![]() |
قسم غنائم بدر :
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالغنائم فجمعت فاختلفوا ، فقال من جمعها : هي لنا . وقال من هزم العدو : لولانا ما أصبتموها . وقال الذين يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنتم بأحق بها منا ، قال عبادة بن الصامت : فنزعها الله من أيدينا ، فجعلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقسمها بين المسلمين ، وأنزل الله تعالى : " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول " الآيات . وذكر ابن إسحاق عن نبيه بن وهب ، قال : فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسرى على أصحابه ، وقال : استوصوا بالأسرى خيراً ، فكان أبو عزيز بن عمير عند رجل من الأنصار ، فقال له أخوه مصعب : شد يدك به ، فإن أخته ذات متاع . فقال أبو عزيز : يا أخي ! هذه وصيتك بي ؟ فقال مصعب : إنه أخي دونك ، قال أبو عزيز: وكنت مع رهط من الأنصار حين قفلوا ، فكانوا إذا قدموا طعاماً خصوني بالخبز ، وأكلوا التمر ، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا ، ما يقع في يد رجل منهم كسرة إلا نفحني بها ، قال : فأستحي فأردها على أحدهم ، فيردها علي ، ما يمسها |
أسارى بدر :
واسشتار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأسرى ، وهم سبعون ، وكذلك القتلى سبعون أيضاً . فأشار الصديق : أن يؤخذ منهم فدية ، تكون لهم قوة ، ويطلقهم لعل الله يهديهم للإسلام . فقال عمر : لا والله ، ما أرى ذلك ، ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديد الشرك ، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، فقال : إن الله عز وجل ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللين ، وإن الله عز وجل ليشدد قلوب رجال فيه ، حتى تكون أشد من الحجارة . وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم ؟ إذ قال : " فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى ، إذ قال : " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم " ، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى ، قال: " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم " ، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح ، قال : " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " ، ثم قال : أنتم اليوم عالة ، فلا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء ، أو ضرب عنق ، فأنزل الله تعالى : " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " الآيتين . قال عمر : "فلما كان من الغد ، غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو قاعد -هو وأبو بكر- يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ! أخبرني ما يبكيك وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما . فقال : أبكي للذي عرض علي أصحابك من الغد : من أخذهم الفداء ، فقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة -لشجرة قريبة منه صلى الله عليه وسلم- وقال : لو نزل عذاب ما سلم منه إلا عمر" . وقال الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم : نريد أن نترك لابن أختنا العباس فداءه ، فقال : لا تدعوا منه درهماً . ثم دخلت السنة الثالثة من الهجرة |
غزوة بني قينقاع
فكانت فيها غزوة بني قينقاع ، وكانوا من يهود المدينة . فنقضوا العهد . فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة ، فنزلوا على حكمه ، فشفع فيهم عبد الله بن أبي بن سلول ، وألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ، فأطلقهم له، وكانوا سبعمائة رجل ، وهم رهط عبد الله بن سلام . |
غزوة أحد :
وفيها كانت وقعة أحد في شوال . وذلك : أن الله تبارك وتعالى لما أوقع بقريش يوم بدر ، وترأس فيهم أبو سفيان ، لذهاب أكابرهم ، أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين . ويجمع الجموع ، فجمع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش ، والحلفاء والأحابيش . وجاؤوا بنسائهم لئلا يفروا ، ثم أقبل بهم نحو المدينة ، فنزل قريباً من جبل أحد . فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج إليهم ، وكان رأيه أن لا يخرجوا ، فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه السكك ، والنساء من فوق البيوت ، ووافقه عبد الله بن أبي -رأس المنافقين- على هذا الرأي ، فبادر جماعة من فضلاء الصحابة -ممن فاته بدر- وأشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج ، وألحوا عليه . فنهض ودخل بيته، ولبس لأمته ، وخرج عليهم ، فقالوا : استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج . ثم قالوا : إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل ، فقال : ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه . فخرج في ألف من أصحابه ، واستعمل على المدينة عبد الله بن أم مكتوم . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا : رأى أن في سيفه ثلمة ، وأن بقراً تذبح . وأنه يدخل يده في درع حصينة . فتأول الثلمة : برجل يصاب من أهل بيته ، والبقر : بنفر من أصحابه يقتلون ، والدرع بالمدينة ، فخرج ، وقال لأصحابه : عليكم بتقوى الله ، والصبر عند البأس إذا لقيتم العدو ، وانظروا ماذا أمركم الله به فافعلوا . فلما كان بالشوط -بين المدينة وأحد- انخزل عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر ، وقال : عصاني . وسمع من غيري ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا ، أيها الناس ؟ فرجع وتبعهم عبد الله بن عمرو -والد جابر- يحرضهم على الرجوع ، ويقول : قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ، قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم وسبهم . وسأل نفر من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعينوا بحلفائهم من يهود ، فأبى ، وقال : من يخرج بنا على القوم من كثب؟ . فخرج به بعض الأنصار ، حتى سلك في حائط لمربع بن قيظي من المنافقين -وكان أعمى-، فقام يحثو التراب في وجوه المسلمين ، ويقول : لا أحل لك أن تدخل في حائطي ، إن كنت رسول الله . فابتدروه ليقتلوه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقتلوه فهذا أعمى القلب أعمى البصر . ونفذ حتى نزل الشعب من أحد ، في عدوة الوادي الدنيا ، وجعل ظهره إلى أحد ، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم . فلما أصبح يوم السبت تعبأ للقتال ، وهو في سبعمائة ، منهم خمسون فارساً ، واستعمل على الرماة -وكانوا خمسين- عبد الله بن جبير . وأمرهم : أن لا يفارقوا مركزهم ، ولو رأوا الطير تختطف العسكر ، وأمرهم : أن ينضحوا المشركين بالنبل ، لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم . وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين . وأعطى اللواء مصعب بن عمير ، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام ، وعلى الأخرى : المنذر بن عمرو . واستعرض الشباب يومئذ ، فرد من استصغر عن القتال -كابن عمر ، وأسامة بن زيد ، والبراء ، وزيد بن أرقم ، وزيد بن ثابت ، وعرابة الأوسي- وأجاز من رآه مطيقاً . وتعبأت قريش ، وهم ثلاثة آلاف . وفيهم مائتا فارس ، فجعلوا ميمنتهم : خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة : عكرمة بن أبي جهل . ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه إلى أبي دجانة . وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر -عبد عمرو بن صيفي- الفاسق ، وكان يسمى الراهب . وهو رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به ، وجاهر بالعداوة . فذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدهم : بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ، فلما ناداهم ، وتعرف إليهم ، قالوا : لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق ، فقال : لقد أصاب قومي بعدي شر . ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً ، ثم أرضخهم بالحجارة . وأبلى يومئذ أبو دجانة، وطلحة، وحمزة، وعلي، والنضر بن أنس، وسعد بن الربيع بلاء حسناً . وكانت الدولة أول النهار للمسلمين ، فانهزم أعداء الله ، وولوا مدبرين ، حتى انتهوا إلى نسائهم ، فلما رأى ذلك الرماة ، قالوا : الغنيمة ، الغنيمة ، فذكرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يسمعوا ، فأخلوا الثغر ، وكر فرسان المشركين عليه ، فوجدوه خالياً ، فجاؤوا منه . وأقبل آخرهم حتى أحاطوا بالمسلمين فأكرم الله من أكرم منهم بالشهادة -وهم سبعون- وولى الصحابة . وخلص المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجرحوه جراحات ، وكسروا رباعيته . وقتل مصعب بن عمير بين يديه ، فدفع اللواء إلى علي بن أبي طالب . وأدركه المشركون يريدون قتله ، فحال دونه نحو عشرة حتى قتلوا ، ثم جالدهم طلحة بن عبيد الله حتى أجهضهم عنه ، وترس أبو دجانة عليه بظهره ، والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك . وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان ، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها بيده ، فكانت أحسن عينيه . وصرخ الشيطان : إن محمداً قد قتل ، فوقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين . فمر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم ، فقالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : ما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه . ثم استقبل الناس ، ولقي سعد بن معاذ ، فقال : يا سعد ! إني لأجد ريح الجنة من دون أحد ، فقاتل حتى قتل ، ووجد به سبعون جراحة . وقتل وحشي حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، رماه بحربة على طريقة الحبشة . وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسلمين ، فكان أول من عرفه تحت المغفر : كعب بن مالك ، فصاح بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ! هذا رسول الله ، فأشار إليه : أن اسكت ، فاجتمع إليه المسلمون ، ونهضوا معه إلى الشعب الذي نزل فيه . فلما أسندوا إلى الجبل أدركه أبي بن خلف على فرس له ، كان يزعم بمكة : أنه يقتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما اقترب منه طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترقوته ، فكر منهزماً . فقال له المشركون : ما بك من بأس ، فقال : والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين ، فمات بسرف . وحانت الصلاة ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً . وشد حنظلة بن أبي عامر على أبي سفيان ، فلما تمكن منه حمل عليه شداد بن الأسود فقتله ، وكان حنظلة جنباً ، فإنه حين سمع الصيحة وهو على بطن امرأته : قام من فوره إلى الجهاد ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تغسله . وكان الأصيرم -عمرو بن ثابت بن وقش- يأبى الإسلام ، وهو من بني عبد الأشهل ، فلما كان يوم أحد: قذف الله الإسلام في قلبه للحسنى التي سبقت له . فأسلم وأخذ سيفه ، فقاتل ، حتى أثبتته الجراح ، ولم يعلم أحد بأمره . فلما طاف بنو عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم ، وجدوا الأصيرم -وبه رمق يسير ، فقالوا : والله إن هذا الأصيرم ، ثم سألوه : ما الذي جاء بك ؟ أحدب على قومك ، أم رغبة في الإسلام ؟ فقال : بل رغبة في الإسلام ، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت ، ومات من وقته . فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : هو من أهل الجنة، ولم يصل لله سجدة قط . "ولما انقضت الحرب : أشرف أبو سفيان على الجبل ، ونادى : أفيكم محمد ؟ فلم يجيبوه ، فقال : أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فلم يجيبوه . فقال : أفيكم ابن الخطاب ؟ فلم يجيبوه ، فقال : أما هؤلاء فقد كفيتموهم ، فلم يملك عمر نفسه أن قال : يا عدو الله ! إن الذين ذكرتهم أحياء ، وقد أبقى الله لك منهم ما يسوءك ، ثم قال : اعل هبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبوه ؟، قالوا : ما نقول ؟ قال : قولوا : الله أعلى وأجل، ثم قال : لنا العزى ، ولا عزى لكم ، قال : ألا تجيبوه ؟ قالوا : ما نقول ؟ قال : قولوا : الله مولانا ، ولا مولى لكم ، ثم قال : يوم بيوم بدر ، والحرب سجال ، فقال عمر : لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار" . وأنزل الله عليهم النعاس في بدر وفي أحد ، والنعاس في الحرب من الله ، وفي الصلاة ومجالس الذكر : من الشيطان . وقاتلت الملائكة يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ففي الصحيحين عن سعد ، قال : "رأيت رسول الله يوم أحد ، ومعه رجلان يقاتلان عنه ، عليهما ثياب بيض ، كأشد القتال ، وما رأيتهما قبل ولا بعد" . ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار -وهو يتشحط في دمه- فقال : يا فلان ! أشعرت أن محمداً قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم ، فنزل : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " الآية . وكان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص ، اختبر الله عز وجل به المؤمنين ، وأظهر به المنافقين ، وأكرم فيه من أراد كرامته بالشهادة ، فكان مما نزل من القرآن في يوم أحد : إحدى وستون آية من آل عمران ، أولها : " وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال " الآيات . ولما انصرفت قريش تلاوموا فيما بينهم ، وقالوا : لم تصنعوا شيئاً ، أصبتم شوكتهم ، ثم تركتموه ، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم ، فارجعوا حتى نستأصل بقيتهم . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنادى في الناس بالمسير إليهم ، وقال : لا يخرج معنا إلا من شهد القتال ، فقال له ابن أبي : أركب معك ؟ قال : لا . فاستجاب له المسلمون -على ما بهم من القرح الشديد- وقالوا : سمعاً وطاعة . وقال جابر : يا رسول الله ! إني أحب أن لا تشهد مشهداً إلا كنت معك ، وإنما خلفني أبي على بناته ، فائذن لي أن أسير معك . فأذن له . فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ، حتى بلغوا حمراء الأسد ، فبلغ ذلك أبا سفيان ومن معه، فرجعوا إلى مكة. وشرط أبو سفيان لبعض المشركين شرطاً على أنه إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : أن يخوفهم ، ويذكر لهم : أن قريشاً أجمعوا للكرة عليكم ليستأصلوا بقيتكم ، فلما بلغهم ذلك قالوا : " حسبنا الله ونعم الوكيل " . ثم دخلت السنة الرابعة . فكانت فيها وقعة خبيب وأصحابه ، في صفر |
وقعة بئر معونة :
وفي هذا الشهر بعينه من السنة المذكورة : كانت وقعة أهل بئر معونة . وفي شهر ربيع الأول : كانت غزوة بني النضير ، ونزل فيها سورة الحشر . ثم دخلت السنة الخامسة |
غزوة المريسيع :
فكانت فيها غزوة المريسيع على بني المصطلق ، فأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم غارون . فسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ، والنعم ، والشاء . وكان من جملة السبي : جويرية بنت الحارث ، سيد القوم ، وقعت في سهم ثابت بن قيس ، فكاتبها، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها، فأعتق المسلمون بسبب هذا التزوج - مائة أهل بيت من بني المصطلق . وقالوا : أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم . |
قصة الإفك :
وفي هذه الغزوة : كانت قصة الإفك . وذلك : أن عائشة رضي الله عنها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه بقرعة -وتلك كانت عادته مع نسائه- فلما رجعوا نزل في طريقهم بعض المنازل ، فخرجت عائشة لحاجتها ، ثم رجعت . ففقدت عقدا عليها . فرجعت تلتمسه ، فجاء الذين يرحلون هودجها ، فحملوه ، وهم يظنونها فيه ، لأنها صغيرة السن ، فرجعت -وقد أصابت العقد- إلى مكانهم ، فإذا ليس به داع ولا مجيب ، فقعدت في المنزل ، وظنت أنهم يفقدونها ، ويرجعون إليها . فغلبتها عيناها ، فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل : إنا لله وإنا إليه راجعون ، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش ، لأنه كان كثير النوم . فلما رآها عرفها وكان يراها قبل الحجاب -فاسترجع ، وأناخ راحلته ، فركبت ، وما كلمها كلمة واحدة . ولم تسمع منه إلا استرجاعه . ثم سار يقود بها ، حتى قدم بها . وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة ، فلما رأى ذلك الناس : تكلم كل منهم بشاكلته. ووجد رأس المنافقين ، عدو الله عبد الله بن أبي متنفساً . فتنفس من كرب النفاق والحسد ، فجعل يستحكي الإفك ، ويجمعه ويفرقه ، وكان أصحابه يتقربون إليه به . فلما قدموا المدينة : أفاض أهل الإفك في الحديث ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم ، ثم استشار في فراقها ، فأشار عليه علي بفراقها ، وأشار عليه أسامة بإمساكها . واقتضى تمام الابتلاء : أن حبس الله عن رسوله الوحي شهراً في شأنها . ليزداد المؤمنون إيماناً ، وثباتاً على العدل والصدق ، ويزداد المنافقون إفكاً ونفاقاً ، ولتتم العبودية المرادة من الصديقة وأبويها ، وتتم نعمة الله عليهم ولينقطع رجاؤها من المخلوق ، وتيأس من حصول النصر والفرج إلا من الله . فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندها أبواها ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا عائشة ، إن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ، ثم تاب ، تاب الله عليه . قالت لأبيها : أجب عني رسول الله ، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله . فقالت لأمها مثل ذلك ، وقالت أمها مثل ذلك . قالت : فقلت : إن قلت إني بريئة -والله يعلم أني بريئة- لا تصدقوني ، ولا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف ، حيث قال : " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " . قالت : فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما أنا فعلمت أن الله لا يقول إلا الحق . وأما أبواي : فوالذي ذهب بأنفاسهما ، ما أقلع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خفت أن أرواحهما ستخرجان ، فكان أول كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما الله يا عائشة ! فقد برأك . فقال أبوي : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله . وكان حسان رضي الله عنه ممن قيل عنه : إنه يتكلم مع أهل الإفك ، فقال يعتذر إلى عائشة ، ويمدحها : حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدهم غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل سوء وباطل لئن كان ما قد قيل عني قلته فلا رفعت سوطي إلي أناملي وكيف؟ وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل وكانت عائشة لا ترضى أن يذكر حسان بشئ يكرهه ، وتقول : إنه الذي يقول : فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء فأنزل الله تعالى في هذه القصة أول سورة النور من قوله : " إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم " إلى آخر القصة . |
غزوة الأحزاب :
وفي هذه السنة -وهي سنة خمس- كانت وقعة الخندق في شوال . وسببها : أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين يوم أحد ، خرج أشرافهم -كسلام بن أبي الحقيق- وغيره إلى قريش بمكة ، يحرضوهم على غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووعدهم من أنفسهم النصر لهم ، فأجابتهم قريش . ثم خرجوا إلى غطفان، فاستجابوا لهم ، ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك ، فاستجاب لهم من استجاب . فخرجت قريش -وقائدهم أبو سفيان- في أربعة آلاف ، ووافقهم بنو سليم بمر الظهران ، وبنو أسد ، وفزارة ، وأشجع وغيرهم . وكان من وافى الخندق من المشركين : عشرة آلاف . فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه : استشار أصحابه ، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبادر إليه المسلمون . وعمل فيه بنفسه ، وكان في حفره من آيات نبوته ما قد تواتر الخبر به . وخرج صلى الله عليه وسلم وهم يحفرون في غداة باردة ، فلما رأى ما بهم من الشدة والجوع ، قال : اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة فقالوا مجيبين له : نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فتحصن بالجبل من خلفه -جبل سلع- وبالخندق أمامه ، وأمر بالنساء والذراري ، فجعلوا في آطام المدينة [واستخلف عليها ابن أم مكتوم] . وانطلق حيي بن أخطب إلى بني قريظة ، فدنا من حصنهم ، فأبى كعب بن أسد أن يفتح له ، فلم يزل يكتمه حتى فتح له . فلما دخل الحصن ، قال : جئتك بعز الدهر ، جئتك بقريش وغطفان وأسد ، على قاداتها لحرب محمد . قال كعب : بل جئتني والله بذل الدهر ، وجئتني بجهام قد أراق ماءه ، فهو يرعد ويبرق ، وليس فيه شئ . فلم يزل به حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل مع المشركين . وسر بذلك المشركون ، وشرط كعب على حيي : أنهم إن لم يظفروا بمحمد ، أن يجيء حتى يدخل معهم في حصنهم ، فيصيبه ما يصيبهم فشرط ذلك ووفى له . وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر ، فبعث إليهم السعدين -سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة- وخوات بن جبير ، وعبد الله بن رواحة ، ليتعرفوا الخبر . فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون ، وجاهروهم بالسب ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فانصرفوا ولحنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحناً ، فعظم ذلك على المسلمين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ، أبشروا ، يا معشر المسلمين . واشتد البلاء، ونجم النفاق ، واستأذن بعض بني حارثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى المدينة ، وقالوا : " إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا " . وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً ، ولم يكن بينهم قتال ، لأجل الخندق ، إلا أن فوارس من قريش -منهم عمرو بن عبد ود- أقبلوا نحو الخندق . فلما وقفوا عليه قالوا : إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها ، ثم تيمموا مكاناً ضيقاً منه ، وجالت بهم خيلهم في السبخة ، ودعوا إلى البراز ، فانتدب لعمرو : علي بن أبي طالب ، فبارزه فقتله الله على يدي علي . وكان من أبطال المشركين ، وانهزم أصحابه . ولما طالت هذه الحال على المسلمين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالح عيينة بن حصن ، والحارث بن عوف -رئيسي غطفان- على ثلث ثمار المدينة وينصرفا بقومهما ، وجرت المفاوضة على ذلك . واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين ، فقالا: إن كان الله أمرك ، فسمعاً وطاعة . وإن كان شيئاً تصنعه لنا، فلا. لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك، وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة ، إلا قرى أو بيعاً . أفحين أكرمنا الله بالإسلام ، وأعزنا بك ، نعطيهم أموالنا ؟ والله لا نعطيهم إلا السيف . فصوب رأيهما ، وقال : إنما هو شئ أصنعه لكم ، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة . ثم إن الله عز وجل -وله الحمد- صنع أمراً من عنده خذل به العدو. فمن ذلك . أن رجلاً من غطفان -يقال له : نعيم بن مسعود- جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قد أسلمت ، فمرني بما شئت . فقال : إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة . فذهب إلى بني قريظة -وكان عشيراً لهم- فدخل عليهم ، ولا هم يعلمون بإسلامه ، فقال : إنكم قد حاربتم محمداً ، وإن قريشاً إن أصابوا فرصة انتهزوها ، وإلا انشمروا [إلى بلادهم راجعين ، وتركوكم ومحمداً، فانتقم منكم] ، قالوا : فما العمل ؟ قال : لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن . فقالوا : قد أشرت بالرأي . ثم مضى إلى قريش فقال : هل تعلمون ودي لكم ونصحي ؟ قالوا : نعم، قال : إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم ، وإنهم قد أرسلوا إلى محمد أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ، ثم يمالئونه عليكم ، فإن سألوكم فلا تعطوهم ، ثم ذهب إلى غطفان ، فقال لهم مثل ذلك . فلما كانت ليلة السبت من شوال بعثوا إلى يهود : إنا لسنا معكم بأرض مقام ، وقد هلك الكراع والخف . فأغدوا بنا إلى محمد حتى نناجزه . فأرسلوا إليهم : إن اليوم يوم السبت ، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه . ومع هذا فلا نقاتل معكم حتى تبعثوا لنا رهائن . فلما جاءتهم رسلهم قالوا : قد صدقكم والله نعيم ، فبعثوا إليهم . إنا والله لا نبعث إليكم أحداً . فقالت قريظة : قد صدقكم والله نعيم ، فتخاذل الفريقان . وأرسل الله على المشركين جنداً من الريح ، فجعلت تقوض خيامهم ، ولا تدع لهم قدراً إلا كفأتها ، ولا طنباً إلا قلعته ، وجنداً من الملائكة يزلزلون بهم ، ويلقون في قلوبهم الرعب ، كما قال الله : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها " . وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم ، فوجدهم على هذه الحال ، وقد تهيئوا للرحيل ، فرجع إليه ، فأخبره برحيلهم . فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف عن الخندق ، راجعاً والمسلمون إلى المدينة ، فوضعوا السلاح . فجاءه جبريل ، وقت الظهر ، فقال : أقد وضعتم السلاح ؟ إن الملائكة لم تضع بعد أسلحتها ، انهض إلى هؤلاء -يعني بني قريظة- فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة . فخرج المسلمون سراعاً ، حتى إذا دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ، قال : يا إخوان القردة ، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته . وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة ، حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فقال لهم رئيسهم كعب بن أسد : إني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً ، خذوا أيها شئتم : نصدق هذا الرجل ونتبعه ، فإنكم تعلمون : أنه للنبي الذي تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة . قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبداً . قالوا : فاقتلوا أبناءكم ونساءكم واخرجوا إليه مصلتي سيوفكم حتى يحكم الله بينكم وبينه . قالوا : فما ضر العيش بعد أبنائنا ونسائنا ؟ قال : فانزلوا الليلة، فعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوكم فيها لأنها ليلة السبت -لعلنا نصيب منهم غرة ، قالوا : لا نفسد سبتنا ، وقد علمت ما أصاب من اعتدوا في السبت . قال : ما بات رجل منكم -منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازماً . ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فحكم فيهم سعد بن معاذ فحكم : أن تقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتسبى النساء والذراري . وأنزل الله في غزوة الخندق صدر سورة الأحزاب ، وذكر قصتهم في قوله : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم " إلى قوله: " وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم " . ثم دخلت السنة السادسة . |
صلح الحديبية :
وفيها كانت وقعة الحديبية ، وعدة الصحابة إذ ذاك ألف وأربعمائة ، وهم أهل الشجرة ، وأهل بيعة الرضوان . خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم معتمراً، لا يريد قتالاً. فلما كانوا بذي الحليفة، قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي، وأشعره ، وأحرم بالعمرة وبعث عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش ، حتى إذا كان قريباً من عسفان أتاه عينه ، قال : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا جموعاً ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت . حتى إذا كان ببعض الطريق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن خالد بن الوليد بالغميم ، فخذوا ذات اليمين . فما شعر بهم خالد ، حتى إذا هو بغبرة الجيش ، فانطلق يركض نذيراً . وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان في ثنية المرار ، التي يهبط عليهم منها بركت راحلته ، فقال الناس : حل ، حل ، فقالوا : خلأت القصواء، فقال : ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ، ثم قال : والذي نفس محمد بيده ! لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت به ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية ، على ثمد قليل الماء . فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشكوا إليه . فانتزع سهماً من كنانته ، وأمرهم أن يجعلوه فيه ، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه . وفزعت قريش لنزوله ، فأحب أن يبعث إليهم رجلاً ، فدعا عمر ، فقال : يا رسول الله ! ليس لي بمكة أحد من بني عدي بن كعب يغضب لي إن أوذيت ، فأرسل عثمان ، فإن عشيرته بها ، وإنه يبلغ ما أردت . فدعاه فأرسله إلى قريش ، وقال : أخبرهم : أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عماراً ، وادعهم إلى الإسلام ، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات ، فيبشرهم بالفتح ، وأن الله عز وجل مظهر دينه بمكة ، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان . فانطلق عثمان ، فمر على قريش ، فقالوا : إلى أين ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام ، ويخبركم : أنه لم يأت لقتال ، وإنما جئنا عماراً . قالوا : قد سمعنا ما تقول ، فانفذ إلى حاجتك . وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص ، فرحب به ، وحمله على الفرس وأردفه أبان حتى جاء مكة . وقال المسلمون ، قبل أن يرجع : خلص عثمان من بيننا إلى البيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون، قالوا : وما يمنعه يا رسول الله ، وقد خلص ؟ قال : ذلك ظني به : أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه . واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح ، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلاً من الفريق الآخر ، فكانت معاركة . وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان وارتهن كل منهما من فيهم . وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل ، فدعا إلى البيعه ، فتبادروا إليه ، وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لا يفروا ، فأخذ بيد نفسه ، وقال : هذه عن عثمان . ولما تمت البيعة رجع عثمان ، فقالوا له : اشتفيت من الطواف بالبيت ، فقال : بئسما ظننتم بي ، والذي نفسي بيده لو مكث بها سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف، ولقد دعتني قريش إلى الطواف فأبيت. فقال المسلمون: رسول الله أعلم بالله ، وأحسننا ظناً . وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة ، وهو تحت الشجرة ، فبايعه المسلمون كلهم ، لم يتخلف إلا الجد بن قيس . وكان معقل بن يسار آخذ بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان أول من بايعه : أبو سنان وهب بن محصن الأسدي . وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات : في أول الناس ، ووسطهم وآخرهم . فبينا هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة -وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة - فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت . فقال : إنا لم نجىء لقتال أحد، وإنما جئنا معتمرين . وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب ، وأضرت بهم . فإن شاؤوا ماددتهم ، ويخلوا بيني وبين الناس . فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن أبوا إلا القتال ، فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره . قال بديل : سأبلغهم ما تقول . فانطلق حتى أتى قريشاً، فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولاً ، فإن شئتم عرضته عليكم . فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشئ . وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول . قال : سمعته يقول : كذا وكذا . فقال عروة بن مسعود : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها ودعوني آته . فقالوا : ائته . فأتاه ، فجعل يكلمه . فقال له نحواً من قوله لبديل . فقال عروة : أي محمد! أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى ، فوالله إني لأرى أوشاباً من الناس ، خليقاً أن يفروا ويدعوك . فقال أبو بكر : امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ قال عروة : من ذا يا محمد !؟ قال : أبو بكر . قال : أما والذي نفسي بيده ، لولا يد كانت لك عندي -لم أجزك بها- لأجبتك . وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويرمق أصحابه . فوالله ما انتخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم . فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمر ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له . فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك -كسرى ، وقيصر والنجاشي- والله إن رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً . والله ما انتخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده . ثم أخبرهم بجميع ما تقدم، ثم قال : وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها . فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته ، فقالوا: ائته . فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها له، ففعلوا . واستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك، قال : سبحان الله ! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، فرجع إلى أصحابه فأخبرهم . فبينا هم كذلك إذ جاء سهيل بن عمرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد سهل لكم من أمركم ، فقال : هات اكتب بيننا وبينك كتاباً ، فدعا الكاتب -وهو علي بن أبي طالب- فقال : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل : أما الرحمن ، فما أدري ما هو ؟ ولكن اكتب : باسمك اللهم كما كنت تكتب . فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال صلى الله عليه وسلم : اكتب : باسمك اللهم ، ثم قال : اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل : والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال : إني رسول الله ، وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به ، فقال سهيل : والله لا تحدث العرب أننا أخذنا ضغطة ، ولكن ذاك من العام المقبل ، فكتب . فقال سهيل : وعلى أن لا يأتيك رجل منا ، وإن كان على دينك ، إلا رددته إلينا، فقال المسلمون : سبحان الله ! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً ؟ . فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل ، وقد خرج من أسفل مكة يرسف في قيوده ، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد! أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا لم نقض الكتاب بعد، فقال : إذاً والله لا أصالحك على شئ أبداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فأجزه لي، قال : ما أنا بمجيزه لك . قال : بلى، فافعل، قال : ما أنا بفاعل . قال أبو جندل : يا معشر المسلمين ! كيف أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما لقيت ؟ -وكان قد عذب في الله عذاباً شديداً- قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ . فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ! ألست نبي الله ؟ قال : بلى، قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قلت : علام نعطى الدنية في ديننا ؟ ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال : إني رسول الله ، وهو ناصري ، ولست أعصيه . قلت : ألست كنت تحدثنا : أنا نأتي البيت ، ونطوف به . قال : بلى ، أفاخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا، قال : فإنك آتيه ومطوف به . قال : فأتيت أبا بكر ، فقلت له مثلما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد علي كما رد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء ، وزاد : فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق، فعملت لذلك أعمالاً . فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : قوموا فانحروا، ثم احلقوا، قال : فوالله ما قام منهم رجل ، حتى قالها ثلاث مرات . فلما لم يقم منهم أحد ، قام ولم يكلم أحداً منهم حتى نحر بدنه ودعا حالقه . فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. ثم جاء نسوة مؤمنات ، فأنزل الله : " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن " حتى بلغ : " بعصم الكوافر "، فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. وفي مرجعه صلى الله عليه وسلم : أنزل الله سورة الفتح : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " الآية ، فقال عمر : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : نعم ، قال الصحابة : هذا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟ فأنزل الله : " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم " الآيتين إلى قوله : " فوزا عظيما " . ولما رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير -رجل من قريش- مسلماً ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، وقالوا : العهد الذي بيننا وبينك ، فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا به ، حتى بلغا ذا الحليفة . فنزلوا يأكلون من تمر لهم . فقال أبو بصير لأحدهما: إني أرى سيفك هذا جيداً. فقال: أجل ، والله إنه لجيد ، لقد جربت به ثم جربت ، فقال : أرني أنظر إليه ، فأمكنه به ، فضربه حتى برد ، وفر الآخر ، حتى بلغ المدينة ، فدخل المسجد . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد رأى هذا ذعراً، فلما انتهى إليه ، قال : قتل والله صاحبي، وإني لمقتول . فجاء أبو بصير ، فقال : يا نبي الله ! قد أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : ويل أمه مسعر حرب ، لو كان له أحد . فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر، وتفلت منهم أبو جندل ، فلحق بأبي بصير ، فلا يخرج من قريش رجل -قد أسلم- إلا لحق به ، حتى اجتمعت منهم عصابة . فوالله ما يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها ، فقاتلوهم وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم ، فمن أتاه منهم فهو آمن |
غزوة خيبر :
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، مكث عشرين يوماً ، أو قريباً منها . ثم خرج إلى خيبر ، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة وقدم أبو هريرة حينئذ المدينة مسلماً ، فوافى سباعاً في صلاة الصبح ، فسمعه يقرأ: " ويل للمطففين " ، فقال -وهو في الصلاة- : ويل لأبي فلان ، له مكيالان ، إذا اكتال اكتال بالوافي ، وإذا كال كال بالناقص . وقال سلمة بن الأكوع : خرجنا إلى خيبر ، فقال رجل لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا من هنياتك ؟ فنزل يحدو ويقول : لاهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إنا إذا صيح بنا أتينا وبالصياح عولوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا فقال صلى الله عليه وسلم : من هذا السائق ؟، قالوا : عامر بن الأكوع . قال : رحمه الله ، فقال رجل من القوم : وجبت يا رسول الله ، لولا متعتنا به ؟ قال : فأتينا خيبر. فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة ، فلما تصافوا خرج مرحب يخطر بسيفه، ويقول : قد علمت خيبر: أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فنزل إليه عامر ، وهو يقول : قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين ، فوقع سيف مرحب في ترس عامر فعضه ، فذهب عامر يسفل له -وكان سيفه قصيراً- فرجع إليه سيف فأصاب ركبته فمات . قال سلمة: فقلت للنبي صلى الله عليه وسلم : زعموا أن عامراً حبط عمله ، فقال : كذب من قال ذلك، إن له أجرين -وجمع بين إصبعيه- إنه لجاهد مجاهد ، قل عربي مشى بها مثله . ولما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر قال : "قفوا، فوقف الجيش . فقال : اللهم رب السموات السبع وما أظللن ، ورب الرياح وما أذرين . فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها. ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر ما فيها، أقدموا باسم الله" . فأسرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً من عشرين ليلة، وكانت أرضاً وخمة شديدة الحر، فجهد المسلمون جهداً شديداً. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ، فوعظهم وحضهم على الجهاد ، وكان فيهم عبد أسود . فقال : يا رسول الله ! إني رجل أسود اللون ، قبيح الوجه ، منتن الريح ، لا مال لي . فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أدخل الجنة؟ قال : نعم، فتقدم . فقاتل حتى قتل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه : "لقد أحسن الله وجهك ، وطيب ريحك ، وكثر مالك، ثم قال : لقد رأيت زوجتيه من الحور العين تتنازعان جبته عنه ، وتدخلان فيما بين جلده وجبته" . فافتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها ، ثم تحول إلى الكتيبة ، والوطيح ، والسلالم ، فإن خيبر كان جانبين : الأول الشق والنطاة ، الذي افتتح أولاً . والثاني : ما ذكرنا . فحاصرهم حتى إذا أيقنوا بالهلكة ، سألوه الصلح . ونزل إليه سلام بن أبي الحقيق فصالحهم على حقن الدماء وعلى الذرية ، ويخرجون من خيبر ، ويخلون ما كان لهم من مال وأرض ، وعلى الصفراء والبيضاء والحلقة ، إلا ثوباً على ظهر إنسان . فلما أراد أن يجليهم ، قالوا : نحن أعلم بهذه الأرض منكم ، فدعنا نكون فيها . فأعطاهم أياها ، على شطر ما يخرج من ثمرها وزرعها . ثم قسمها على ستة وثلاثين سهماً، كل سهم مائة سهم . فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم . نصفها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينزل به من أمور المسلمين . والنصف الآخر : قسمة بين المسلمين |
الساعة الآن 09:02 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
][ ملاحظة: جميع المشاركات تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تمثل راي ادارة المنتدى بالضرورة، نأمل من الجميع الالتزام بقوانين الحوار المحترم ][