعد عدمها و زوالها بعد وجودها ، و ما لم ينفك عن الأعراض المحدثة لم يسبقها ، لأنه لو سبقها لكان لا مجتمعاً و لا مفترقاً و لا متحركاً و لا ساكناً و هذا مستحيل فاستحال سبقه و ما لم يسبق المحدث فهو محدث . فإن قيل : فليس يستنكر أن تكون الحوادث الماضية لا أول لها فلم يلزم حدوث العالم . قيل : إذا كان لكل واحد من الحوادث أول استحالة أن لا يكون لجميعها أول لأنها ليست غير آحادها فصارت جميعها محدثة لأنها ذوات أوائل محدثة . و الدليل الثاني على حدوث العالم : وجوده محدوداً متناهي الأجزاء و الأبعاد ، و ما تناهت أجزاؤه و أمكن توهم الزيادة عليه و النقصان منه كان تقديره على ما هو به دليلاً على أن غيره قدره ، إذ ليس كون ذاته على صفة بأولى من كونه على غيرها لولا تدبر غيره لها . فإن قيل : فلم لا كانت طينته قديمة و أعراض تركيبه و تصويره حادثة كأفعال الله تعالى حادثة عن ذاته القديمة . قيل : لأن حدوث أعراضه فيه وهو لا ينفك منها فصار محدثاً بها ، و أفعال الله تعالى حادثة في غيره فلم يمنع حدوثها من قدمه ، و لو حدثت فيه لمنعت من قدمه . محدث العالم قديم : و أما الفصل الثاني ، أن للعالم محدثاً قديماً فالدليل على أن له محدثاً قديماً شيئان أحدهما : أنه لما استحال أن يكون للعالم محدثأ لذاته لإفضائه إلى وجوده قبل حدثه دل على أن محدثه غيره . و الثاني : أن وجود ما لم يكن يوجب أن يقتضي موجداً كما اقتضى المبني بانياً و المصنوع صانعاً و الدليل على قدم محدثه شيئان أحدهما : أنه لا أول له و ما لا أول له قديم . و الثاني : أنه لو لم يكن قديماً لاحتاج محدثه إلى محدث و لا تنتهي إلى ما لا غاية له فامتنع و ثبت قدمه أنه لم يزل و لا يزال فلم يكن له أول و لا يكون له آخر و إذا كان محدثه قديماً وجب أن يكون قادراً مريداً . و الدليل على قدرته أنه يصح نه أن يفعل و لا يفعل مع انتفاء الموانع و قد فعل فدل وجود الفعل منه على قدرته عليه و الدليل على أنه مريد أنه لما وجد منه الفعل و هو غير ساه و لا مكره و لا عابث لانتفاء السهو عنه بعلمه و انتفاء الإكراه عنه بحكمته دل على إرادته كما كانت كتابة الكاتب مع انتفاء هذه العوارض دليلاً على إرادة كتابته فصار إحداثه للعالم دليلاً على قدمه و حدوث أفعاله و قدمه يوجب أن يكون صفات ذاته قديمة لقدمه و حدوث أفعاله يوجب أن تكون صفات أفعاله محدثة . المحدث واحد لا شريك له : و أما الفصل الثالث : أنه واحد لا شريك له و لا مثل . فالدليل عليه شيئان : أحدهما : أن عموم قدرته شامل لجميع المحدثات ، فوجب أن يكون محدث بعضها محدثاً لجميعها ، إذ ليس بعضها بأخص بقدرته من بعض فأوجب تكافؤ الأمرين عموم الجميع . و الثاني : أنه لو كان معه غيره لم يخل أن يكون مماثلاً أو مخالفاً ، فإن خالفه بطل أن يكون قادراً ، و إن ماثله استحال وجود إحداث و احد من محدثين كما استحال و جود حركة واحدة من متحركين . زعم من أشرك : و ذهب الثنوية من المتباينة إلى إثبات قديمين هما عندهم : نور و ظلمة يحدث الخير عن النور و الشر عن الظلمة ، و هذا فاسد من و جهين : أحدهما : أن النور و الظلمة لا ينفكان أن يكونا جسماً أو جوهراً أو عرضاً و جميعها محدثة ، فدل على حدوثهما . و الثاني : أن الظلمة ليست بذات و إنما هي فقد النور عما يقبل النور ، و لهذا إذا فقدنا النور في الهواء تصورناه مظلماً ، فلم يجز أن يرصف بقدم و لا يضاف إليها فعل . و ذهب المجوس إلى أن الله تعالى و الشيطان فاعلان ، فالله تعالى فاعل الخير و خالق الحيوان النافع . و الشيطان فاعل الشر و خالق الحيوان الضار . قالوا : لأن فاعل الشر شرير ، و يتعالى الله عن هذه الصفة . و جعلوا الله تعالى جسماً و إن كان قديماً . و اختلفوا في قدم الشيطان فقال به بعضهم ، و امتنع من قدمه زرادشت و أكثرهم . و اختلفوا في علة حدوثه ، فزعم زرادشت أن الله تعالى استوحش ففكر فكرة رديئة فتولد منها أهرمن و هو إبليس . و قال غيره بل شك فتولد الشيطان من شكه . و قال آخرون بل حدث عفن فتولد الشيطان من عفنه ، و هذه أقاويل تدفعها العقول . أما جعلهم الله تعالى جسماً : فدليلنا على حدوث الأجسام يمنع أن يكون الله تعالى مع قدمه جسماً : و دليلنا على الثنوية يمنع أن يكون الشيطان معه ثانياً . و إثبات قدرته يمنع أن يكون مغلوباً . و علمه يمنع أن يكون شاكاً أو مفكراً . و انتفاء الحزن عنه يمنع أن يكون مستوحشاً ، و امتناع الفساد عليه يمنع أن يكون عفناً ، و قولهم : إن فاعل الشر شرير قيل خروجه عن قدرته مثبت لعجزه فوجب أن يدخل في عموم قدرته . دين النصارى : فأما النصارى فقد كانوا قبل أن تنصر قسطنطين الملك على دين صحيح في توحيد الله تعالى و نبوة عيسى عليه السلام ، ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصر قسطنطين ، و هو أول من تنصر من ملوك الروم ، فقال أوائل النسطورية إن عيسى هو الله ، و قال أوائل اليعاقبة إنه ابن الله ، و قال أوائل الملكانية إن الآلهة ثلاثة أحدهم عيسى ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر حين استنكرته النفوس و دفعته العقول فقالوا : إن الله تعالى جوهر واحد هو ثلاثة أقانيم : أقنوم الأب و أقنوم الابن و أقنوم روح القدس ، و إنها واحدة في الجوهرية و ان أقنوم الأب الذات و أقنوم الابن هو الكلمة و أقنوم روح القدس هو الحياة . الأقانيم عند النصارى : و اختلفوا في الأقانيم . فقال بعضهم : هي خواص ، و قال بعضهم هي أشخاص . و قال بعضهم : هي صفات ، و قالوا : إن الكلمة اتحدت بعيسى . و اختلفوا في الاتحاد . فقال النسطوريه : معنى الاتحاد أن الكلمة ظهرت حتى جعلته هيكلاً و أن المسيح جوهران أقنومان أحدهما إآلهي و الآخر إنساني ، فلذلك صح منه الأفعال الإلهية من اختراع الأجسام و إحياء الموتى ، و الأفعال الإنسانية من الأكل و الشرب . و قال اليعاقبة : الاتحاد هو الممازجة حتى صار منها شيء ثالث نزل من السماء و تجسد من روح القدس و صار إنساناً هو المسيح ، و هو جوهر من جوهرين ، و أقنوم من أقنومين ، جوهر لاهوتي و جوهر ناسوتي . و قال الملكانية المسيح جوهران : أقنوم واحد و ليس لهذه المذاهب شبهة تقبلهاالعقول و فسادها ظاهر في المعقول . الرد على النصارى : أما قولهم : إن الله تعالى جوهر فقد دللنا على حدوث الجواهر فاستحال أن يكون القديم جوهراً . و أما قولهم : إنه ثلاثة أقانيم فإن جعلوها أشخاصاً ، و قالوا بالتثليث و امتنعوا من التوحيد ، و قد دللنا على أن القديم واحد . و إن جعلوا الأقانيم خواص و صفات لذات واحدة فقد جعلوه أباً و ابناً من جوهر أبيه ، فشركوا بينهما في الجوهر الإآلهي و فضلوه على الأب بالجوهر الإنساني ، فلم يكن مع اشتراكهما في الجوهر الإآلهي أن يتولد من الأب بأولى أن يتولد منه الأب مع تفضيله بالجوهر الإنساني ، وكيف يكون قديماً ما تولد عن قديم ؟ و إنما ظهرت منه الأفعال الإآلهية لأنها من قبل الله تعالى إظهاراً لمعجزته ، و ليست من فعله : كفلق البحر لموسى عليه السلام و ليس ذلك من إآلهية موسى . و قولهم جوهر لاهوتي و جوهر ناسوتي فناسوت المسيح كناسوت غيره من الأنبياء و قد زال ناسوته فبطل لاهوته . معنى الوحدانية : فإذا ثبت أن الله تعالى واحد قديم فقد اختلف في معنى وحدانيته ، فقالت طائفة : المراد بأنه واحد : أن جميع المحدثات منسوبة إلى قدرة واحدة أحدث القادر بها جميع المحدثات . و قالت طائفة أخرى : المراد به نفي القسمة عن ذاته ، و استحال التبغض و التجزئة في صفته . و قال الجمهور : ـ و هو المذهب المشهور ـ : إنه واحد الذات قديم الصفات ، تفرد بالقدم عن شريك مماثل ، و اختص بالقدرة عن فاعل معادل ، لا شبه لذاته تنتفي عنه الحوادث و الأعراض و لا تناله المنافع و المضار ، ولا ينعت بكل و لا بعض ، و لا يوصف بمكان يحل فيه أو يخلو منه ، لحدوث الأمكنة استحالة التجزئة : " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " كما وصف نفسه في كتابه و دلت عليه آثار صنعته و إتقان حكمته . و قد سئل علي بن أبي طالب كرم الله تعالى و جهه عن العدل و التوحيد فقال : [ التوحيد أن لا تتوهمه و العدل أن لا تتهمه ] ففصح بما بهر إيجازه و قهر إعجازه . و قد لحظ دلائل التوحيد من السعداء من قال : أيا عجباً كيف يعصي الإله أم كيف يجحده جاحد و في كل شيء له شاهد دليل على أنه واحد |
الباب الثالث ـ في صحة التكليف
معنى التكليف : التكليف هو إلزام ما ورد به الشرع تعبداً و هو نوعان : أحدهما : ما تعلق بحقه من أمر بطاعة و نهي عن معصية . و الثاني : ما تعلق بحقوق عباده من تقدير الحقوق و تقرير العقود ليكونوا مدبرين بشرع مسموع و منقادين لدين متبوع ، فلا تختلف فيه الآراء و لا تتبع فيه الأهواء ، و ليعلموا به ابتداء النشأة و انتهاء الرجعة فتصلح به سرائرهم الباطنة له ، و تخشع له قلوبهم القاسية ، و تجتمع به كلمتهم المتفرقة ، و تتفق عليه أحوالهم المختلفة ، و يسقط به تنازعهم في الحقوق المتجاذبة و يكونوا على رغب في الثواب يبعثهم على الخير ، و رهب من العقاب يكفهم عن الشر . و هذه أمور لا يصلح الخلق إلا عليها ، ولا يوصل بغير الدين المشروع إليها ، إذ ليس في طباع البشر أن يتفقوا على مصالحهم من غير وازع ، ولا يتناصفوا في الحقوق من غير دافع ، لحرصهم على اختلاف المنافع ، وبهذا يفسد ما ذهبت إليه البراهمة من الاقتصار على قضايا العقول و إبطال التعبد بشرائع الرسل . فالتكليف حسن في العقول إذا توجه إلى من علمت طاعته ، و اختلف في حسنه إذا توجه إلى من علمت معصيته ، و استحسنه المعتزلة لأن فيه تعريضاً للثواب ، و لم يستحسنه الأشعرية لأنه بالمعصية معرض للعقاب ، و الأول أشبه بمذهب الفقهاء و إن لم يعرف لهم فيه قول يحكى . التكليف بالأصلح : و اختلف في التكليف هل يكون معتبراً بالأصلح . فالذي عليه أكثر الفقهاء : أنه معتبر بالأصلح لأن المقصود به منفعة العباد . و ذهب فريق من الفقهاء و المتكلمين إلى أنه موقوف على مشيئة الله تعالى من مصلحة و غيرها لأنه مالك لجميعها . فمن اعتبر الأصلح منع من تكليف ما لايطاق ومن اعتبره بالمشيئة جوز تكليف ما لا يطاق . و يصح تكليف ما لحقت فيه المشقة المحتملة . و اختلف في صحة التكليف فيما لا مشقة فيه فجوزها الفقهاء و منع منها بعض المتكلمين . و قد ورد التعبد بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة و ليس فيه مشقة ، و إذا اعتبر التكليف بالاستطاعة لم يتوجه إلى ما خرج عن الاستطاعة . و اختلف في المانع منه فقال فريق : منع منه العقل لامتناعه فيه . و قال فريق : منع منه الشرع و إن لم يمنع منه العقل بقواه تعالى : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " . وجوب التكليف : فإذا تقرر شروط التكليف مع كونه حسناً ، فقد اختلف في وجوبه ، فأوجبه من اعتبر الأصلح و جعله مقترناً بالعقل لأنه من حقوق حكمته ، و لم يوجبه من حمله على الإرادة ، لأن الواجب يقتضي علو الموجب و هذا منتف عن الله تعالى ، و اختلف من قال بهذا في تقدم العقل على الشرع . فقال فريق : يجوز أن يقترن بالعقل ، و يجوز أن يتأخر عنه بحسب الإرادة ، و لا يجوز أن يتقدم على العقل لأن العقل شرط في لزوم التكليف . و قال فريق : بل يجب أن يكون التكليف وارداً بعد كمال العقل و لا يقترن به كما يتقدم عليه لقوله الله تعالى : " أيحسب الإنسان أن يترك سدى " و هذه صفة متوجهة إليه بعد كمال عقله . التكليف الشرعي : و قد استقر بما قدمناه أن التكليف الشرعي ما تضمنه الأوامر و النواهي في حقوق الله تعالى و حقوق عباده . و المأمور به ضربان : واجب و ندب . فالواجب ما وجب أن يفعل ، والندب ما الأولى أن يفعل . و المنهي عنه ضربان : مكروه و محظور ، فالمحظور ما وجب تركه ، والمكروه ما الأولى تركه . فأما المباح فما استوى فعله و تركه فلا يجب أن يفعل و لا الأولى أن يفعل و لا يجب أن يترك و لا الأولى أن يترك . و اختلف في دخول المباح في التكليف . فذهب بعض أصحاب الشافعي رحمه الله إلى دخوله في التكليف ، و اختلف قائل هذا هل دخل فيه بإذن أو بأمر على وجهين . أحدهما : بإذن ليخرج حكم الندب ، والثاني : بأمر دون أمر الندب كما أن أمر الندب دون أمر الواجب . و ذهب آخرون من أصحاب الشافعي رحمه الله إلى خروجه من التكليف بإذن أو أمر لاختصاص التكليف بما تضمنه ثواب أوعقاب ، و اتفقوا في المباح أنه لا يستحق عليه حمد و لا ذم ، و يخرج عن القبيح ، و اختلفوا في دخوله في الحسن فادخله بعضهم فيه و أخرجه بعضهم منه . التكليف والإرادة : و الأمربالتكليف هو استدعاء الطاعة بالانقياد للفعل ، و اختلفوا في اقتران الإرادة به هل يكون شرطاً في صحته ؟ فذهب الأشعري إلى أن الإرادة غير معتبرة فيه و يجوز أن يأمر بما لا يريده و لا يكون أمراً كالذي يريده ، و ذهب المعتزلة إلى أنه لا يكون أمراً إلا بالإرادة فإن لم تعلم إرادته لم يكن أمراً . و اختلفوا هل تعتبر إرادة الأفراد إرادة المأمور به ، فاعتبر بعضهم إرادة الأمر المنطوق به ، و اعتبر آخرون منهم إرادة الفعل المأمور به . و الذي عليه جمهور الفقهاء أن الأمر دليل على الإرادة و ليست الإرادة شرطاً في صحة الأمر و إن كانت موجودة مع الأمر فيستدل بالأمر على الإرادة و لا يستدل بالإرادة على الأمر . هل صحة الأمر موافقة العقل ؟ و من صحة الأمر أن يكون بما لا يمنع منه العقل ، فإن منه العقل لم يصح الأمر به لخروج التكليف عن محظورات العقول . و اختلف هل يعتبر صحته بحسنه في العقل ؟ فاعتبره فريق و أسقطه فربق ، و إذا لم يكن يستوعب نصوص الشرع قضايا العقول كلها جاز العمل بمقتضى العقل فيها . و اختلف في إلحاقها بأحكام الشرع ، فألحقها فريق بها و جعلها داخلة فيها لأن الشرع لا يخرج عن مقتضاها ، و أخرجها فريق منها وإن جاز العمل بها كالمشروع لأن الشرع مسموع و العقل متبوع . الأمر يكون بالقول : و الأمر يكون بالقول أو ما قام مقام القول إذا عقل منه معنى الأمر ، واختلف فيه متى يكون أمراً . فذهب جمهور الفقهاء و المتكلمين إلى أنه يكون أمراً وقت القول و يتقدم على الفعل . و ذهب شاذ من الفقهاء و المتكلمين إلى أنه يكون أمراً وقت الفعل ، و ما تقدمه من القول إعلام بالأمر و ليس بأمر و هذا فاسد ، لأن الفعل يجب بالأمر فلو لم يكن ما تقدمه أمراً لاحتاج مع الفعل إلى تجديد أمر . أمر الإعلام و أمر الإلزام : و الأمر ضربان : أمر إعلام و أمر إلزام . فأما أمر الإعلام فمختص بالاعتقاد دون الفعل ، ويجب أن يتقدم الأمر على الاعتقاد بزمان واحد و هو وقت العلم به . و أما أمر الإلزام فمتوجه إلى الاعتقاد و الفعل ، فيجمع بين اعتقاد الوجوب و إيجاد الفعل ، و لا يجزئه الاقتصار على أحدهما ، فإن فعله قبل اعتقاد وجوبه لم تجزه و إن اعتقد وجوبه ولم يفعله كان مأخوذاً به . و لا يلزم تجديد الاعتقاد عند فعله إذا كان على ما تقدم من اعتقاده ، لأن الاعتقاد تعبد التزام ، و الفعل تأدية مستحق ويجب أن يتقدم الأمر على الفعل بزمان الاعتقاد . و اختلف في اعتبار تقديمه بزمان التأهب للفعل على مذهبين أحدهما : و هو قول شاذ من الفقهاء يجب تقديمه على الفعل بزمانين أحدهما : زمان الاعتقاد ، و الثاني : زمان التأهب للفعل و به قال من المتكلمين من اعتبر القدرة قبل الفعل . و المذهب الثاني : و هو قول جمهور الفقهاء يعتبر تقديم الأمر على الفعل بزمان الاعتقاد وحده ، و التأهب للفعل شروع فيه فلم يعتبر تقدمه عليه ، وبه قال من المتكلمين من اعتبر القدرة مع الفعل . |
الباب الربع ـ في إثبات النبوات
حاجة الناس إلى الرسل : و الأنبياء هم رسل الله تعالى إلى عباده بأوامر و نواهيه زيادة على ما اقتضته العقول من واجباتها و إلزاماً لما جوزته من مباحاتها لما أراده الله من كرامة العاقل و تشريف أفعاله و استقامة أحواله و انتظام مصالحه ، حين هيأه للحكمة و طبعه على المعرفة ، ليجعله حكيماً و بالعواقب عليماً ، لأن الناس بنظرهم لا يدركون مصالحهم بأنفسهم ، و لا يشعرون لعواقب أمورهم بغرائزهم ، و لا ينزجرون مع اختلاف أهوائهم دون أن يرد عليهم آداب المرسلين و أخبار القرون الماضين ، فتكون آداب فيهم مستعملة ، و حدوده فيهم متبعة ، و أوامره فيهم ممتثلة ، وو عده و وعيده فيهم زاجراً ، و قصص من غبر من الأمم واعظاً . فإن الأخبار العجيبة إذا طرقت الأسماع ، و المعاني الغريبة إذا أيقظت الأذهان ، استمدتها العقول فزاد علمها ، و صح فهمها ، و أكثر الناس سماعاً و أكثرهم خواطر ، و أكثرهم خواطر أكثرهم تفكراً و أكثرهم تفكراً أكثرهم علماً و أكثرهم علماً أكثرهم عملاً . فلم يو جد عن بعثه الرسل معدل و لا منهم في انتظام الحق بدل . منكر و النبوات : و أنكر فريق من الأمم نبوات الرسل و هم فيها ثلاثة أصناف : أحدها : ملحدة دهرية يقولون يقدم العالم و تدبير الطبائع ، فهم بإنكار المرسل أجدر أن يقولوا بإنكار الرسل . و الصنف الثاني : براهمة موحدة يقولون بحدوث العالم و يجحدون بعثة الرسل ويبطلون النبوات ، و هم المنسوبون إلى بهر من صاحب مقالتهم . و شذ فريق منهم فادعى أنه آدم أبو البشر ، و منهم من قال هو إبراهيم ، و من قال من هذه الفرقة الشذة منهم أنه أحد هذين أقر بنبوتهما و أنكر نبوة من سواهما . و جمهورهم على خلاف هذه المقالة في اعتزائهم لصاحب مقالتهم و إنكار جميع النبوات عموماً . . و الصنف الثالث : فلاسفة لا يتظاهرون بإبطال النبوات في الظاهر ، و هم مبطلوها في تحقيق قولهم ، لأنهم يقولون : إن العلوم الربانية بعد كمال العلوم الرياضية من الفلسفة و الهندسة ليضعها من كملت رياضته إذا كان عليها مطبوعاً . الرد على منكري النبوات : و اختلف من أبطل النبوات في علة إبطالها فذهب بعضهم إلى أن العلة في إبطالها أن الله تعالى قد أغنى عنها بما دلت عليه العقول من لوازم ما تأتي به الرسل و هذا فاسد من وجهين : أحدهما : أنه لا يمنع ما دلت عليه العقول جواز أن تأتي به الرسل وجوباً و لو كان العقل موجباً لما امتنع أن تأتي به الرسل وجوباً ، و لو كان العقل موجباً لما امتنع أن تأتي به الرسل تأكيداً كما تترادف دلائل العقول على التوحيد ، و لا يمنع وجود بعضها من و جود غيرها . و الثاني : إنه لا تستغني قضايا العقول عن بعثة الرسل من وجهين : أحدهما : إن قضايا العقول قد تختلف فيما تكافأت فيه أدلتها فانحسم ببعثه الرسل اختلافها . و الثاني : أنه لا مدخل للعقول فيما تأتي به الرسل من الوعد و الوعيد و الجنة و النار و ما يشرعونه من أوصاف التعبد الباعث على الـتأله فلم يغن عن بعثة الرسل . و ذهب آخرون منهم إلى أن العلة في إبطال النبوات أن بعثة الرسل إلى من يعلم من حالتهم أنهم لا يقبلون منهم ما بلغوه إليهم عبث يمنع من حكمة الله تعالى . و هذا فاسد من وجهين . أحدهما : أنه ليس بعبث أن يكون فيهم من لا يقبله كما لم يكن فيما نصبه الله تعالى من دلائل العقول على توحيده عبثاً و إن كان منهم من لا يستدل به على توحيده كذلك بعثة الرسل . و الثاني : أن وجود من يقبله فهم على هذا التعليل يوجب بعثة الرسل و هم يمنعون إرسالهم إلى من يقبل و من لا يقبل فبطل هذا التعليل . و قال آخرون منهم : بل العلة فيه أن ما جاء به الرسل مختلف ينقض بعضه بعضاً و نسخ المتأخر ما شرعه المتقدم ، و قضايا العقول لا تتناقض فلم يرتفع بما يختلف و يتناقض ، و هذا فاسد من و جهين : أحدهما : أن ماجاء به الرسل ضربان . أحدهما : ما لا يجوز أن يكون إلا على و جه واحد و هو التوحيد و صفات الرب المربوب فلم يختلفوا فيه و أقواله متناصرة عليه . و الضرب الثاني : ما يجوز أن يكون من العبادات على وجه و يجوز أن يكون على خلافه و يجوز أن يكون في وقت و لا يجوز أن يكون في غيره ، و هذا النوع هو الذي اختلفت فيه الرسل لاختلاف أوقاتهم : إما بحسب الأصلح و إما بحسب الإرادة ، و هذا في قضايا العقول جائز . و الوجه الثاني : أن قضايا العقول قد تختلف فيها العقلاء و لا يمنع ذلك أن يكون العقل دليلاً ، كذلك ما اختلف فيه الرسل لا يمنع أن يكون حجة . و قال آخرون منهم : بل العلة في إبطال النبوات أنه لا سبيل إلى العلم بصحتها لغيبها ، و أن ظهور ما ليس في الطباع من معجزاتهم ممتنع الطباع الدافعة لها ، فهذا فاسد من وجهين . أحدهما : أن المعجزات من فعل الله تعالى فيهم فخرجت عن حكم طباعهم . و الثاني : لما تميزوا بخروجهم عن الطباع من الرسالة تميزوا بما يخرج عن عرف الطباع من الإعجاز . و قال آخرون منهم : بل العلة في إبطال النبوات إن ما يظهرونه من المعجز الخارج عن العادة قد يوجد مثله في أهل الشعبذة و المخرقة و أهل النارنجيات و ليس ذلك من دلائل صدقهم فكذلك أحكام المعجزات . و هذا فاسد من وجهين . أحدهما : ان الشعبذة تظهر لذوي العقول و تندلس على الغر الجهول فخالفت المعجزة التي تذهل لها العقول . و الثاني : أن الشعبذة تستفاد بالتعليم فيتعلمها من ليس يحسنها فيصير مكافئاً لمن أحسنها و يعارضها بمثلها ، و المعجزة مبتكرة لا يتعاطاها غير صاحبها و لا يعارضه أحد بمثلها ، كما انقلبت عصا موسى حية تسعى تلتقف ما أفكه السحرة فخروا له سجداً . إثبات النبوات : و لئن كان في إبطاله هذه الشبهة دليل على إثباتها فيستدل على إثبات النبوات من خمسة أوجه و إن اشتملت تلك الأجوبة على بعضها : أحدها : أن الله تعالى منعم على عباده بما يرشدهم إليه من المصالح ، و لما كان في بعثة الرسل ما لا تدركه العقول كان إرسالهم من عموم المصالح التي تكفل بها . و الثاني : أن فيما تأتي به الرسل من الجزاء بالجنة ثواباً على الرغبة في فعل الخير و بالنار عقاباً يبعث على الرهبة في الكف عن الشر ، صارا سبباً لئتلاف الخلق و تعاطي الحق . و الثالث : إن في غيوب المصالح ما لا يعلم إلا من جهة الرسل فاستفيد بهم ما لم يستفد بالعقل . و الرابع : أن التأله لا يخلص إلا بالدين و الدين لا يصلح إلا بالرسل المبلغين عن الله تعالى ما كلفت . و الخامس : أن العقول ربما استكبرت من موافقة الأكفاء و متابعة النظراء ، فلم يجمعهم عليه إلا طاعة المعبود فيما أداه رسله ، فصارت المصالح بهم أعم ، و الإتقان بهم أتم ، و الشمل بهم أجمع ، و التنازع بهم أمنع . و يجوز إثبات التوحيد و النبوات بدقيق الاستدلال ، كما يجوز بجليه ، فإن ما دق في العقول هو أبلغ في الحكمة . و قد تلوح لابن الرومي هذا المعنى فنظمه في شعره فقال : غموض الحق حين يذب عنه يقلل ناصر الخصم المحق يجل عن الدقيق عقول قوم فيقضي للمجل على المدق كيفية بعثة الرسل : فإذا ثبت جواز النبوات و بعثة الرسل بالعبادات فهم رسل الله تعالى إلى خلقه إما بخطاب مسموع أو بسفارة ملك منزل . و منع قوم من مثبتي النبوات أن تكون نبوتهم عن خطاب أو نزول ملك لانتفاء المخاطبة الجسمانية عنه تعالى ، لأنه ليس بجسم ، و الملائكة من العالم العلوي بسيط لا تهبط ، كما أن العالم السفلي كثيف لا يعلو ، و اختلف من قال بهذا فيما جعلهم به أنبياء . فقال بعضهم : صاروا أنبياء بالإلهام لا بالوحي ، و هذا فاسد من وجهين . أحدهما : أن ما بطل به إلهام المعارف في التوحيد ، كان إبطال المعارف به في النبوة أحق . و الثاني : أن الإلهام خفي غامض يدعيه المحق و المبطل ، فإن ميزوا بينهما طلبت أمارة و إن عدلوا عن الإلهام فذلك دليل يبطل الإلهام . و قال آخرون منهم : إنما صاروا أنبياء لأن لله تعالى في العالم خواص و أسراراً تخالف مجرى الطبائع ، فمن أظفره الله تعالى بها من خلقه استحق بها النبوة و هذا فاسد من وجهين : أحدهما : خفاؤها فيه غير دليل على صدقه . و الثاني : أنه يكون نبياً عن نفسه لا عن ربه فصار كغيره . و قال آخرون : بل صاروا أنبياء لأن الله تعالى خصهم من كمال العقول بما يتواصلون به إلى حقائق الأمور ، فلا يشتبه عليهم منها ما يشتبه على غيرهم ، فصاروا أنبياء عن عقولهم لا عن ربهم . و هذا فاسد من وجهين : أحدهما : أن هذا يقتضي فضل العلم في حقه و لا يقتضيه في حق غيره . و الثاني : أنه إن أخبر عن نفسه لم يكن رسولاً و إن أخبر عن ربه كان كاذباً . و قال آخرون : إنما صاروا أنبياء لأن النور فيهم صفا و نما بالنور الأعظم الإلهي ، الذي تخلص به الأفهام ، و تصح به الأوهام ، حتى ينتقلوا إلى الطباع الروحانية ، و يزول عنهم كدر الطباع البشرية فيخرجوا عن شبح الكائنات بصفاء نورهم و خلاصهم ، و هذا قول الثنوية و هذا فاسد من وجهين : أحدهما : أنهم دفعوا أسهل الأمرين من بعثة الرسل بأغلظهما من إعطاء نوره ، و أولى أن يدفعوا عن الأغلظ بما دفعوا به عن الأسهل و الثاني : أنهم أثبتوا به ممازجة الباري سبحانه فيما اختص بذاته ، و مخالفة الذات تمنع من ممازجته . الرد على المعترض : و الجواب عما قالوه من امتناع المخاطبة الجسمانية عمن ليس بجسم من وجهين : أحدهما : أنه لا يمنع أن يظهر منه كخطاب الأجسام ، و إن لم يكن جسماً ، كما يظهر منه كأفعال الأجسام ، و إن لم يكن جسماً . و الثاني : أن الله تعالى يجوز أن يودعه خطابه في الأسماع حتى تعيه الأذان ، و تفهمه القلوب بقدرته التي أخفاها عن خلقه . و الجواب عما ذكروه من : أن جرم الملائكة علوي لا ينهبط من وجهين : أحدهما : أنه ليس يمنع ان ينتقل جرم سماوي لطيف إلى جرم أرضى كثيف إما بزيادة أو انقلاب كما يقولون في العقل و النفس إنهما جرمان علويان هبطا إلى الجسم فحلاً فيه . و الثاني : أنهم يقولون بانقلاب الأجرام الطبيعات ، فيقولون : إن الهواء المركب من حرارة و رطوبة إذا ارتفعت حرارته ببرودة صار ماء بارداً . و إن الماء المركب من برودة و رطوبة ، إذا ارتفعت برودته بحرارة صار هواء ، و أن الهواء المركب من حرارة و رطوبة إذا ارتفعت رطوبته بيبوسة صار ناراً ، فإذا جاز ذلك عندهم في انقلاب الطبائع ، كان في فعل الله تعالى أجوز و هو عليها أقدر . و لا يمكن أن يدفع أقاويلهم الخارجة عن قوانين الشرع إلا بمثلها . و إن خرج عن حجاج أمثالنا لينقض قولهم بقولهم فلا يتدلس به باطل ، و لا يضل به جهول ، فما يضل عن الدين إلا قادح في أصوله و مزر على أهله . شروط صحة النبوة : فإذا ثبت أن النبوة لا تصلح إلا ممن أرسله الله تعالى بوحيه إليه ، فصحتها إليه معتبرة بثلاثة شروط ، تدل على صدقه و وجوب طاعته . أحدها : أن يكون مدعي النبوة على صفات يجوز أن يكون مؤهلاً لها لصدق لهجته و ظهور فضله و كمال حاله ، فإن اعتوره نقص ، أو ظهر منه كذب ، لم يجز أن يؤهل للنبوة من عدم آلتها و فقد أمانتها . بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد إلى بعض أحياء العرب ، يدعوهم إلى الإسلام ، فقالوا يا خالد : صف لنا محمداً ، قال : بإيجاز أم بأطناب . قالوا : بإيجاز قال : هو رسول الله و الرسول على قدر المرسل . و الشرط الثاني : إظهار معجز يدل على صدقه ، و يعجز البشر عن مثله ، لتكون مضاهية للأفعال الإلهية ، ليعلم أنها منه ، فيصبح بها دعوى رسالته لأنه لا يظهرها من كاذب عليه ، و يكون المعجز دليلاً على صدقه ، و صدقه دليلاً على صحة نبوته . و الشرط الثالث : أن يقرن بالمعجز دعوى النبوة ، فإن لم يقترن بالمعجزة دعوى ، لم يصر بظهور المعجزة نبياً ، لأن المعجز يدل على صدق الدعوى ، فكان صفة لها فلم يجز أن تثبت الصفة قبل وجود الموصوف . فإن تقدم ظهور المعجز على دعوى النبوة كان تأسيساً للنبوة ، ككلام عيسى عليه السلام في المهد ، تأسيساً لنبوته فاحتاج مع دعوى النبوة إلى إحداث معجز يقترن بها ، ليدل على صدقه فيها . و إن تقدمت دعوى النبوة على المعجز اكتفى بحدوث المعجز بعدها عن اقترانه بها ، لأن استصحابه للدعوى مقترن بالمعجز ، فإن ظهر المعجز المقترن بالدعوى لبعض الناس دون جميعهم نظر ، فإن كانوا عدداً يتواتر بهم الخبر ، و يستفيض فيهم الأثر ، كان الغائب عنه محجوباً بالمشاهد له في لزوم الإجابة و الانقياد للطاعة ، كما يكون العصر الثاني محجوبا بالعصر الأول ، و إن كان المشاهد للمعجز عدداً لا يستفيض بهم الخبر ، و لا يتواتر بهم الأثر لإمكان تواطئهم على الكذب ، و يتوجه إلى مثلهم الخطأ و الزلل ، كان المعجز حجة عليهم ، و لم يكن حجة على غيرهم ، حتى يشاهدوا من المعجز ما يكونوا محجوبين به ، و سواء كان من جنس الأول أو من غير جنسه ، فإن قصر من شاهد الأول عن عدد التواتر ، و قصر من شاهد الثاني عن عدد التواتر ، لم يثبت حكم التواتر فيهما ، و لا في واحد منهما لجواز الكذب على كل واحد من العددين . |
المعجزات تخرق العادات
و إذا كانت حجج الأنبياء على أممهم ، هي المعجز الدال على صدقهم ، فالمعجز ما خرق عادة البشر من خصال لا تستطاع إلا بقدرة إلهية تدل على أن الله تعالى خصه بها ، تصديقاً على اختصاصه برسالته ، فيصير دليلاً على صدقه في ادعاء نبوته إذا وصل ذلك منه في زمان التكليف . و أما عند قيام الساعة إذا سقطت فيه أحوال التكليف ، فقد يظهر فيه من أشراطها ما يخرق العادة ، فلا يكون معجزاً لمدعي نبوة ، و إنما اعتبر في المعجز خرق العادة ، لأن المعتاد يشمل الصادق و الكاذب ، فاختص غير المعتاد بالصادق دون الكاذب . أنواع المعجزات : و إذا تقرر أن المعجز محدود بما ذكرناه من خرق العادة فقد ينقسم ما خرج عن العادة على عشرة أقسام : أحدها : ما يخرج جنسه عن قدرة البشر ، كاختراع الأجسام و قلب الأعيان و إحياء الموتى ، فقليل هذا و كثير معجز لخروج قليله عن القدرة ، كخروج كثيره . و القسم الثاني : ما يدخل جنسه في قدرة البشر ، لكن يخرج مقداره عن قدرة البشر ، كطي الأرض البعيدة في المدة القريبة ، فيكون معجزاً لخرق العادة . و اختلف المتكلمون في المعجز منه ، فعند بعضهم أن ما خرج عن القدرة منه ، يكون هو المعجز خاصة لاختصاصه بالمعجز ، و عند آخرين منهم إن جميعه يكون معجزاً لاتصاله بما لا يتميز منه . و القسم الثالث : ظهور العلم بما خرج عن معلوم البشر ، كالإخبار بحوادث الغيوب ، فيكون معجزاً بشرطين : أحدهما : أن يتكرر حتى يخرج عن حد الاتفاق . و الثاني أن يتجرد عن سبب يستدل به عليه . و القسم الرابع : ما خرج نوعه عن مقدور البشر ، و إن دخل جنسه في مقدور البشر ، كالقرآن في خروج أسلوبه عن أقسام الكلام ، فيكون معجزاً بخروج نوعه عن القدرة ، فصار جنساً خارجاً عن القدرة ، و يكون العجز مع القدرة على آلته من الكلام أبلغ في المعجز . و القسم الخامس : ما يدخل في أفعال البشر ، و يفضي إلى خروجه عن مقدار البشر ، كالبرء الحادث عن المرض ، و الزرع الحادث عن البذر ، فإن برئ المرض المزمن لوقته ، و استحصد الزرع المتأكل قبل أوانه كان بخرق العادة معجزاً لخروجه عن القدرة . و القسم السادس : عدم القدرة عما كان داخلاً في القدرة ، كإنذار الناطق بعجزه عن الكلام ، و إخبار الكاتب بعجزه عن الكتابة فيكون ذلك معجزاً يختص بالعاجز ، و لا يتعداه ، لأنه على يقين من عجز لنفسه ، و ليس غيره على يقين من عجزه . و القسم السابع : إنطاق حيوان أو حركة جماد ، فإن كان باسدعائه ، أو عن إشارته ، كان معجزاً له ، و إن ظهر بغير استدعاء ، و لا إشارة ، لم يكن معجزاً له و إن خرق العادة ، لأنه ليس اختصاصه به بأولى من اختصاصه بغيره . و كان من نوادر الوقت و حوادثه . و القسم الثامن : إظهار الشيء في غير زمانه ، كإظهار فاكهة الصيف في الشتاء ، و فاكهة الشتاء في الصيف ، فإن كان استبقاؤهما في غير زمانهما ممكناً ، لم يكن معجزاً ، و إن لم يمكن استبقاؤهما ، كان معجزاً سواء بدأ بإظهاره أو طوالب به . و القسم التاسع : انفجار الماء و قطع الماء المنفجر ، إذا لم يظهر بحدوثه أسباب من غيره فهو من معجزاته لخرق العادة به . و القسم العاشر : إشباع العدد الكثير من الطعام اليسير ، و إرواؤهم من الماء القليل ، يكون معجزاً في حقهم ، غير معجز في حق غيرهم لما قدمناه من التعليل . و هذه الأقسام ، و نظائرها الداخلة في حدود الإعجاز متساوية الأحكام في ثبوت الإعجاز ، و تصديق مظهرها على ما ادعاه من النبوة ، و إن تفاوت الإعجاز فيها و تباين ، كما أن دلائل التوحيد قد تختلف في الخفاء و الظهور ، و إن كان في كل منها دليل ، فأما فعل ما يقدر البشر على ما يقاربه ، و إن عجزوا عن مثله فليس بمعجز ، لأن الجنس مقدور عليه ، و إنما الزيادة فضل حذق به ، كالصنائع التي يختلف فيها أهلها فلا يكون لأحذقهم بها معجز يجوز أن يدعي به النبوة . لا تقبل الخوارق ممن يكذب نفسه : فإن قيل : فقد جاء زرادشت و بولص بآيات مبهرة و لم تدل على صدقهما في دعوى النبوة . قيل : لأنهما قد أكذبا أنفسهما ما ادعياه في الله تعالى ، مما يدل على جهلهما به ، لأن بولص يقول إن عيسى إله . و زعم زرادشت أن الله تعالى كان وحده ، و لا شيء معه ، فحين طالت وحدته فكر ، فتولد من فكرته : أهرمن و هو إبليس ، فلما مثل بين عينيه أراد قتله و امتنع منه ، فلما رأى امتناعه وادعه إلى مدته . و سالمه إلى غايته . و من قال بهذا في الله تعالى و لم يعرف ، لم يجز أن يكون رسولاً له ، ثم دعوا إلى القبائح و الأفعال السيئة كما شرع زرادشت الوضوء بالبول ، و غشيان الأمهات ، و عبادة النيران . و كذلك بولص و ماني ، فخذلهم الله تعالى . و لو دعوا إلى محاسن الأخلاق كانت الشبهة بهم أقوى . و الاغترار بهم أكثر . و لكن الله تعالى عصم بالعقول من استرشدها ، و قاد إلى الحق من أيقظه بها . لا يظهر الله المعجز إلا لنبي : و لا يجوز أن يظهر الله تعالى المعجز . مما يجعله دليلاً على صدقه في غير النبوة ، و إن كان فيه مطيعاً ، لأن النبوة لا يوصل إلى صدقه فيها ، إلا بالمعجز ، لأنه مغيب ، لا يعلم إلا منه فاضطر إلى الإعجاز في صدقه . و غير النبوة من أقواله و أفعاله قد يعلم صدقه فيها بالعيان و المشاهدة و تخرج عن صورة الإعجاز و إن نفذت . و إن تشبه معجزات الأنبياء بغيرها . و أما مدعي الربوبية إذا أظهر آيات باهرة . فقد ذهب قوم إلى أنها قد تكون معجزة بطلت بكذبه . فلم يمتنع لظهور بطلانها أن توجد منه ، و إن لم توجد منه إذا كان كاذباً في ادعاء النبوة لأنه لم يقترن بدعواه ما يبطلها كمدعي الربوبية . و الذي عليه قول الجمهور أنه لا يجوز أن يظهر المعجز على مدعي الربوبية ، كما لا يجوز أن يظهر على مدعي النبوة ، لأن معصيته في ادعاء الربوبية أغلظ ، و إفكه فيها أعظم ، فكان بأن لا تظهر عليه أجدر ، و إذا استوضح ما أظهره مدعي الربوبية من الآيات ، ظهر فسادها ، و بان اختلالها ، فخرجت عن الإعجاز إلى سحر أو شعبذة . ثبوت المعجزات بالأخبار المتواترة : و لما علم الله تعالى أن أكثر عباده لا يشهدون حجج رسله . و لا يحضرون آيات أنبيائه إما لعبد الدار ، أو لتعاقب الأعصار . طبع كل فريق على الأخبار بما عاين . فيعلمه الغائب من الحاضر و يعرفه المتأخر من المعاصر . و قد علم مع اختلاف الهمم أن خبر التواتر إذا انتفت عنه الريب حق لا يعترضه شك ، و صدق لا يشتبه بإفك فصار و روده كالعيان في وقوع العلم به اضطرراً فثبت به الحجة ، و لزم به العلم . و قد قال الطفيل الغنوي مع أعرابية في وقوع العلم بإستفاضة الخبر . ما دلته عليه الفطرة و قاده إليه عليه الطبع فقال : تأوبني هم من الليل منصب و جاء من الأخبار ما لا يكذب تظاهرن حتى لم يكن لي ريبة و لم يك عما أخبروا متعقب ما يجوز لمدعي النبوة : و أما ما يجوز لمدعي النبوة ، فينقسم ثلاثة أقسام : أحدها : أن يكلمه الله تعالى بغير واسطة . الثاني : أن يخاطبه بواسطة من ملائكته . و الثالث : أن يكون عن رؤيا منام . 1 ـ كلام الله بلا واسطة : فأما القسم الأول إذا كلمه الله تعالى بغير واسطة ، مثل كلامه لموسى عليه السلام ، حين نودي من الشجرة على ما قدمناه في الاختلاف في صفته ، فيعلم اضطراراً أنه من الله تعالى . و فيما وقع به علم الاضطرار في كلامه لأهل العلم قولان : أحدهما : أنه يضطره إلى العلم به . كما يضطر خلقه إلى العلم بسائر المعلومات . فعلى هذا يستدل بمعرفة كلامه على معرفته و يسقط عنه تكليف معرفته . و يجوز أن يكون كلامه من غير جنس كلام البشر للاضطرار إلى معرفة ما تضمنه . و القول الثاني : أن يقترن بكلامه من الآيات ما يدل على أنه منه . فعلى هذا لا يسقط منه تكليف معرفة ، و لا يصح أن يكلمه إلا بكلام البشر لعدم الاضطرار إلى معرفته . 2 ـ كلام الله بواسطة ملك و أما القسم الثاني و هو أن يكون خاطبه بواسطة من ملائكته الذين هم رسله إلى أنبيائه ، فعلى الأنبياء معرفة الله تعالى قبل ملائكته في رسالته ، و طريق علمهم به الاستدلال ، ثم يصير بعد نزول الملائكة بمعجزاتهم الباهرة علم الاضطرار . و على الملائكة إذا نزلوا بالوحي على الرسول إظهار معجزاتهم له كما يلزم الرسول إظهار معجزته لأمته . روي أن جبريل عليه السلام لما تصدي لرسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة في الوادي . قال له قل يا محمد للشجرة أقبلي ، فقال لها ذلك . فأقبلت . و قال له : قل لها : أدبري فقال لها ذلك فأدبرت فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم حسبي . يعني في العلم بصدقك فيما أتيتني به عن ربي . فتستدل الرسل بالمعجزات على تصديق الملائكة بالوحي ، و تستدل الأمم بمعجزات الأنبياء على تصديقهم بالرسالة ، و يكون أخطب الملك لفظاً إن كان قرآناً ، أو ما قام مقام اللفظ إن كان وحياً ، و لا يجوز أن يؤدي الملك إلى الرسول ما تحمله عن ربه إلا بلسان الرسول كما لا يؤدي الرسول إلى قومه إلا بلسانهم . و يكون الملك واسطة بين الرسول و بين ربه ، و الرسول واسطة بين الملك و بين قومه . و ما يؤديه الملك إلى الرسول ليؤديه الرسول إلى قومه ضربان : قرآن و وحي . فأما القرآن فيلزم الملك أن يؤديه إلى الرسول بصيغة لفظه . و ليس للملك و لا للرسول أن يعدل بلفظه إلى غيره ، و يكون ما تضمنه من الخطاب المنزل متوجهاً إلى الرسول و إلى أمته . إذا تضمن الوحي تكليفاً : و أما الوحي إذا تضمن تكليفاً بأمر أو نهى فصربان : أحدهما : أن يكون نصاً غير محتمل ، و صريحاً غير متأول . فهذا يعلمه الرسول من الملك بنفس الخطاب ، و تعلمه الأمة من الرسول بالبلاغ من غير نظر و لا استدلال ، و ليس للملك أو للرسول أن يعدل بالنص إلى إجمال أو احتمال له . و الضرب الثاني : أن يكون من المجمل أو المحتمل لمعان مختلفة فهذا يعلم المراد به من دليل يقترن بالخطاب . و دليله ضربان : أحدهما عقل المستمع و الثاني : توقيف المبلغ . فأما ما عقل دليله ببديهة العقل فمحمول على مقتضى العقل ، و يكفي فيه تبليغ الخطاب ، و أما ما دليله التوقيف الذي لا مدخل فيه لبداية العقول كالعبادات فمحمول على التوقيف من الله تعالى إلى ملائكته ، و من الملائكة إلى الرسول ، و من الرسول إلى أمته . فأما معرفة الملك من ربه فهو غير مشاهد لذاته . و اختلف أهل العلم في معرفته به على مذهبين . كالرسول إن كلمه . أحدهما : بأن يضطره إلى العلم به . و الثاني : بسماع الخطاب المقترن بالآيات . و أما معرفة الرسول من الملك ، و معرفة الأمة من الرسول فالرسول مشاهد لذات الملك ، و الأمة مشاهدة لذات الرسول . و لمشاهدة الذوات تأثير في العلم بمراد الخطاب : فيتنوع بيان توقيفه فيما أريد بالخطاب أنواعاً فيكون بعضه باللفظ الصريح ، و بعضه بالفعل الظاهر . و بعضه بالإشارة الباطنة ، و بعضه بالإمارات التي تضطر المشاهد إلى العلم بما أريد بها . و ليس لها نعت موصوف ، و لا حد مقدر . و إنما يعلمه المشاهد بمفهوم أسبابه فيصير البيان باختلاف أنواعه توقيفاً من الملك إلى الرسول ، و من الرسول إلى الأمة ، و يجوز أن يختلف نوع بيانهما إذا عرف . 3 ـ كلام الله في الرؤيا : فأما القسم الثالث : و هو أن يكون عن رؤيا منام . فإن لم يكن ممن تصدق رؤياه لكثرة أحلامه ، لم يجز أن يدعي به النبوة ، و إن كان ممن تصدق رؤياه فقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : " أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً " ، لم يجز أن يدعي النبوة من أول رؤيا ، لجواز أن يكون من حديث النفس ، و أن الرؤيا قد تصح تارة ، و تبطل أخرى . فإن تكررت رؤياه مراراً حتى قطع بصحبتها ، و لم يخالجه الشك فيها . جاز أن يدعي النبوة فيما كان حفظاً لما تقدمها من شرع . و بعثاً على العمل بها من بعيد . و لم يجز أن يعتد بها في نسخ شرع و لا استئاف شرع . و لا تعبد . و يجوز أن يعمل على رؤيا نفسه فيما يلتزمه من استئناف شرع . و لا يجوز أن يعمل عليها في نسخ ما لزمه من شرع ، ليكون بها ملتزماً و لا يكون بها مسقطاً . شروط خطاب الرسول لأمته : و أما خطاب الرسول لأمته فيما بلغهم من رسالة ربه بعد ظهور معجزته و الإخبار بنبوته و لزومه للأمة . فمعتبر بخمسة شروط : أحدها : العلم بانتفاء الكذب عنه فيما ينقله عن الله تعالى من خبر ، أو يؤديه من تكليف ، كما انتفى عنه الكذب في ادعاء الرسالة ، و يكون المعجز دليلاً على صدقه في جميع ما تضمنه الرسالة . و الثاني : أن يعلم من حاله أنه لا يجوز أن يكتم ما أمر بأدائه : لأن كتمانه يمنع من التزام رسالته لجواز أن يكتم إسقاط ما أوجب . و إن جاز أن يكتم بيانه قبل وقت الحاجة و لا يكون كتماناً . و الثالث : أن ينتفي عنه ما يقتضي التنفير من قبول قوله لأن الله تعالى حماه من الغلطة ، لئلا ينفر من متابعته ، و كان أولى أن لا ينفر عن قبول خطابه . و الرابع : أن يقترن بخطابه ما يدل على المراد به لينتفي عنه التلبيس و التعمية في أحكام الرسالة ، حتى يعلم حقوق التكليف ، و إن جاز تعمية خطابه فيما لم يتضمنه التكليف ، قد اعترض رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل في أطراف بدر و قال له : ممن أنت ؟ فقال : من ماء . فورى عن نسبه بما استبهم على سائله لخروجه عما يؤديه شرعاً إلى أمته . و الخامس : العلم بوجوب طاعته ، ليعلم بها وجوب أوامره . و اختلف في طاعته هل وجبت عقلاً أو سمعاً بحسب اختلافهم في بعثة الرسل ، هل هو من موجبات العقل أم لا . خطاب الرسول مفهوم أو مبهم : و إذا تكلمت شروط الالتزام لم يخل خطابه من أن يكون مفهوماً أو مبهماً . فالمفهوم أربعة : النص ، و فحوى الكلام ، و لحن القول : و مفهوم اللفظ . و فحوى الكلام ما دل على ما هو أقوى من نطقه ، و لحن القول ما دل على مثل نطقه ، و مفهوم اللفظ مأخوذ من معنى نطقه ، فهذه الأربعة مفهومة المعاني بألفاظها ، مستقلة بذواتها معلومة المراد بظواهرها فلا احتياج بعد البلاغ إلى بيان . و أما المبهم فثلاثة : المجمل ، و المحتمل ، و المشتبه ، فأما المجمل فما أخذ بيانه من غيره و لا يدخل العقل في تفسيره ، فلا يعلم إلا بسمع و توقيف ، و أما المحتمل فهو ما تردد بين معان مختلفة ، فإن أمكن الجمع بين جميعهاً حمل على جميع ما تضمنه و استغني عن البيان إلا أن يرد بالاقتصار على بعضها بيان . و إن لم يمكن حملها على الجميع لتنافيها و كان المقصود أحد معانيها فإن أمكن الاستدلال عليه بمخرج الخطاب أو بمشاهدة الحال كان فيه بيان أو تعذر بيانه من هذا الوجه حمل على عرف الشرع ، فإن تعذر حمل على عرف الاستعمال ، فإن تعذر حمل على عرف اللغة فإن تعذر فبيانه موقوف على التوقيف . و أما المشتبه فما أشكل لفظه و استبهم معناه . شاهد على المبهم : " روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : يا رسول الله ، إنك تأتينا بكلام لا نعرفه ، و نحن العرب حقاً فقال : رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : إن ربي علمني فتعلمت ، و أدبني فتأدبت " . فإن تلوح في المشتبه إشارة إلى معناه ، جاز أن يكون استنباطه موقوفاً على الاجتهاد . و إن تجرد عن تجرد عن إشارة كان موقوفاً على التوقيف . و على الرسول تبليغ بيانه كما كان عليه تبليغ أصله ، و على من سمعه من الرسول أن يبلغه من لم يسمعه ، حتى ينتقل إلى عصر بعد عصر على الأبد فيعلمه القرن الثاني من الأول ، و الثالث من الثاني . و كذلك أبداً لتدوم الحجة بهم إلى قيام الساعة . و لذلك " قال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم ليبلغ الشاهد الغائب " . الفرق بين الأنبياء و الرسل : فأما الفرق بين الأنبياء و الرسل فقد جاء بهما القرآن جمعاً و مفصلاً بقول الله تعالى : " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته " . و اختلف أهل العلم في الأنبياء و الرسل على قولين : أحدهما أن الأنبياء و الرسل واحد . فالنبي رسول و الرسول نبي . و الرسول مأخوذ من تحمل الرسالة . و النبي مأخوذ من النبأ ، و هو الخبر إن همز ، لأنه مخبر عن الله تعالى و مأخوذه من النبوة إن لم يهمز ، و هو الموضع المرتفع و هذا أشبه لأن محمداً صلى الله تعالى عليه و سلم قد كان يخاطب بهما . و القول الثاني : أنهما يختلفان ، لأن اختلاف الأسماء يدل على اختلاف المسميات و الرسول أعلى منزلة من النبي ، و لذلك سميت الملائكة رسلاً و لم يسموا أنبياء . و اختلف من قال بهذا في الفرق بينهما على ثلاثة أقاويل : أحدها : أن الرسول هو الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي . و النبي هو الذي يوحى إليه في نومه . و القول الثاني : أن الرسول هو المبعوث إلى أمة و النبي هو المحدث الذي لا يبعث إلى أمة قاله قطرب . و القول الثالث : أن الرسول هو المبتدئ بوضع الشرائع و الأحكام . و النبي هو : الذي يحفظ شريعة غيره قاله الجاحظ . وجوب البلاغ و زمانه : و إذا نزل الوحي على الرسول ، و عين له زمان الإبلاغ لم يكن له تقديمه عليه ، و لا تأخيره عنه . و إن لم يعين له زمانه فعليه تبليغه في أول أوقات إمكانه . فإن خاف من تبليغ ما أمر به شدة الأذى و عظم الضرر ، لزمه البلاغ و لم يكن الأذى عذراً له في الترك و التأخير ، لأن الأنبياء يتكلفون من احتمال المشاق ما لا يتكلفه غيرهم لعظم منزلتهم و ما أمدوا به من القوة على تحمل مشاقهم . و إن خاف منه القتل ، فقد اختلف المتكلمون في وجوب البلاغ فذهب بعضهم إلى اعتبار أمره البلاغ ، فإن أمر به مع تخوف القتل لزمه أن يبلغ و إن قتل . و إن أمر به مع الأمن لم يلزمه البلاغ إذا خاف القتل . و ذهب آخرون منهم إلى اعتبار حاله ، فإن لم يبق عليه من البلاغ سوف ما يخاف منه القتل . فإن لم يكن الأمر بالبلاغ مرتباً لزمه أن يقدم بلاغ ما يأمن منه القتل ، ثم يبلغ ما يخاف منه القتل ، فإن قتل فإن كلام الأمر البلاغ مرتباً بابتداء ما يخاف منه القتل ، فإن الله تعالى يعصمه من القتل حتى يبلغ جميع ما أمر به لما تكفل به من إكمال دينه و الله تعالى أعلم . |
الساعة الآن 01:41 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
][ ملاحظة: جميع المشاركات تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تمثل راي ادارة المنتدى بالضرورة، نأمل من الجميع الالتزام بقوانين الحوار المحترم ][