![]() |
فصل فيما يقوله من رأى في منامه ما يكرهه
صح عنه صلى الله عليه وسلم : "الرؤيا الصالحة من الله ، والحلم من الشيطان ، فمن رأى رؤيا يكره منها شيئاً، فلينفث عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ بالله من الشيطان ، فإنها لا تضره ، ولا يخبر بها أحداً . وإن رأى رؤيا حسنة ، فليستبشر ، ولا يخبر عنها إلا من يحب ". وأمر من رأى ما يكرهه أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه، وأمره أن يصلي . فأمره بخمسة أشياء: أن ينفث عن يساره ، وأن يستعيذ بالله من الشيطان ، وأن لا يخبر بها أحداً، وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه ، وأن يقوم يصلي ، ومتى فعل ذلك ، لم تضره الرؤيا المكروهة ، بل هذا يدفع شرها . وقال : "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت ، وقعت ، ولا يقصها إلا على واد ، أو ذي رأي ". وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إذا قصت عليه الرؤيا، قال : اللهم إن كان خيراً فلنا ، وإن كان شراً ، فلعدونا . ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من عرضت عليه رؤيا، فليقل لمن عرض عليه خيراً". ويذكر عنه أنه كان يقول للرائي قبل أن يعبرها له : "خيراً رأيت " ثم يعبرها . وذكر عبد الرزاق ، عن معمر، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، قال: كان أبو بكر الصديق إذا أراد أن يعبر رؤيا ، قال : إن صدقت رؤياك ، يكون كذا وكذا . |
فصل فيما يقوله ويفعله من ابتلي بالوسواس ، وما يستعين به على الوسوسة
روى صالح بن كيسان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن مسعود يرفعه : "إن للملك الموكل بقلب ابن آدم لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك إيعاد بالخير، وتصديق بالحق ، ورجاء صالح ثوابه . ولمة الشيطان ، إيعاد بالشر ، وتكذيب بالحق ، وقنوط من الخير، فإذا وجدتم لمة الملك ، فاحمدوا الله ، وسلوه من فضله ، وإذا وجدتم لمة الشيطان ، فاستعيذوا بالله فاستغفروه ". وقال له عثمان بن أبي العاص : يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي ، قال : "ذاك شيطان يقال له : خنزب ، فإذا أحسسته ، فتعوذ بالله منه ، واتفل عن يسارك ثلاثاً" . وشكى إليه الصحابة أن احدهم يجد في نفسه -يعرض بالشيء - لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به ، فقال : "الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة". وأرشد من بلي بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلين ، إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ أن يقرأ: " هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم " [الحديد : 13 ]. كذلك قال ابن عباس لأبي زميل سماك بن الوليد الحنفي وقد سأله : ما شيء أجده في صدري ؟ قال : ما هو؟ قال : قلت : والله لا أتكلم به . قال : فقال لي : أشيء من شك ؟ قلت : بلى، فقال لي : ما نجا من ذلك أحد، حتى أنزل الله عز وجل : " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك " [يونس : 94 ] قال : فقال لي : فإذا وجدت في نفسك شيئاً، فقل : " هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم " . فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلان التسلسل الباطل ببديهة العقل ، وأن سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أول ليس قبله شيء ، كما تغتب كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء ، كما أن ظهوره هو العلو الذي ليس فوقه شيء ، وبطونه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء ، ولو كان قبله شيء يكون مؤثراً فيه ، لكان ذلك هو الرب الخلاق ، ولا بد أن ينتهي الأمر إلى خالق غير مخلوق ، وغني عن غيره ، وكل شيء فقير إليه ، قائم بنفسه ، وكل شيء قائم به ، موجود بذاته ، وكل شيء موجود لا به . قديم لا أول له ، وكل ما سواه فوجوده بعد عدمه ، باق بذاته ، وبقاء كل شيء به ، فهو الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء ، الظاهر الذي ليس فوقه شيء ، والباطن الذي ليس دونه شيء . وقال صلى الله عليه وسلم : "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقول قائلهم : هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليستعذ بالله ولينته " ، وقد قال تعالى : " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم " [فصلت : 36 ]. ولما كان الشيطان على نوعين : نوع يرى عياناً ، وهو شيطان الإنس ، ونوع لا يرى، وهو شيطان الجن ، أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكتفي من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه ، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن ، ومن شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه ، والعفو، وجيع بين النوعين في سورة الأعراف ، وسورة المؤمنين ، وسورة فصلت ، والاستعاذة في القراءة والذكر أبلغ في دفع شر شياطين الجن ، والعفو والإعراض والدفع بالإحسان أبلغ في دفع شر شياطن الإنس . قال : فما هو إلا الاستعاذة ضارعاً أو الدفع بالحسنى هما خير مطلوب فهذا دواء الداء من شر مايرى وذاك دواء الداء من شر محجوب |
فصل فيما يقوله ويفعله من اشتد غضبه
أمره صلى الله عليه وسلم أن يطفىء عنه جمرة الغضب بالوضوء ، والقعود إن كان قائماً، والاضطجاع إن كان قاعداً ، والاستعادة بالله من الشيطان الرجيم. ولما كان الغضب والشهوة جمرتين من نار في قلب ابن آدم ، أمر أن يطفئهما بالوضوء، والصلاة، والاستعاذة من الشيطان الرجيم ، كما قال تعالى : " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " الآية [البقرة : 44]. وهذا إنما يحمل عليه شدة الشهوة، فأمرهم بما يطفئون بها جمرتها، وهو الاستعانة بالصبر والصلاة، وأمر تعالى بالاستعاذة من الشيطان عند نزغاته . ولما كانت المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة ، وكان نهاية قوة الغضب القتل ، ونهاية قوة الشهوة الزنى، جمع الله تعالى بين القتل والزنى، وجعلهما قرينين في سورة الأنعام وسورة الإسراء ، وسورة الفرقان وسورة الممتحنة . والمقصودة أنه سبحانه أرشد عباده إلى ما يدفعون به شر قوتي الغضب والشهوة من الصلاة والاستعاذة . |
فصل فيما يقوله إذا رأى من يحب
فصل وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحب ، قال :" الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات " . وإذا رأى ما يكره ، قال : "الحمد لله على كل حال". |
فصل وكان صلى الله عليه وسلم يدعو لمن تقرب إليه بما يحب وبما يناسب
، فلما وضع له ابن عباس وضوءه قال : "اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل ". ولما دعمه أبو قتادة في مسيره بالليل لما مال عن راحلته ، قال : "حفظك الله بما حفظت به نبيه ". وقال : "من صنع إليه معروف ، فقال لفاعله : جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء" . واستقرض من عبد الله بن أبي ربيعة مالاً، ثم وفاه إياه ، وقال : "بارك الله لك في أهلك ومالك ، إنما جزاء السلف الحمد والأداء" . ولما أراحة جرير بن عبد الله البجلي من ذي الخلصة : صنم دوس ، برك على خيل قبيلته أحمس ورجالها خمس مرات . وكان صلى الله عليه وسلم إذا أهديت إليه هدية فقبلها، كافأ عليها بأكثر منها، وإن ردها اعتذر إلى مهديها، كقوله صلى الله عليه وسلم للصب بن جثامة لما أهدى إليه لحم الصيد : "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " والله أعالم . |
فصل فيما يقوله من سمع نهيق الحمار أو صياح الديكة
فصل وأمر صلى الله عليه وسلم أمته إذا سمعوا نهيق الحمار أن يتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم ، وإذا سمعوا صياح الديكة ، أن يسألوا الله من فضله . ويروى عنه صلى الله عليه وسلم، أنه أمرهم بالتكبير عند رؤية الحريق ، فإن التكبير يطفئه . وكره صلى الله عليه وسلم لأهل المجلس أن يخلوامجلسهم من ذكرالله عزوجل ، وقال :" ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا على مثل جيفة الحمار" . وقال : "من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه ، كان عليه من الله ترة" والترة : الحسرة . وفي لفظ : "وما سلك أحد طريقاً لم يذكر الله فيه، إلا كانت عليه ترة". وقال صلى الله عليه وسلم :" من جلس في مجلس ، فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك" . وفي سنن أبي داود و مستدرك الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك إذا أراد أن يقوم من المجلس ، فقال له رجل : يا رسول الله إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى . قال : "ذلك كفارة لما يكون في المجلس ". |
فصل فيما يقوله من شكا الأرق بالليل
فصل وشكى إليه خالد بن الوليد الأرق بالليل ، فقال له : "إذا أويت إلى فراشك فقل : اللهم رب السماوات السبع وما أظلت ، ورب الأرضين السبع وما أقلت ، ورب الشياطين وما أضلت ، كن لي جاراً، من شر خلقك كلهم جميعاً من أن يفرط أحد منهم علي ، أو أن يطغى علي ، عز جازك ، وجل ثناوك ، ولا إله إلا أنت ". وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه من الفزع : "أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه ومن شر عباده ، ومن شر همزات الشياطين ، وأن يحضرون ". ويذكر أن رجلاً شكى إليه صلى الله عليه وسلم أنه يفزع في منامه ، فقال : "إذا أويت إلى فراشك فقل ... " ثم ذكرها، فقالها فذهب عنه . |
فصل في ألفاظ كان صلى الله عليه وسلم يكره أن تقال
فمنها : أن يقول : خبثت نفسي ، أو جاشت نفسي ، وليقل: لقست. ومنها: أن يسمي شجر العنب كرماً ، نهى عن ذلك، وقال : " لا تقولوا الكرم ، ولكن قولوا : العنب والحبلة". "وكره أن يقول الرجل : هلك الناس . وقال : إذا قال ذلك ، فهو أهلكهم ". وفي معنى هذا : فسد الناس ، وفسد الزمان ونحوه . ونهى أن يقال : ما شاء الله ، وشاء فلان ، بل يقال : ما شاء الله، ثم شاء فلان . فقال له رجل : ما شاء الله وشئت . فقال : "أجعلتني لله نداً ؟ قل : ما شاء الله وحده" . وفي معنى هذا: لولا الله وفلان ، لما كان كذا، بل وهو أقبح وأنكر ، وكذلك : أنا بالله وبفلان ، وأعوذ بالله وبفلان ، وأنا في حسب الله وحسب فلان ، وأنا متوكل على الله وعلى فلان ، فقائل هذا، قد جعل فلاناً نداً لله عز وجل. ومنها: أن يقال : مطرنا بنوء كذا وكذا، بل يقول : مطرنا بفضل الله ورحمته . ومنها: أن يحلف بغير الله . صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من حلف بغير الله فقد أشرك" . ومنها: أن يقول في حلفه : هو يهودي ، أو نصراني، أو كافر، إن فعل كذا. ومنها : أن يقول لمسلم : يا كافر. ومنها : أن يقول للسلطان : ملك الملوك . وعلى قياسه قاضي القضاة . ومنها : أن يقول السيد لغلامه وجاريته : عبدي ، وأمتى، ويقول الغلام لسيده : ربي ، وليقل السيد : فتاي وفتاتي ، وليقل الغلام : سيدي وسيدتي . ومنها: سب الريج إذا هبت ، بل يسأل الله خيرها، وخير ما أرسلت به ، ويعوذ بالله من شرها وشر ما أرسلت به . ومنها : سب الحمى، نهى عنه ، وقال : "إنها تذهب خطايا بني آدم ، كما يذهب الكير خبث الحديد". ومنها : النهي عن سب الديك ، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا تسبوا الديك ، فإنه يوقظ للصلاة". ومنها : الدعاء بدعوى الجاهلية، والتعزي بعزائهم ، كالدعاء إلى القبائل والعصبية لها وللأنساب ، ومثله التعصب للمذاهب ، والطرائق ، والمشايخ ، وتفضيل بعضها على بعض بالهوى والعصبية، وكونه منتسباً إليه ، فيدعو إلى ذلك ، ويوالي عليه ، ويعادي عليه ، ويزن الناس به ، كل هذا من دعوى الجاهلية . ومنها: تسمية العشاء بالعتمة تسمية غالبة يهجر فيها لفظ العشاء. ومنها : النهي عن سباب المسلم ، وأن يتناجى اثنان دون الثالث . وأن تخبر المرأة زوجها بمحاسن امرأة أخرى . ومنها : أن يقول في دعائه . "اللهم اغفر لي إن شئت ، وارحمني إن شئت ". ومنها : الإكثار من الحلف. ومنها : كراهة أن يقول : قوس قزح لهذا الذي يرى في السماء . ومنها : أن يسأل أحداً بوجه الله . ومنها : أن يسمي المدينة بيثرب . ومنها : أن يسأل الرجل فيم ضرب امرأته، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك . ومنها أن يقول : صمت رمضان كله ، أو قمت الليل كله. |
فصل بعض الألفاظ المكروهة
فصل ومن الألفاظ المكروهة الإفصاح عن الأشياء التي ينبغي الكناية عنها بأسمائها الصريحة . ومنها : أن يقول : أطال الله بقاءك ؟ وأدام أيامك ، وعشت ألف سنة ونحو ذلك . ومنها : أن يقول الصائم : وحق الذي خاتمه على فم الكافر . ومنها: أن يقول للمكوس : حقوقاً. وأن يقول لما ينفقة في طاعة الله : غرمت أو خسرت كذا وكذا : وأن يقول : أنفقت في هذه الدنيا مالاً كثيراً . ومنها : أن يقول المفتي : أحل الله كذا، وحرم الله كذا في المسائل الاجتهادية ، وإنما يقوله فيما ورد النص بتحريمه . ومنها : أن يسمي أدلة القران والسنة ظواهر لفظية ومجازات ، فإن هذه التسمية تسقط حرمتها من القلوب ، ولا سيما إذا أضاف إلى ذلك تسمية شبه المتكلمين والفلاسفة قواطع عقلية، فلا إله إلا الله ، كم خصك بهاتين التسميتين من فساد في العقول والأديان ، والدنيا والدين . |
فصل كراهة أن يحدث الرجل بجماع أهله ، وما يكون بينه وبينها
فصل ومنها: أن يحدث الرجل بجماع أهله ، وما يكون بينه وبينها ، كما يفعله السفلة . ومما يكره من الألفاظ : زعموا، وذكروا ، وقالوا ، ونحوه . ومما يكره منها أن يقول للسلطان : خليفة الله ، أو نائب الله في أرضه ، فإن الخليفة والنائب إنما يكون عن غائب ، والله سبحانه وتعالى خليفة الغائب في أهله ، ووكيل عبده المؤمن . |
التحذير من "أنا" و "لي" و "عندي"
فصل وليحذر كل الحذر من طغيان أنا ، ولي ، وعندي ، فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس ، وفرعون ، وقارون ، " أنا خير منه " لإبليس ، و" لي ملك مصر " لفرعون ، و " إنما أوتيته على علم عندي " لقارون . وأحسن ما وضعت أنا في قول العبد : أنا العبد المذنب ، المخطىء ، المستغفر، المعترف ونحوه . ولي ، في قوله : لي الذنب ، ولي الجرم ، ولي المسكنة ، ولي الفقر والذل : وعندي في قوله : " اغفر لي جدي ، وهزلي ، وخطئي ، وعمدي ، وكل ذلك عندي " . بعونه تعالى وتوفيقه تم طبع الجزء الثاني من زاد المعاد في هدي خير العباد ويليه الجزء الثالث وأوله فصل في هديه في الجهاد والغزوات |
"
" " " ((( زاد المعاد الجزء الثالث ))) " " " " |
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد والمغازي والسرايا والبعوث
لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبته ، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة ، كما لهم الرفعة في الدنيا ، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه ، واستولى على أنواعه كلها فجاهد في الله حق جهاده بالقلب ، والجنان ، والدعوة ، والبيان ، والسيف ، والسنان ، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد ، بقلبه ، ولسانه، ويده . ولهذا كان أرفع العالمين ذكراً ، وأعظمهم عند الله قدراً . وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه ، وقال : " ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا * فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا " ( الفرقان : 52) فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار ، بالحجة ، والبيان ، وتبليغ القرآن ، وكذلك جهاد المنافقين ، إنما هو بتبليغ الحجة ، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام ، قال تعالى : " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير " ( التوبة : 73) . فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار ، وهو جهاد خواص الأمة ، وورثة الرسل ، والقائمون به أفراد في العالم ، والمشاركون فيه ، والمعاونون عليه ، وإن كانوا هم الأقلين عدداً ، فهم الأعظمون عند الله قدراً . ولما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض ، مثل أن تتكلم به عند من تخاف سطوته وأذاه ، كان للرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - من ذلك الحظ الأوفر ، وكان لنبينا - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك أكمل الجهاد وأتمه . ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات الله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ". كان جهاد النفس مقدماً على جهاد العدو في الخارج ، وأصلاً له ، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به ، وتترك ما نهيت عنه ، ويحاربها في الله ، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج ، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه ، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له ، متسلط عليه ، لم يجاهده ، ولم يحاربه في الله ، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه ، حتى يجاهد نفسه على الخروج . فهذان عدوان قد امتحن العبد بجهادهما ، وبينهما عدو ثالث ، لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده ، وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ، ويخذله ، ويرجف به ، ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق ، وترك الحظوظ ، وفوت اللذات ، والمشتهيات ، ولا يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إلا بجهاده ، فكان جهاده هو الأصل لجهادهما ، وهو الشيطان ، قال تعالى : " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا " ( فاطر : 6) . والأمر باتخاذه عدواً تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ، ومجاهدته ، كأنه عدو لا يفتر ، ولا يقصر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس . فهذه ثلاثة أعداء ، أمر العبد بمحاربتها وجهادها ، وقد بلى بمحاربتها فى هذه الدار ، وسلطت عليه امتحاناً من الله له وابتلاء ، فأعطى الله العبد مدداً وعدة وأعواناً وسلاحاً لهذا الجهاد ، وأعطى أعداءه مدداً وعدة وأعواناً وسلاحاً ، وبلا أحد الفريقين بالآخر ، وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلو أخبارهم ، ويمتحن من يتولاه ، ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه ، كما قال تعالى : " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا " ( الفرقان : 20) . وقال تعالى " ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض " ( محمد : 4) ، وقال تعالى : " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " ( محمد : 31) . فأعطى عباده الأسماع والأبصار ، والعقول والقوى ، وأنزل عليهم كتبه ، وأرسل إليهم رسله ، وأمدهم بملائكته ، وقال لهم : " أني معكم فثبتوا الذين آمنوا " ( الأنفال : 12 ) وأمرهم من أمره بما هو من أعظم العون لهم على حرب عدوهم ، وأخبرهم أنهم إن امتثلوا ما أمرهم به ، لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوهم ، وأنه إن سلطه عليهم ، فلتركهم بعض ما أمروا به ، ولمعصيتهم له ، ثم لم يؤيسهم ، ولم يقنطهم ، بل أمرهم أن يستقبلوا أمرهم ، ويداووا جراحهم ويعودوا إلى مناهضة عدوهم فينصرهم عليه ويظفرهم بهم ، فأخبرهم أنه مع المتقين منهم ، ومع المحسنين ، ومع الصابرين ، ومع المؤمنين ، وأنه يدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم ، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوهم ، ولولا دفاعه عنهم ، لتخطفهم عدوهم ، واجتاحهم . وهذه المدافعة عنهم بحسب إيمانهم ، وعلى قدره ، فإن قوي الإيمان ، قويت المدافعة ، فمن وجد خيراً ، فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه . وأمرهم أن يجاهدوا فيه حق جهاده ، كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته ، وكما أن حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، فحق جهاده أن يجاهد العبد نفسه ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله ، فيكون كله لله ، وبالله لا لنفسه ، ولا بنفسه ، ويجاهد شيطانه بتكذيب وعده ، ومعصية أمره ، وارتكاب نهيه ، فإنه يعد الأماني ، ويمني الغرور ، ويعد الفقر ، ويأمر بالفحشاء ، وينهى عن التقى والهدى ، والعفة والصبر ، وأخلاق الإيمان كلها ، فجاهده بتكذيب وعده ، ومعصية أمره ، فينشأ له من هذين الجهادين قوة وسلطان ، وعدة يجاهد بها أعداء الله في الخارج بقلبه ولسانه ويده وماله ، لتكون كلمة الله هى العليا . واختلفت عبارات السلف في حق الجهاد : فقال ابن عباس : هو استفراغ الطاقة فيه ، وألا يخاف في الله لومة لائم . وقال مقاتل : اعملوا لله حق عمله ، واعبدوه حق عبادته . وقال عبد الله بن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى . ولم يصب من قال : إن الآيتين منسوختان لظنه أنهما تضمنتا الأمر بما لا يطاق ، وحق تقاته وحق جهاده : هو ما يطيقه كل عبد في نفسه ، وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين في القدرة ، والعجز ، والعلم ، والجهل . فحق التقوى ، وحق الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شئ ، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شئ ، وتأمل كيف عقب الأمر بذلك بقوله : " هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج " ( الحج : 78) والحرج : الضيق ، بل جعله واسعاً يسع كل أحد ، كما جعل رزقه يسع كل حي ، وكلف العبد بما يسعه العبد، ورزق العبد ما يسع العبد ، فهو يسع تكليفه ، ويسعه رزقه ، وما جعل على عبده في الدين من حرح بوجه ما ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " بعثت بالحنيفية السمحة " أي : بالملة ، فهي حنيفية في التوحيد ، سمحة في العمل . وقد وسع الله سبحانه وتعالى على عباده غاية التوسعة في دينه ، ورزقه ، وعفوه ، ومغفرته ، وبسط عليهم التوبة ما دامت الروح في الجسد ، وفتح لهم باباً لها لا يغلقه عنهم إلى أن تطلع الشمس من مغربها ، وجعل لكل سيئة كفارة تكفرها من توبة ، أو صدقة ، أو حسنة ماحية ، أو مصيبة مكفرة ، وجعل بكل ما حرم عليهم عوضاً من الحلال أنفع لهم منه ، وأطيب ، وألذ ، فيقوم مقامه ليستغني العبد عن الحرام ، ويسعه الحلال ، فلا يضيق عنه ، وجعل لكل عسر يمتحنهم به يسراً قبله ، ويسراً بعده ، فلن يغلب عسر يسرين فإذا كان هذا شأنه سبحانه مع عباده ، فكيف يكلفهم ما لا يسعهم فضلاً عما لا يطيقونه ولا يقدرون عليه . |
مراتب الجهاد
فصل إذا عرف هذا ، فالجهاد أربع مراتب : جهاد النفس ، وجهاد الشيطان ، وجهاد الكفار ، وجهاد المنافقين . فجهاد النفس أربع مراتب أيضاً : إحداها : أن يجاهدها على تعلم الهدى ، ودين الحق الذي لا فلاح لها ، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به ، ومتى فاتها علمه ، شقيت في الدارين . الثانية : أن يجاهدها على العمل به بعد علمه ، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها . الثالثة : أن يجاهدها على الدعوة إليه ، وتعليمه من لا يعلمه ، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ، ولا ينفعه علمه ، ولا ينجيه من عذاب الله . الرابعة : أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله ، وأذى الخلق ، ويتحمل ذلك كله لله . فإذا استكمل هذه المراتب الأربع ، صار من الربانيين ، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق ، ويعمل به ، ويعلمه ، فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماوات . |
فصل في جهاد الشيطان
فصل وأما جهاد الشيطان ، فمرتبتان ، إحداهما : جهاده على دفع ما يلقى إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان . الثانية : جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات ، فالجهاد الأول يكون بعده اليقين ، والثاني يكون بعده الصبر . قال تعالى : " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " ( السجدة : 24) فأخبر أن إمامة الدين ، إنما تنال بالصبر واليقين ، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة ، واليقين يدفع الشكوك والشبهات . |
فصل في جهاد الكفار والمنافقين
فصل وأما جهاد الكفار والمنافقين ، فأربع مراتب : بالقلب ، واللسان ، والمال ، والنفس ، وجهاد الكفار أخص باليد ، وجهاد المنافقين أخص باللسان . |
فصل في جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات
فصل وأما جهاد أرباب الظلم ، والبدع ، والمنكرات ، فثلاث مراتب : الأولى : باليد إذا قدر ، فإن عجز ، انتقل إلى اللسان ، فإن عجز ، جاهد بقلبه ، فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد ، و من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسة بالغزو ، مات على شعبة من النفاق . |
فصل فيما يتم الجهاد به
فصل ولا يتم الجهاد إلا بالهجرة ، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان ، والراجون رحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة . قال تعالى : " إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم " ( البقرة : 218) . وكما أن الإيمان فرض على كل أحد ، ففرض عليه هجرتان في كل وقت : هجرة إلى الله عز وجل بالتوحيد ، والإخلاص ، والإنابة ، والتوكل ، والخوف ، والرجاء ، والمحبة ، والتوبة ، وهجرة إلى رسوله بالمتابعة ، والانقياد لأمره ، والتصديق بخبره ، وتقديم أمره وخبره على أمر غيره وخبره : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته الى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه . وفرض عليه جهاد نفسه في ذات الله ، وجهاد شيطانه ، فهذا كله فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد . وأما جهاد الكفار والمنافقين ، فقد يكتفى فيه ببعض الأمة اذا حصل منهم مقصود الجهاد . |
فصل فيمن كمل مراتب الجهاد كلها
فصل وأكمل الخلق عند الله ، من كمل مراتب الجهاد كلها ، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله ، تفاوتهم في مراتب الجهاد ، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه ورسله ، فإنه كمل مراتب الجهاد ، وجاهد في الله حق جهاده ، وشرع في الجهاد من حين بعث إلى أن توفاه الله عز وجل ، فإنه لما نزل عليه : " يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر " ( المدثر :1-4) شمر عن ساق الدعوة ، وقام في ذات الله أتم قيام ، ودعا إلى الله ليلاً ونهاراً ، وسراً وجهاراً ، ولما نزل عليه : " فاصدع بما تؤمر " ( الحجر : 94) فصدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم ، فدعا إلى الله الصغير ، والكبير ، والحر والعبد ، والذكر ، والأنثى ، والأحمر ، والأسود ، والجن ، والإنس . ولما صدع بأمر الله ، وصرح لقومه بالدعوة ، وناداهم بسب آلهتهم ، وعيب دينهم ، اشتد أذاهم له ، ولمن استجاب له من أصحابه ، ونالوه ونالوهم بأنواع الأذى ، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه كما قال تعالى : " ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك " ( فصلت : 43) . وقال : " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن " ( الأنعام :112) وقال : " كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون " ( الذاريات : 52 ، 53) . فعزى سبحانه نبيه بذلك ، وأنى له أسوة بمن تقدمه من المرسلين ، وعزى أتباعه بقوله : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب " ( البقرة : 214) . وقوله : " الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون * من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم * ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين * والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون * ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون * والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين * ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين " ( العنكبوت :1- 11) . فليتأمل العبد سياق هذه الآيات ، وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم ، فإن الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين : إما أن يقول أحدهم : آمنا ، وإما ألا يقول ذلك ، بل يستمر على السيئات والكفر ، فمن قال : آمنا ، امتحنه ربه ، وابتلاه ، وفتنه ، والفتنة : الابتلاء والاختبار ، ليتبين الصادق من الكاذب ، ومن لم يقل : آمنا ، فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه ، فإنه إنما يطوي المراحل في يديه . وكيف يفرالمرء عنه بذنبه إذا كان تطوى في يديه المراحل فمن آمن بالرسل وأطاعهم ، عاداه أعداؤهم وآذوه ، فابتلي بما يؤلمه وإن لم يؤمن بهم ولم يطعهم ، عوقب في الدنيا والآخرة ، فحصل له ما يؤلمه ، وكان هذا المؤلم له أعظم ألماً وأدوم من ألم أتباعهم ، فلا بد ، من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان ، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ، ثم يصير إلى الألم الدائم . وسئل الشافعي رحمه الله أيما أفضل للرجل ، أن يمكن أو يبتلى ؟ فقال : لا يمكن حتى يبتلى ، والله تعالى ابتلى أولي العزم من الرسل فلما صبروا مكنهم ، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة ، وإنما يتفاوت أهل الالآم في العقول ، فأعقلهم من باع ألماً مستمراً عظيماً ، بألم منقطع يسير ، وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير ، بالألم العظيم المستمر . فإن قيل : كيف يختار العاقل هذا ؟ قيل : الحامل له على هذا النقد ، والنسيئة . والنفس موكلة بحب العاجل . " كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة " ( القيامة :20) . " إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا " ( الدهر : 27) . وهذا يحصل لكل أحد ، فإن الإنسان مدني بالطبع ، لا بد له أن يعيش مع الناس ، والناس لهم إرادات وتصورات ، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها ، فإن لم يوافقهم ، آذوه وعذبوه ، وإن وافقهم ، حصل له الأذى والعذاب ، تارة منهم ، وتارة من غيرهم ، كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة ، ولا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم ، أو سكوته عنهم ، فإن وافقهم ، أو سكت عنهم ، سلم من شرهم في الابتداء ، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء ، لو أنكر عليهم وخالفهم ، وإن سلم منهم ، فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم ، فالحزم كل الحزم في الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية : من أرضى الله بسخط الناس ، كفاه الله مؤنة الناس ، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً . ومن تأمل أحوال العالم ، رأى هذا كثيراً فيمن يعين الرؤساء على أغراضهم الفاسدة ، وفيمن يعين أهل البدع على بدعهم هرباً من عقوبتهم ، فمن هداه الله وألهمه رشده ، ووقاه شر نفسه ، امتنع من الموافقة على فعل المحرم ، وصبر على عدوانهم ، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين ، والأنصار ، ومن ابتلي من العلماء ، والعباد ، وصالحي الولاة ، والتجار ، وغيرهم . ولما كان الألم لا محيص منه البتة ، عزى الله - سبحانه - من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم العظيم المستمر بقوله :" من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم " (العنكبوت :5) . فضرب لمدة هذا الألم أجلاً ، لا بد أن يأتي ، وهو يوم لقائه ، فيلتذ العبد أعظم اللذة بما تحمل من الألم من أجله ، وفي مرضاته ، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمل من الألم في الله ولله ، وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه ، ليحمل العبد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه على تحمل مشقة الألم العاجل ، بل ربما غيبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به ، ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه الشوق إلى لقائه ، فقال في الدعاء الذي رواه أحمد وابن حبان : " اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق ، أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى ، وأسألك القصد في الفقر والغنى ، وأسألك نعيماً لا ينفد ، وأسألك قرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضى بعد القضاء ، وأسألك برد العيش بعد الموت ، وأسألك لذة النظر إلى وجهك ، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة ، اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين " . فالشوق يحمل المشتاق على الجد في السير إلى محبوبه ، ويقرب عليه الطريق ، ويطوي له البعيد ، ويهون عليه الآلام و المشاق ، وهو من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده ، ولكن لهذه النعمة أقوال وأعمال ، هما السبب الذي تنال به ، والله سبحانه سميع لتلك الأقوال ، عليم بتلك الأفعال ، وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة ، ويشكرها ، ويعرف قدرها ، ويحب المنعم عليه ، فتصلح عنده هذه النعمة ، ويصلح بها كما قال تعالى : " وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " ( الأنعام : 53) ، فإذا فاتت العبد نعمة من نعم ربه ، فليقرأ على نفسه : " أليس الله بأعلم بالشاكرين " . ثم عزاهم تعالى بعزاء آخر ، وهو أن جهادهم فيه ، إنما هو لأنفسهم ، وثمرته عائدة عليهم ، وأنه غني عن العالمين ، ومصلحة هذا الجهاد ، ترجع إليهم ، لا إليه سبحانه ، ثم أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين . ثم أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة ، وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له كعذاب الله ، وهي أذاهم له ، ونيلهم إياه بالمكروه والألم الذي لا بد أن يناله الرسل وأتباعهم ممن خالفهم ، جعل ذلك في فراره منهم ، وتركه السبب الذي ناله ، كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان ، فالمؤمنون لكمال بصيرتهم ، فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان ، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب ، وهذا لضعف بصيرته ، فر من ألم عذاب أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم ، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله ، فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه ، بمنزلة ألم عذاب الله ، وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار ، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد ، وإذا نصر الله جنده وأولياءه ، قال : إني كنت معكم ، والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق . والمقصود : أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها ، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها ، ومن يصلح لموالاته وكراماته ، ومن لا يصلح ، وليمحص النفوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان ، كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه ، إلا بالامتحان ، إذ النفس فى الأصل جاهلة ظالمة ، وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية ، فإن خرج في هذه الدار ، وإلا ففي كير جهنم ، فإذا هذب العبد ونقي ، أذن له في دخول الجنة . |
السابقون إلى الاسلام من الرجال والنساء
فصل ولما دعا صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل ، استجاب له عباد الله من كل قبيلة ، فكان حائز قصب سبقهم ، صديق الأمة ، وأسبقها إلى الإسلام ، أبو بكر رضي الله عنه ، فآزره في دين الله ، ودعا معه إلى الله على بصيرة ، فاستجاب لأبي بكر: عثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن أبي وقاص . وبادر إلى الاستجابة له صلى الله عليه وسلم صديقة النساء : خديجة بنت خويلد ، وقامت بأعباء الصديقية ، وقال لها : " لقد خشيت على نفسي " . فقالت له : أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً ثم استدلت بما فيه من الصفات الفاضلة ، والأخلاق والشيم ، على أن من كان كذلك لا يخزى أبداً ، فعلمت بكمال عقلها وفطرتها ، أن الأعمال الصالحة ، والأخلاق الفاضلة ، والشيم الشريفة ، تناسب أشكالها من كرامة الله ، وتأييده ، وإحسانه ، ولا تناسب الخزي والخذلان ، وإنما يناسبه أضدادها ، فمن ركبه الله على أحسن الصفات وأحسن الأخلاق والأعمال إنما يليق به كرامته وإتمام نعمته عليه ، ومن ركبه على أقبح الصفات وأسوإ الأخلاق والأعمال إنما يليق به ما يناسبها ، وبهذا العقل والصديقية استحقت أن يرسل إليها ربها بالسلام منه مع رسوليه جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم . |
السابقون إلى الاسلام من الصبيان
فصل وبادر إلى الإسلام على بن أبي طالب رضي الله عنه وكان ابن ثمان سنين ، وقيل : أكثر من ذلك ، وكان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخذه من عمه أبي طالب إعانة له في سنة محل . وبادر زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان غلاماً لخديجة ، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها ، وقدم أبوه وعمه في فدائه ، فسألا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل : هو في المسجد ، فدخلا عليه ، فقالا : يا ابن عبد المطلب ، يا ابن هاشم ، يا ابن سيد قومه ، أنتم أهل حرم الله وجيرانه ، تفكون العاني وتطعمون الأسير ، جئناك في ابننا عندك ، فامنن علينا ، وأحسن إلينا في فدائه ، قال : " ومن هو ؟" قالوا : زيد بن حارثة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فهلا غيرذلك " قالوا : ما هو ؟ قال : " أدعوه فأخيره ، فإن اختاركم ، فهو لكم ، وإن اختارني ، فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحداً " قالا : قد رددتنا على النصف ، وأحسنت ، فدعاه فقال : "هل تعرف هؤلاء ؟ " قال : نعم ، قال : " من هذا ؟ " قال : هذا أبي ، وهذا عمي ، قال : " فأنا من قد علمت ورأيت ، وعرفت صحبتي لك ، فاخترني أو اخترهما " قال : ما أنا بالذي أختار عليك أحداً أبداً ، أنت مني مكان الأب والعم ، فقالا : ويحك يا زيد ، أتختار العبودية على الحرية ، وعلى أبيك وعمك ، وعلى أهل بيتك ؟! قال : نعم ، قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، أخرجه إلى الحجر ، فقال :" أشهدكم أن زيداً ابني ، يرثنى وأرثه " فلما رأى ذلك أبوه وعمه ، طابت نفوسهما ، فانصرفا ، ودعي زيد بن محمد ، حتى جاء الله بالإسلام : فنزلت : " ادعوهم لآبائهم " ( الأحزاب : 5) فدعي من يومئذ : زيد بن حارثة . قال معمر في جامعه عن الزهري : ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد بن حارثة وهو الذي أخبر الله عنه في كتابه أنه أنعم عليه ، وأنعم عليه رسوله ، وسماه باسمه . وأسلم القس ورقة بن نوفل ، وتمنى أن يكون جذعاً إذ يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ، وفي جامع الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه في المنام في هيئة حسنة ، وفي حديث آخر : أنه رأه في ثياب بياض . ودخل الناس في الدين واحداً بعد واحد ، وقريش لا تنكر ذلك ، حتى بادأهم بعيب دينهم ، وسب آلهتهم ، وأنها لا تضر ولا تنفع ، فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة ، فحمى الله رسوله بعمه أبي طالب ، لأنه كان شريفاً معظماً في قريش، مطاعاً في أهله ، وأهل مكة لا يتجاسرون على مكاشفته بشئ من الأذى . وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه ، لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها . وأما أصحابه ، فمن كان له عشيرة تحميه ، امتنع بعشيرته ، وسائرهم تصدوا له بالأذى والعذاب ، منهم عمار بن ياسر ، وأمه سمية ، وأهل بيته ، عذبوا فى الله ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم وهم يعذبون يقول : " صبراً يا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة " . ومنهم بلال بن رباح ، فإنه عذب في الله أشد العذاب ، فهان على قومه ، وهانت عليه نفسه في الله ، وكان كلما اشتد عليه العذاب يقول : أحد أحد ، فيمر به ورقة بن نوفل . فيقول : إي والله يا بلال أحد أحد ، أما والله لئن قتلتموه لأتخذنه حناناً . |
اشتداد أذى المشركين على من أسلم
فصل ولما اشتد أذى المشركين على من أسلم ، وفتن منهم من فتن ، حتى يقولوا لأحدهم : اللات والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول: نعم ، وحتى إن الجعل ليمر بهم ، فيقولون : وهذا إلهك من دون الله ، فيقول : نعم . ومر عدو الله أبو جهل بسمية أم عمار بن ياسر ، وهي تعذب ، وزوجها وابنها ، فطعنها بحربة في فرجها حتى قتلها . كان الصديق إذا مر بأحد من العبيد يعذب ، اشتراه منهم ، وأعتقه ، منهم بلال ، وعامر بن فهيرة ، وأم عبيس ، وزنيرة ، والنهدية ، وابنتها ، وجارية لبني عدي كان عمر يعذبها على الإسلام قبل إسلامه ، وقال له أبوه : يا بني أراك تعتق رقاباً ضعافاً ، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت قوماً جلداً يمنعونك ، فقال له أبو بكر : إني أريد ما أريد . فلما اشتد البلاء ، أذن الله سبحانه لهم بالهجرة الأولى إلى أرض الحبشة ، وكان أول من هاجر إليها عثمان بن عفان ، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أهل هذه الهجرة الأولى اثني عشر رجلاً ، وأربع نسوة : عثمان ، وامرأته ، وأبو حذيفة ، وامرأتة سهلة بنت سهيل ، وأبو سلمة ، وامرأته أم سلمة هند بنت أبي أمية ، والزببر بن العوام ، ومصعب بن عمير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعثمان بن مظعون ، وعامر بن ربيعة ، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة ، وأبو سبرة بن أبي رهم ، وحاطب بن عمرو ، وسهيل بن وهب ، وعبد الله بن مسعود . وخرجوا متسللين سراً ، فوفق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار ، فحملوهم فيهما إلى أرض الحبشة ، وكان مخرجهم في رجب في السنة الخامسة من المبعث ، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤوا البحر ، فلم يدركوا منهم أحداً ، ثم بلغهم أن قريشاً قد كفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فرجعوا ، فلما كانوا دون مكة بساعة من نهار ، بلغهم أن قريشاً أشد ما كانوا عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل من دخل بجوار ، وفي تلك المرة دخل ابن مسعود ، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ، فلم يرد عليه ، فتعاظم ذلك على ابن مسعود ، حتى قال له النبى صلى الله عليه وسلم :" إن الله قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة " هذا هو الصواب ، وزعم ابن سعد وجماعة أن ابن مسعود لم يدخل ، وأنه رجع إلى الحبشة حتى قدم فى المرة الثانية إلى المدينة مع من قدم ، ورد هذا بأن ابن مسعود شهد بدراً ، وأجهز على أبي جهل ، وأصحاب هذه الهجرة إنما قدموا المدينة مع جعفر بن أبى طالب وأصحابه بعد بدر بأربع سنين أو خمس . قالوا : فإن قيل : بل هذا الذي ذكره ابن سعد يوافق قول زيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة ، يكلم الرجل صاحبه ، وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت : " وقوموا لله قانتين " ( البقرة : 238) فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام ، وزيد بن أرقم من الأنصار ، والسورة مدنية ، وحينئذ فابن مسعود سلم عليه لما قدم وهو في الصلاة ، فلم يرد عليه حتى سلم ، وأعلمه بتحريم الكلام ، فاتفق حديثه وحديث ابن أرقم . قيل : يبطل هذا شهود ابن مسعود بدراً ، وأهل الهجرة الثانية إنما قدموا عام خيبر مع جعفر وأصحابه ، ولو كان ابن مسعود ممن قدم قبل بدر ، لكان لقدومه ذكر ، ولم يذكر أحد قدوم مهاجري الحبشة إلا في القدمة الأولى بمكة ، والثانية عام خيبر مع جعفر ، فمتى قدم ابن مسعود في غير هاتين المرتين ومع من ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق ، قال : وبلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا إلى الحبشة إسلام أهل مكة ، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك ، حتى إذا دنوا من مكة ، بلغهم أن إسلام أهل مكة كان باطلاً ، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار ، أو مستخفياً . فكان ممن قدم منهم ، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة ، فشهد بدراً وأحداً فذكر منهم عبد الله بن مسعود . فإن قيل : فما تصنعون بحديث زيد بن أرقم ؟ قيل : قد أجيب عنه بجوابين ، أحدهما : أن يكون النهي عنه قد ثبت بمكة ، ثم أذن فيه بالمدينة ، ثم نهي عنه . والثاني : أن زيد بن أرقم كان من صغار الصحابة ، وكان هو وجماعة يتكلمون في الصلاة على عادتهم ، ولم يبلغهم النهي ، فلما بلغهم انتهوا ، وزيد لم يخبر عن جماعة المسلمين كلهم بأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة إلى حين نزول هذه الآية ، ولو قدر أنه أخبر بذلك لكان وهماً منه . ثم اشتد البلاء من قريش على من قدم من مهاجري الحبشة وغيرهم ، وسطت بهم عشائرهم ، ولقوا منهم أذى شديداً ، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية ، وكان خروجهم الثاني أشق عليهم وأصعب ، ولقوا من قريش تعنيفاً شديداً ، ونالوهم بالأذى ، وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم ، وكان عدة من خرج في هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلاً ، إن كان فيهم عمار بن ياسر ، فإنه يشك فيه ، قاله ابن إسحاق ، ومن النساء تسع عشرة امرأة . قلت : قد ذكر في هذه الهجرة الثانية عثمان بن عفان وجماعة ممن شهد بدراً ، فإما أن يكون هذا وهماً ، وإما أن يكون لهم قدمة أخرى قبل بدر ، فيكون لهم ثلاث قدمات : قدمة قبل الهجرة ، وقدمة قبل بدر ، وقدمة عام خيبر ، ولذلك قال ابن سعد وغيره : إنهم لما سمعوا مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً ، ومن النساء ثمان نسوة ، فمات منهم رجلاً بمكة ، وحبس بمكة سبعة ، وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً . فلما كان شهر ربيع الأول سنة سبع من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام ، وبعث به مع عمرو بن أمية الضمري ، فلما قرىء عليه الكتاب ، أسلم ، وقال: لئن قدرت أن آتيه لآتينه . وكتب إليه أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت فيمن هاجر إلى أرض الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش ، فتنصر هناك ومات ، فزوجه النجاشي إياها ، وأصدقها عنه أربعمائة دينار ، وكان الذي ولي تزويجها خالد بن سعيد بن العاص . وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه ، ويحملهم ، ففعل ، وحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري ، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، فوجدوه قد فتحها ، فكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يدخلوهم في سهامهم ، ففعلوا . وعلى هذا فيزول الإشكال الذي بين حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم ، ويكون ابن مسعود قدم في المرة الوسطى بعد الهجرة قبل بدر إلى المدينة ، وسلم عليه حينئذ ، فلم يرد عليه ، وكان العهد حديثاً بتحريم الكلام ، كما قال زيد بن أرقم ، ويكون تحريم الكلام بالمدينة ، لا بمكة ، وهذا أنسب بالنسخ الذي وقع في الصلاة والتغيير بعد الهجرة ، كجعلها أربعاً بعد أن كانت ركعتين ، ووجوب الاجتماع لها . فإن قيل : ما أحسنه من جمع وأثبته لو لا أن محمد بن إسحاق قد قال : ما حكيتم عنه أن ابن مسعود أقام بمكة بعد رجوعه من الحبشة حتى هاجر إلى المدينة ، وشهد بدراً ، وهذا يدفع ما ذكر . قيل : إن كان محمد بن إسحاق قد قال هذا ، فقد قال محمد بن سعد في طبقاته : إن ابن مسعود مكث يسيراً بعد مقدمه ، ثم رجع الى أرض الحبشة ، وهذا هو الأظهر ، لأن ابن مسعود لم يكن له بمكة من يحميه ، وما حكاه ابن سعد قد تضمن زيادة أمر خفي على ابن إسحاق ، وابن إسحاق لم يذكر من حدثه ، ومحمد بن سعد أسند ما حكاه إلى المطلب بن عبد الله بن حنطب ، فاتفقت الأحاديث ، وصدق بعضها بعضاً ، وزال عنها الإشكال ، ولله الحمد والمنة . وقد ذكر ابن إسحاق في هذه الهجرة إلى الحبشة أبا موسى الأشعري عبد الله بن قيس ، وقد أنكر عليه ذلك أهل السير ، منهم محمد بن عمر الواقدي وغيره ، وقالوا : كيف يخفى ذلك على ابن إسحاق أو على من دونه ؟ قلت : وليس ذلك مما يخفى على من دون محمد بن إسحاق فضلاً عنه ، وإنما نشأ الوهم أن أبا موسى هاجر من اليمن إلى أرض الحبشة إلى عند جعفر وأصحابه لما سمع بهم ، ثم قدم معهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، كما جاء مصرحاً به في الصحيح فعد ذلك ابن إسحاق لأبي موسى هجرة ، ولم يقل : إنه هاجر من مكة إلى أرض الحبشة لينكر عليه . |
هجرة المسلمين إلى الحبشة حين اشتد الأذى عليهم
فصل فانحاز المهاجرون إلى مملكة أصحمة النجاشي آمنين ، فلما علمت قريش بذلك ، بعثت في أثرهم عبد الله بن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص ، بهدايا وتحف من بلدهم إلى النجاشي ليردهم عليهم ، فأبى ذلك عليهم ، وشفعوا إليه بعظماء بطارقته ، فلم يجبهم إلى ما طلبوا ، فوشوا إليه : إن هؤلاء يقولون في عيسى قولاً عظيماً ، يقولون : إنه عبد الله ، فاستدعى المهاجرين إلى مجلسه ، ومقدمهم جعفر بن أبي طالب ، فلما أرادوا الدخول عليه ، قال جعفر : يستأذن عليك حزب الله ، فقال للآذن : قل له يعيد استئذانه ، فأعاده عليه ، فلما دخلوا عليه قال : ما تقولون في عيسى ؟ فتلا عليه جعفر صدراً من سورة ( كهيعص ) فأخذ النجاشى عوداً من الأرض فقال : ما زاد عيسى على هذا ولا هذا العود ، فتناخرت بطارقته عنده ، فقال: وإن نخرتم ، قال : اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي ، من سبكم غرم . والسيوم : الآمنون في لسانهم ، ثم قال للرسولين : لو أعطيتموني دبراً من ذهب ، يقول : جبلاً من ذهب ، ما أسلمتهم إليكما ، ثم أمر فردت عليهما هداياهما ورجعا مقبوحين . |
إسلام حمزة عم النبي وجماعة كثيرين وفشو الاسلام
فصل ثم أسلم حمزة عمه وجماعة كثيرون ، وفشا الإسلام ، فلما رأت قريش أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلو ، والأمور تتزايد ، أجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم ، وبني المطلب ، وبني عبد مناف ، أن لا يبايعوهم ، ولا يناكحوهم ، ولا يكلموهم ، ولا يجالسوهم ، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتبوا بذلك صحيفة ، وعلقوها في سقف الكعبة ، يقال : كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم ، ويقال : النضر بن الحارث ، والصحيح : أنه بغيض بن عامر بن هاشم فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشلت يده ، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم ، إلا أبا لهب ، فإنه ظاهر قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني هاشم ، وبني المطلب ، وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه في الشعب شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم ، سنة سبع من البعثة ، وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة ، وبقوا محبوسين ومحصورين ، مضيقاً عليهم جداً ، مقطوعاً عنهم الميرة والمادة ، نحو ثلاث سنين ، حتى بلغهم الجهد ، وسمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب ، وهناك عمل أبو طالب قصيدته اللامية المشهورة أولها : جزىالله عناعبد شمس ونوفلاً عقوبة شرعاجلاً غير آجل وكانت قريش في ذلك بين راض وكاره ، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارهاً لها ، وكان القائم بذلك هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك ، مشى في ذلك إلى المطعم بن عدي وجماعة من قريش ، فأجابوه إلى ذلك ، ثم أطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم ، وأنه أرسل عليها الأرضة فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم ، إلا ذكر الله عز وجل ، فأخبر بذلك عمه ، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا ، فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه ، وإن كان صادقاً ، رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا ، قالوا : قد أنصفت ، فأنزلوا الصحيفة ، فلما رأوا الأمر كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ازدادوا كفراً إلى كفرهم ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب . قال ابن عبد البر : بعد عشرة أعوام من المبعث ، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر ، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام ، وقيل : غير ذلك . |
خبر نقض الصحيفة
فصل فلما نقضت الصحيفة ، وافق موت أبي طالب وموت خديجة ، وبينهما يسير ، فاشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومه ، وتجرؤوا عليه ، فكاشفوه بالأذى ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف رجاء أن يؤووه وينصروه على قومه ، ويمنعوه منهم ، ودعاهم إلى الله عز وجل فلم ير من يؤوي ، ولم ير ناصراً ، وآذوه مع ذلك أشد الأذى ، ونالوا منه ما لم ينله قومه ، وكان معه زيد بن حارثة مولاه ، فأقام بينهم عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلمه ، فقالوا : أخرج من بلدنا ، وأغروا به سفهاءهم ، فوقفوا له سماطين ، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه ، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج فى رأسه ، فانصرف راجعاً من الطائف إلى مكة محزوناً ، وفي مرجعه ذلك دعا بالدعاء المشهور دعاء الطائف :" اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتى ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربى ، إلا من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني ؟ أو إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل علي غضبك ، أو أن ينزل بي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " . فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه ملك الجبال ، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة ، وهما جبلاها اللذان هي بينهما ، فقال : " لا ، بل أستأني بهم لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً " . فلما نزل بنخلة مرجعه ، قام يصلي من الليل ، فصرف إليه نفر من الجن ، فاستمعوا قراءته ، ولم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه : " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين " ( الأحقاف : 29-32) . وأقام بنخلة أياماً ، فقال له زيد بن حارثة : كيف تدخل عليهم ، وقد أخرجوك ؟ يعني قريشاً ، فقال : " يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً ، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه " . ثم انتهى إلى مكة فأرسل رجلاً من خزاعة إلى مطعم بن عدي : أدخل فى جوارك ؟ فقال : نعم ، ودعا بنيه وقومه ، فقال : البسوا السلاح ، وكونوا عند أركان البيت ، فإني قد أجرت محمداً ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة ، حتى انتهى إلى المسجد الحرام ، فقام المطعم بن عدي على راحلته ، فنادى : يا معشر قريش إني قد أجرت محمداً ، فلا يهجه أحد منكم ، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن ، فاستلمه ، وصلى ركعتين ، وانصرف إلى بيته ، والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته . |
الإسراء والمعراج
فصل ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح ، من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ، راكباً على البراق ، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام ، فنزل هناك ، وصلى بالأنبياء إماماً وربط البراق بحلقة باب المسجد . وقد قيل : إنه نزل ببيت لحم ، وصلى فيه ، ولم يصح ذلك عنه البتة . ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا ، فاستفتح له جبريل ، ففتح له ، فرأى هنالك آدم أبا البشر ، فسلم عليه ، فرد عليه السلام ، ورحب به ، وأقر بنبوته ، وأراه الله أرواح السعداء عن يمينه ، وأرواح الأشقياء عن يساره ، ثم عرج به إلى السماء الثانية ، فاستفتح له ، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم ، فلقيهما وسلم عليهما ، فردا عليه، ورحبا به ، وأقرا بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء الثالثة ، فرأى فيها يوسف ، فسلم عليه ، فرد عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته ثم عرج به إلى السماء الرابعة ، فرأى فيها إدريس . فسلم عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء الخامسة ، فرأى فيها هارون بن عمران ، فسلم عليه ورحب به ، وأقر بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء السادسة ، فلقي فيها موسى بن عمران ، فسلم عليه ورحب به ، وأقر بنبوته ، فلما جاوزه ، بكى موسى ، فقيل له ، ما يبكيك ؟ فقال : أبكي ، لأن غلاماً بعث من بعدي ، يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ، ثم عرج به إلى السماء السابعة ، فلقى فيها إبراهيم ، فسلم عليه ورحب به ، وأقر بنبوته ، ثم رفع إلى سدرة المنتهى ، ثم رفع له البيت المعمور ، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله ، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ، وفرض عليه خمسين صلاة . فرجع حتى مر على موسى ، فقال له : بم أمرت ؟ قال : بخمسين صلاة ، قال : إن أمتك لا تطيق ذلك ، ارجع إلى ربك ، فاسأله التخفيف لأمتك ، فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك ، فأشار أن نعم إن شأت ، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى ، وهو في مكانه . هذا لفظ البخاري في بعض الطرق ، فوضع عنه عشراً ، ثم أنزل حتى مر بموسى ، فأخبره فقال : إرجع إلى ربك ، فاسأله التخفيف ، فلم يزل يتردد بين موسى ، وبين الله عز وجل حتى جعلها خمساً ، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف ، فقال : قد استحييت من ربى ، ولكن أرضى وأسلم فلما بعد نادى مناد : قد أمضيت فريضتي ، وخففت عن عبادي . واختلف الصحابة : هل رأى ربه تلك الليلة ، أم لا ؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه ، وصح عنه أنه قال : رآه بفؤاده . وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك ، وقالا : إن قوله : " ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى " ( النجم : 13) إنما هو جبريل . وصح عن أبي ذر أنه سأله : هل رأيت ربك ؟ فقال : " نور أنى أراه " أي : حال بيني وبين رؤيته النور كما قال في لفظ آخر : " رأيت نوراً " . وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره . قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه : وليس قول ابن عباس : إنه رآه مناقضاً لهذا ، ولا قوله : رآه بفؤاده وقد صح عنه أنه قال : " رأيت ربي تبارك وتعالى " ولكن لم يكن هذا في الإسراء ، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح ، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه ، وعلى هذا بنى الإمام أحمد رحمه الله تعالى ، وقال : نعم رآه حقاً ، فإن رؤيا الأنبياء حق ، ولا بد ، ولكن لم يقل أحمد رحمه الله تعالى : إنه رآه بعيني رأسه يقظة ، ومن حكى عنه ذلك ، فقد وهم عليه ، ولكن قال مرة : رآه ، ومرة قال : رآه بفؤاده فحكيت عنه روايتان ، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه : أنه رآه بعيني رأسه ، وهذه نصوص أحمد موجودة ، ليس فيها ذلك . وأما قول ابن عباس : أنه رآه بفؤاده مرتين ، فإن كان استناده إلى قوله تعالى : " ما كذب الفؤاد ما رأى " ( النجم :11) ثم قال : " ولقد رآه نزلة أخرى " ( النجم :13) والظاهر أنه مستنده ، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل ، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها ، وقول ابن عباس هذا هو مستند الإمام أحمد في قوله : رآه بفؤاده ، والله أعلم . وأما قوله تعالى في سورة النجم : " ثم دنا فتدلى " ( النجم : 8) فهو غير الدنو والتدلي في قصة الإسراء ، فإن الذي في ( سورة النجم ) هو دنو جبريل وتدليه ، كما قالت عائشة وابن مسعود ، والسياق يدل عليه ، فإنه قال : " علمه شديد القوى " ( النجم :5) وهو جبريل " ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى " ( النجم :6-8) ، فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى ، وهو ذو المرة ، أي : القوة ، وهو الذي استوى بالأفق الأعلى ، وهو الذي دنى فتدلى، فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قدر قوسين أو أدنى ، فأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء ، فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتدليه ولا تعرض في ( سورة النجم ) لذلك ، بل فيها أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، وهذا هو جبريل ، رآه محمد صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين : مرة في الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى ، والله أعلم . |
اشتداد أذى المشركين وتكذيبهم حين أخبرهم رسول الله بالإسراء
فصل فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه ، أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى ، فاشتد تكذيبهم له ، وأذاهم وضراوتهم عليه ، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس ، فجلاه الله له حتى عاينه ، فطفق يخبرهم عن آياته ، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئاً . وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه ، وأخبرهم عن وقت قدومها وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها ، وكان الأمر كما قال ، فلم يزدهم ذلك إلا نفوراً ، وأبى الظالمون إلا كفوراً . |
تحقيق القول فى أن الإسراء كان بجسده وروحه
فصل وقد نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا : إنما كان الإسراء بروحه ، ولم يفقد جسده ، ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك ، ولكن ينبغى أن يعلم الفرق بين أن يقال : كان الإسراء مناماً ، وبين أن يقال : كان بروحه دون جسده ، وبينهما فرق عظيم ، وعائشة ومعاوية لم يقولا : كان مناماً ، وإنما قالا : أسري بروحه ولم يفقد جسده ، وفرق بين الأمرين ، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة ، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء ، أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض ، وروحه لم تصعد ولم تذهب ، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال ، والذين قالوا : عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان : طائفة قالت : عرج بروحه وبدنه ، وطائفة قالت : عرج بروحه ولم يفقد بدنه ، وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناماً ، وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها ، وعرج بها حقيقة ، وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة ، وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة في صعودها إلى السماوات سماء سماء حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة ، فتقف بين يدي الله عز وجل ، فيأمر فيها بما يشاء ، ثم تنزل إلى الأرض والذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة . ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم ، لكن لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مقام خرق العوائد ، حتى شق بطنه، وهو حي لا يتألم بذلك ، عرج بذات روحه المقدسة حقيقة من غير إماتة ، ومن سواه لا ينال بذات روحه الصعود إلى السماء إلا بعد الموت والمفارقة ، فالأنبياء إنما استقرت أرواحهم هناك بعد مفارقة الأبدان ، وروح رسول الله صلى الله عليه وسلم صعدت إلى هناك في حال الحياة ثم عادت ، وبعد وفاته استقرت في الرفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ومع هذا ، فلها إشراف على البدن وإشراق وتعلق به ، بحيث يرد السلام على من سلم عليه وبهذا التعلق رأى موسى قائماً يصلي في قبره ، ورآه في السماء السادسة . ومعلوم أنه لم يعرج بموسى من قبره ، ثم رد إليه ، وإنما ذلك مقام روحه واستقرارها ، وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها ، فرآه يصلي في قبره ، ورآه في السماء السادسة ، كما أنه صلى الله عليه وسلم في أرفع مكان في الرفيق الأعلى مستقراً هناك ، وبدنه في ضريحه غير مفقود ، وإذا سلم عليه المسلم رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ، ولم يفارق الملأ الأعلى ، ومن كثف إدراكه ، وغلظت طباعه عن إدراك هذا ، فلينظر إلى الشمس في علو محلها ، وتعلقها ، وتأثيرها في الأرض ، وحياة النبات والحيوان بها ، هذا وشأن الروح فوق هذا ، فلها شأن ، وللأبدان شأن ، وهذه النار تكون في محلها ، وحرارتها تؤثر في الجسم البعيد عنها ، مع أن الارتباط والتعلق الذي بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتم ، فشأن الروح أعلى من ذلك وألطف . فقل للعيون الرمد إياك أن تري سنا الشمس فاستغشي ظلام اللياليا |
الصحيح أن الاسراء كان مرة واحدة
فصل قال موسى بن عقبة عن الزهري : عرج بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وإلى السماء قبل خروجه الى المدينة بسنة . وقال ابن عبد البر وغيره : كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران انتهى . وكان الإسراء مرة واحدة . وقيل : مرتين : مرة يقظة ، ومرة مناماً ، وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك ، وقوله : ثم استيقظت ، وبين سائر الروايات ، ومنهم من قال : بل كان هذا مرتين ، مرة قبل الوحي لقوله في حديث شريك : وذلك قبل أن يوحى إليه ومرة بعد الوحي ، كما دلت عليه سائر الأحاديث ، ومنهم من قال : بل ثلاث مرات : مرة قبل الوحي ، ومرتين بعده ، وكل هذا خبط ، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات ، جعلوه مرة أخرى ، فكلما اختلفت عليهم الروايات ، عددوا الوقائع ، والصواب الذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة . ويا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه مراراً ، كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه فى كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين ، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً ، ثم يقول : أمضيت فريضتي ، وخففت عن عبادي ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ، ثم يحطها عشراً عشراً ، وقد غلط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء ومسلم أورد المسند منه ثم قال : فقدم وأخر وزاد ونقص ، ولم يسرد الحديث ، فأجاد رحمه الله . |
مبدأ الهجرة إلى المدينة
فصل في مبدأ الهجرة التي فرق الله فيها بين أوليائه وأعدائه ، وجعلها مبدأ لإعزاز دينه ونصر عبده ورسوله : قال الواقدي : حدثني محمد بن صالح ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان وغيرهما قالوا : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفياً ، ثم أعلن في الرابعة ، فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين ، يوافي الموسم كل عام ، يتبع الحاج في منازلهم ، وفي المواسم بعكاظ ، ومجنة ، وذي المجاز ، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة ، فلا يجد أحداً ينصره ولا يجيبه ، حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ، ويقول : " يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ، وتملكوا بها العرب ، وتذل لكم بها العجم ، فإذا آمنتم ، كنتم ملوكاً في الجنة " وأبو لهب وراءه يقول : لا تطيعوه فإنه صابىء كذاب ، فيردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح الرد ، ويؤذونه ، ويقولون : أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك ، وهو يدعوهم إلى الله ، ويقول : " اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا " قال: وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم ، وعرض نفسه عليهم : بنو عامر بن صعصعة ، ومحارب بن حصفة ، وفزارة ، وغسان ، ومرة ، وحنيفة ، وسليم ، وعبس ، وبنو النضر ، وبنو البكاء ، وكندة ، وكلب ، والحارث بن كعب ، وعذرة ، والحضارمة ، فلم يستجب منهم أحد . |
لقياه لمن قدم من الأوس والخزرج
فصل وكان مما صنع الله لرسوله أن الأوس والخزرج كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة أن نبياً من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج ، فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم ، وكانت الأنصار يحجون البيت كما كانت العرب تحجه دون اليهود ، فلما رأى الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله عز وجل ، وتأملوا أحواله ، قال بعضهم لبعض : تعلمون والله يا قوم أن هذا الذي توعدكم به يهود ، فلا يسبقنكم إليه . وكان سويد بن الصامت من الأوس قد قدم مكة ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يبعد ولم يجب حتى قدم أنس بن رافع أبو الحيسر في فتية من قومه من بني عبد الأشهل يطلبون الحلف ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقال إياس بن معاذ وكان شاباً حدثاً : يا قوم هذا والله خير مما جئنا له ، فضربه أبو الحيسر وانتهره ، فسكت ، ثم لم يتم لهم الحلف ، فانصرفوا إلى المدينة. |
لقي النبي ستة نفر من الخزرج
فصل ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة فى الموسم ستة نفر من الأنصار كلهم من الخزرج ، وهم : أبو أمامة أسعد بن زرارة ، وعوف بن الحارث ، ورافع بن مالك ، وقطبة بن عامر ، وعقبة بن عامر ، وجابر بن عبد الله بن رئاب ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلموا . ثم رجعوا إلى المدينة ، فدعوهم إلى الإسلام ، ففشا الإسلام فيها حتى لم يبق دار إلا وقد دخلها الإسلام ، فلما كان العام المقبل ، جاء منهم اثنا عشر رجلاً ، الستة الأول خلا جابر بن عبد الله ، ومعهم معاذ بن الحارث بن رفاعة أخو عوف المتقدم ، وذكوان بن عبد القيس ، وقد أقام ذكوان بمكة حتى هاجر إلى المدينة ، فيقال : إنه مهاجري أنصاري ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، وأبو الهيثم بن التيهان وعويمر بن مالك هم اثنا عشر . وقال أبو الزبير: عن جابر إن النبي صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسم ، ومجنة ، وعكاظ ، يقول :" من يؤويني ؟ من ينصرني ؟ حتى أبلغ رسالات ربي ، وله الجنة ، " فلا يجد أحداً ينصره ولا يؤويه ، حتى إن الرجل ليرحل من مضر أو اليمن إلى ذي رحمه ، فيأتيه قومه فيقولون له : احذر غلام قريش لا يفتنك ، ويمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله عز وجل ، وهم يشيرون إليه بالأصابع ، حتى بعثنا الله من يثرب ، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن ، فينقلب إلى أهله ، فيسلمون بإسلامه ، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين ، يظهرون الإسلام ، وبعثنا الله إليه ، فائتمرنا واجتمعنا وقلنا : حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف ، فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم ، فواعدنا بيعة العقبة ، فقال له عمه العباس : يا ابن أخي ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاؤوك ، إني ذو معرفة بأهل يثرب ، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين ، فلما نظر العباس في وجوهنا ، قال : هؤلاء قوم لا نعرفهم ، هؤلاء أحداث ، فقلنا : يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال : " تبايعوني على السمع والطاعة ، في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم ، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم ، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة" فقمنا نبايعه ، فأخذ بيده أسعد بن زرارة ، وهو أصغر السبعين ، فقال : رويداً يا أهل يثرب : إنا لم نضرب إليه أكباد المطى إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة ، وقتل خياركم ، وأن تعضكم السيوف ، فإما أنتم تصبرون على ذلك ، فخذوه ، وأجركم على الله ، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه ، فهو أعذر لكم عند الله ، فقالوا : يا أسعد أمط عنا يدك ، فوالله لا نذر هذه البيعة ، ولا نستقيلها ، فقمنا إليه رجلاً رجلاً ، فأخذ علينا وشرط ، يعطينا بذلك الجنة . ثم انصرفوا إلى المدينة ، وبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم ، ومصعب بن عمير يعلمان من أسلم منهم القرآن ، ويدعوان إلى الله عز وجل ، فنزلا على أبي أمامة أسعد بن زرارة ، وكان مصعب بن عمير يؤمهم ، وجمع بهم لما بلغوا أربعين فأسلم على يديهما بشر كثير ، منهم أسيد بن الحضير ، وسعد بن معاذ ، وأسلم بإسلامهما يومئذ جميع بني عبد الأشهل الرجال والنساء ، إلا أصيراً عمرو بن ثابت بن وقش ، فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد ، وأسلم حينئذ ، وقاتل فقتل قبل أن يسجد لله سجدة ، فأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "عمل قليلاً ، وأجر كثيراً " . وكثر الإسلام بالمدينة ، وظهر ، ثم رجع مصعب إلى مكة ، ووافى الموسم ذلك العام خلق كثير من الأنصار من المسلمين والمشركين ، وزعيم القوم البراء بن معرور ، فلما كانت ليلة العقبة الثلث الأول من الليل تسلل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خفية من قومهم ، ومن كفار مكة ، على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأزرهم ، فكان أول من بايعه ليلتئذ البراء بن معرور ، وكانت له اليد البيضاء ، إذ أكد العقد ، وبادر إليه ، وحضر العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكداً لبيعته كما تقدم ، وكان إذ ذاك على دين قومه ، واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم تلك الليلة اثني عشر نقيباً ، وهم : أسعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن مالك والبراء بن معرور ، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ، وكان إسلامه تلك الليلة ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، وعبادة بن الصامت ، فهؤلاء تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس : أسيد بن الحضير ، وسعد بن خيثمة ، ورفاعة بن عبد المنذر . وقيل : بل أبو الهيثم بن التيهان مكانه . وأما المرأتان : فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو ، وهي التي قتل مسيلمة ابنها حبيب بن زيد ، وأسماء بنت عمرو بن عدي . فلما تمت هذه البيعة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يميلوا على أهل العقبة بأسيافهم ، فلم يأذن لهم في ذلك ، وصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ صوت سمع : يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذا أزب العقبة ، هذا ابن أزيب ، أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك ". ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم ، فلما أصبح القوم ، غدت عليهم جلة قريش وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار ، فقالوا : يا معشر الخزرج ، إنه بلغنا أنكم لقيتم صاحبنا البارحة ، وواعدتموه أن تبايعوه على حربنا ، وايم الله ما حي من العرب أبغض إلينا من أن ينشب بيننا وبينه الحرب منكم ، فانبعث من كان هناك من الخزرج من المشركين ، يحلفون لهم بالله : ما كان هذا وما علمنا ، وجعل عبد الله بن أبي بن سلول يقول : هذا باطل ، وما كان هذا ، وما كان قومي ليفتاتوا علي مثل هذا ، لو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني ، فرجعت قريش من عندهم ، ورحل البراء بن معرور ، فتقدم إلى بطن يأجج ، وتلاحق أصحابه من المسلمين ، وتطلبتهم قريش ، فأدركوا سعد بن عبادة ، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله ، وجعلوا يضربونه ويجرونه ، ويجذبونه بجمته حتى أدخلوه مكة ، فجاء مطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية ، فخلصاه من أيديهم ، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه ، فإذا سعد قد طلع عليهم ، فوصل القوم جميعاً إلى المدينة . فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة ، فبادر الناس إلى ذلك ، فكان أول من خرج إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد ، وامرأته أم سلمة ، ولكنها احتبست دونه ، ومنعت من اللحاق به سنة ، وحيل بينها وبين ولدها سلمة ، ثم خرجت بعد السنة بولدها إلى المدينة ، وشيعها عثمان بن أبي طلحة . ثم خرج الناس أرسالاً يتبع بعضهم بعضاً ، ولم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر وعلي ، أقاما بأمره لهما ، وإلا من احتبسه المشركون كرهاً ، وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج ، وأعد أبو بكر جهازه . |
لقي النبي ستة نفر من الخزرج
فصل ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة فى الموسم ستة نفر من الأنصار كلهم من الخزرج ، وهم : أبو أمامة أسعد بن زرارة ، وعوف بن الحارث ، ورافع بن مالك ، وقطبة بن عامر ، وعقبة بن عامر ، وجابر بن عبد الله بن رئاب ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلموا . ثم رجعوا إلى المدينة ، فدعوهم إلى الإسلام ، ففشا الإسلام فيها حتى لم يبق دار إلا وقد دخلها الإسلام ، فلما كان العام المقبل ، جاء منهم اثنا عشر رجلاً ، الستة الأول خلا جابر بن عبد الله ، ومعهم معاذ بن الحارث بن رفاعة أخو عوف المتقدم ، وذكوان بن عبد القيس ، وقد أقام ذكوان بمكة حتى هاجر إلى المدينة ، فيقال : إنه مهاجري أنصاري ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، وأبو الهيثم بن التيهان وعويمر بن مالك هم اثنا عشر . وقال أبو الزبير: عن جابر إن النبي صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسم ، ومجنة ، وعكاظ ، يقول :" من يؤويني ؟ من ينصرني ؟ حتى أبلغ رسالات ربي ، وله الجنة ، " فلا يجد أحداً ينصره ولا يؤويه ، حتى إن الرجل ليرحل من مضر أو اليمن إلى ذي رحمه ، فيأتيه قومه فيقولون له : احذر غلام قريش لا يفتنك ، ويمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله عز وجل ، وهم يشيرون إليه بالأصابع ، حتى بعثنا الله من يثرب ، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن ، فينقلب إلى أهله ، فيسلمون بإسلامه ، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين ، يظهرون الإسلام ، وبعثنا الله إليه ، فائتمرنا واجتمعنا وقلنا : حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف ، فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم ، فواعدنا بيعة العقبة ، فقال له عمه العباس : يا ابن أخي ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاؤوك ، إني ذو معرفة بأهل يثرب ، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين ، فلما نظر العباس في وجوهنا ، قال : هؤلاء قوم لا نعرفهم ، هؤلاء أحداث ، فقلنا : يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال : " تبايعوني على السمع والطاعة ، في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم ، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم ، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة" فقمنا نبايعه ، فأخذ بيده أسعد بن زرارة ، وهو أصغر السبعين ، فقال : رويداً يا أهل يثرب : إنا لم نضرب إليه أكباد المطى إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة ، وقتل خياركم ، وأن تعضكم السيوف ، فإما أنتم تصبرون على ذلك ، فخذوه ، وأجركم على الله ، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه ، فهو أعذر لكم عند الله ، فقالوا : يا أسعد أمط عنا يدك ، فوالله لا نذر هذه البيعة ، ولا نستقيلها ، فقمنا إليه رجلاً رجلاً ، فأخذ علينا وشرط ، يعطينا بذلك الجنة . ثم انصرفوا إلى المدينة ، وبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم ، ومصعب بن عمير يعلمان من أسلم منهم القرآن ، ويدعوان إلى الله عز وجل ، فنزلا على أبي أمامة أسعد بن زرارة ، وكان مصعب بن عمير يؤمهم ، وجمع بهم لما بلغوا أربعين فأسلم على يديهما بشر كثير ، منهم أسيد بن الحضير ، وسعد بن معاذ ، وأسلم بإسلامهما يومئذ جميع بني عبد الأشهل الرجال والنساء ، إلا أصيراً عمرو بن ثابت بن وقش ، فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد ، وأسلم حينئذ ، وقاتل فقتل قبل أن يسجد لله سجدة ، فأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "عمل قليلاً ، وأجر كثيراً " . وكثر الإسلام بالمدينة ، وظهر ، ثم رجع مصعب إلى مكة ، ووافى الموسم ذلك العام خلق كثير من الأنصار من المسلمين والمشركين ، وزعيم القوم البراء بن معرور ، فلما كانت ليلة العقبة الثلث الأول من الليل تسلل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خفية من قومهم ، ومن كفار مكة ، على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأزرهم ، فكان أول من بايعه ليلتئذ البراء بن معرور ، وكانت له اليد البيضاء ، إذ أكد العقد ، وبادر إليه ، وحضر العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكداً لبيعته كما تقدم ، وكان إذ ذاك على دين قومه ، واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم تلك الليلة اثني عشر نقيباً ، وهم : أسعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن مالك والبراء بن معرور ، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ، وكان إسلامه تلك الليلة ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، وعبادة بن الصامت ، فهؤلاء تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس : أسيد بن الحضير ، وسعد بن خيثمة ، ورفاعة بن عبد المنذر . وقيل : بل أبو الهيثم بن التيهان مكانه . وأما المرأتان : فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو ، وهي التي قتل مسيلمة ابنها حبيب بن زيد ، وأسماء بنت عمرو بن عدي . فلما تمت هذه البيعة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يميلوا على أهل العقبة بأسيافهم ، فلم يأذن لهم في ذلك ، وصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ صوت سمع : يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذا أزب العقبة ، هذا ابن أزيب ، أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك ". ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم ، فلما أصبح القوم ، غدت عليهم جلة قريش وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار ، فقالوا : يا معشر الخزرج ، إنه بلغنا أنكم لقيتم صاحبنا البارحة ، وواعدتموه أن تبايعوه على حربنا ، وايم الله ما حي من العرب أبغض إلينا من أن ينشب بيننا وبينه الحرب منكم ، فانبعث من كان هناك من الخزرج من المشركين ، يحلفون لهم بالله : ما كان هذا وما علمنا ، وجعل عبد الله بن أبي بن سلول يقول : هذا باطل ، وما كان هذا ، وما كان قومي ليفتاتوا علي مثل هذا ، لو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني ، فرجعت قريش من عندهم ، ورحل البراء بن معرور ، فتقدم إلى بطن يأجج ، وتلاحق أصحابه من المسلمين ، وتطلبتهم قريش ، فأدركوا سعد بن عبادة ، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله ، وجعلوا يضربونه ويجرونه ، ويجذبونه بجمته حتى أدخلوه مكة ، فجاء مطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية ، فخلصاه من أيديهم ، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه ، فإذا سعد قد طلع عليهم ، فوصل القوم جميعاً إلى المدينة . فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة ، فبادر الناس إلى ذلك ، فكان أول من خرج إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد ، وامرأته أم سلمة ، ولكنها احتبست دونه ، ومنعت من اللحاق به سنة ، وحيل بينها وبين ولدها سلمة ، ثم خرجت بعد السنة بولدها إلى المدينة ، وشيعها عثمان بن أبي طلحة . ثم خرج الناس أرسالاً يتبع بعضهم بعضاً ، ولم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر وعلي ، أقاما بأمره لهما ، وإلا من احتبسه المشركون كرهاً ، وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج ، وأعد أبو بكر جهازه . |
تآمر المشركين للفتك به وإيذان الله له بالهجرة
فصل فلما رأى المشركون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا ، وخرجوا ، وحملوا ، وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج ، وعرفوا أن الدار دار منعة ، وأن القوم أهل حلقة وشوكة وبأس ، فخافوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ولحوقه بهم ، فيشتد عليهم أمره ، فاجتمعوا في دار الندوة ، ولم يتخلف أحد من أهل الرأي والحجا منهم ليتشاوروا في أمره ، وحضرهم وليهم وشيخهم إبليس في صورة شيخ كبير من أهل نجد مشتمل الصماء في كسائه ، فتذاكروا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار كل أحد منهم برأي ، والشيخ يرده ولا يرضاه ، إلى أن قال أبو جهل : قد فرق لي فيه رأي ما أراكم قد وقعتم عليه ، قالوا : ما هو ؟ قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاماً نهداً جلداً ، ثم نعطيه سيفاً صارماً ، فيضربونه ضربة رجل واحد ، فيتفرق دمه في القبائل ، فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك كيف تصنع ، ولا يمكنها معاداة القبائل كلها ، ونسوق إليهم ديته ، فقال الشيخ : لله در الفتى ، هذا والله الرأي ، قال : فتفرقوا على ذلك ، واجتمعوا عليه ، فجاءه جبريل بالوحي من عند ربه تبارك وتعالى ، فأخبره بذلك ، وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة . وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر نصف النهار في ساعة لم يكن يأتيه فيها متقنعاً ، فقال له : "أخرج من عندك " فقال : إنما هم أهلك يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أذن لي في الخروج " فقال أبو بكر : الصحابة يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم " فقال أبو بكر : فخذ بأبي وأمي إحدى راحلتى هاتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بالثمن " . وأمر علياً أن يبيت في مضجعه تلك الليلة ، واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلعون من صير الباب ويرصدونه ، ويريدون بياته، ويأتمرون أيهم يكون أشقاها ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فأخذ حفنة من البطحاء ، فجعل يذره على رؤوسهم ، وهم لا يرونه ، وهو يتلو : " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " ( يس: 9 ) ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبى بكر ، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلاً ، وجاء رجل ، ورأى القوم ببابه فقال : ما تنتظرون ؟ قالوا : محمداً ، قال : خبتم وخسرتم قد والله مر بكم وذر على رؤوسكم التراب ، قالوا : والله ما أبصرناه ، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم ، وهم : أبو جهل ، والحكم بن العاص ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، وأمية بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، وطعيمة بن عدي ، وأبو لهب ، وأبي بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، فلما أصبحوا ، قام علي عن الفراش ، فسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا علم لي به . ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى غار ثور ، فدخلاه ، وضرب العنكبوت على بابه . وكانا قد استأجرا عبد الله بن أريقط الليثي ، وكان هادياً ماهراً بالطريق ، وكان على دين قومه من قريش ، وأمناه على ذلك ، وسلما إليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ، وجدت قريش في طلبهما ، وأخذوا معهم القافة ، حتى انتهوا إلى باب الغار ، فوقفوا عليه . ففي الصحيحين أن أبا بكر قال : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا فقال : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن فإن الله معنا " وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يسمعان كلامهم فوق رؤوسهما ، ولكن الله سبحانه عمى عليهم أمرهما ، وكان عامر بن فهيرة يرعى عليهما غنماً لأبي بكر ، ويتسمع ما يقال بمكة ، ثم يأتيهما بالخبر ، فإذا كان السحر سرح مع الناس . قالت عائشة : وجهزناهما أحث الجهاز ، ووضعنا لهما سفرة في جراب ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها ، فأوكت به الجراب ، وقطعت الأخرى فصيرتها عصاماً لفم القربة ، فلذلك لقبت ، ذات النطاقين . وذكر الحاكم في مستدركه عن عمر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار ، ومعه أبو بكر ، فجعل يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله ، فقال له : يا رسول الله أذكر الطلب ، فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد ، فأمشي بين يديك فقال : " يا أبا بكر لو كان شئ أحببت أن يكون بك دوني ؟ " قال : نعم والذي بعثك بالحق ، فلما انتهى إلى الغار قال أبو بكر : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار ، فدخل ، فاستبرأه ، حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة ، فقال : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الجحرة ثم قال : انزل يا رسول الله ، فنزل فمكثا في الغار ثلاث ليال حتى خمدت عنهما نار الطلب ، فجاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين ، فارتحلا ، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة ، وسار الدليل أمامهما ، وعين الله تكلؤهما ، وتأييده يصحبهما ، وإسعاده يرحلهما وينزلهما . ولما يئس المشركون من الظفر بهما ، جعلوا لمن جاء بهما دية كل واحد منهما ، فجد الناس في الطلب ، والله غالب على أمره ، فلما مروا بحي بني مدلج مصعدين من قديد ، بصر بهم رجل من الحي ، فوقف على الحي فقال : لقد رأيت آنفاً بالساحل أسودة ما أراها إلا محمداً وأصحابه ، ففطن بالأمر سراقة بن مالك ، فأراد أن يكون الظفر له خاصة ، وقد سبق له من الظفر ما لم يكن في حسابه ، فقال : بل هم فلان وفلان ، خرجا في طلب حاجة لهما ، ثم مكث قليلاً ، ثم قام فدخل خباءه وقال لخادمه : اخرج بالفرس من وراء الخباء ، وموعدك وراء الأكمة ، ثم أخذ رمحه ، وخفض عاليه يخط به الأرض حتى ركب فرسه ، فلما قرب منهم وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر يكثر الالتفات ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت ، فقال أبو بكر : يا رسول الله هذا سراقة بن مالك قد رهقنا ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسه في الأرض ، فقال : قد علمت أن الذي أصابني بدعائكما ، فادعوا الله لي ، ولكما علي أن أرد الناس عنكما ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأطلق ، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتاباً ، فكتب له أبو بكر بأمره في أديم وكان الكتاب معه إلى يوم فتح مكة ، فجاءه بالكتاب فوفاه له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يوم وفاء وبر ، وعرض عليهما الزاد والحملان ، فقالا : لا حاجة لنا به ، ولكن عم عنا الطلب ، فقال : قد كفيتم ، ورجع فوجد الناس فى الطلب ، فجعل يقول : قد استبرأت لكم الخبر ، وقد كفيتم ما ها هنا ، وكان أول النهار جاهداً عليهما ، وآخره حارساً لهما . |
فصل مروره بخيمتي أم معبد
ثم مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرة ذلك حتى مر بخيمتي أم معبد الخزاعية ، وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء الخيمة ، ثم تطعم وتسقي من مر بها ، فسألاها : هل عندها شئ ؟ فقالت : والله لو كان عندنا شئ ما أعوزكم القرى ، والشاء عازب ، وكانت سنة شهباء ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة ، فقال : " ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ " قالت : شاة خلفها الجهد عن الغنم ، فقال : " هل بها من لبن "؟ قالت : هي أجهد من ذلك ، فقال : " أتأذنين لي أن أحلبها ؟" قالت : نعم بأبي وأمي ، إن رأيت بها حلباً فاحلبها ، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها ، وسمى الله ودعا ، فتفاجت عليه ، ودرت ، فدعا بإناء لها يربض الرهط ، فحلب فيه حتى علته الرغوة ، فسقاها فشربت حتى رويت ، وسقى أصحابه حتى رووا ، ثم شرب ، وحلب فيه ثانياً ، حتى ملأ الإناء ، ثم غادره عندها ، فارتحلوا ، فقلما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً ، يتساوكن هزالاً لا نقي بهن ، فلما رأى اللبن ، عجب ، فقال : من أين لك هذا ، والشاة عازب ؟ ولا حلوبة في البيت ؟ فقالت : لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت ، ومن حاله كذا وكذا . قال : والله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلبه ، صفيه لي يا أم معبد ، قالت : ظاهر الوضاءة ، أبلج الوجه ، حسن الخلق ، لم تعبه ثجلة ، ولم تزر به صعلة ، وسيم قسيم ، في عينيه دعج ، وفي أشفاره وطف ، وفي صوته صحل ، وفي عنقه سطع ، أحور ، أكحل ، أزج ، أقرن ، شديد سواد الشعر ، إذا صمت علاه الوقار ، وإن تكلم ، علاه البهاء ، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد ، وأحسنه وأحلاه من قريب ، حلو المنطق ، فصل ، لا نزر ولا هذر ، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن ، ربعة ، لا تقحمه عين من قصر ، ولا تشنؤه من طول ، غصن بين غصنين ، فهو أنضر الثلاثة منظراً ، وأحسنهم قدراً ، له رفقاء يحفون به ، إذا قال : استمعوا لقوله ، وإذا أمر ، تبادروا إلى أمره ، محفود محشود ، لا عابس ولا مفند ، فقال أبو معبد : والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا ، لقد هممت أن أصحبه ، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً ، وأصبح صوت بمكة عالياً يسمعونه ولا يرون القائل : جزى الله رب العرش خير جزائــه رفيقين حـــلا خيمتـي أم معبـد همــــا نزلا بالبــــر وارتحــلا بـــه وأفلــح من أمسى رفيق محمد فيا لقصـــي مــــا زوى الله عنــكم به من فعال لا يجازى وسـودد ليهـــن بني كعـــب مكان فتاتهــــم ومقعدهـــا للمــؤمنين بمــرصــد سلــوا أختكم عــن شاتها وإنــائها فإنكم إن تسألوا الشاء تشــهد قالت أسماء بنت أبي بكر : ما درينا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة ، فأنشد هذه الأبيات ، والناس يتبعونه ويسمعون صوته ، ولا يرونه حتى خرج من أعلاها ، قالت : فلما سمعنا قوله ، عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن وجهه إلى المدينة . |
خروج الأنصار إلى ظاهر المدينة لاستقباله
فصل وبلغ الأنصار مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، وقصده المدينة ، وكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه أول النهار ، فإذا اشتد حر الشمس ، رجعوا على عادتهم إلى منازلهم ، فلما كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة ، خرجوا على عادتهم ، فلما حمي حر الشمس رجعوا ، وصعد رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة لبعض شأنه ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين ، يزول بهم السراب ، فصرخ بأعلى صوته : يا بنى قيلة هذا صاحبكم قد جاء ، هذا جدكم الذي تنتظرونه ، فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف ، وكبر المسلمون فرحاً بقدومه ، وخرجوا للقائه ، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة ، فأحدقوا به مطيفين حوله ، والسكينة تغشاه ، والوحي ينزل عليه " فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير " ( التحريم : 4 ) ، فسار حتى نزل بقباء في بني عمرو بن عوف ، فنزل على كلثوم بن الهدم ، وقيل : بل على سعد بن خيثمة ، والأول أثبت ، فأقام في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء ، وهو أول مسجد ، أسس بعد النبوة . فلما كان يوم الجمعة ركب بأمر الله له ، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف ، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي . ثم ركب ، فأخذوا بخطام راحلته ، هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة ، فقال : " خلوا سبيلها ، فإنها مأمورة " فلم تزل ناقته سائرة به لا تمر بدار من دور الأنصار إلا رغبوا إليه في النزول عليهم ، ويقول : " دعوها فإنها مأمورة " فسارت حتى وصلت إلى موضع مسجده اليوم ، وبركت ، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلاً ، ثم التفتت ، فرجعت ، فبركت في موضعها الأول ، فنزل عنها ، وذلك في بني النجار أخواله صلى الله عليه وسلم . وكان من توفيق الله لها ، فإنه أحب أن ينزل على أخواله ، يكرمهم بذلك ، فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم ، وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله ، فأدخله بيته ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " المرء مع رحله " وجاء أسعد بن زرارة، فأخذ بزمام راحلته ، وكانت عنده وأصبح كما قال أبو قيس صرمة الأنصاري ، وكان ابن عباس يختلف إليه يتحفظ منه هذه الأبيات : ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكــر لــو يلقى حبيباً مواتيــــا ويعرض في أهل المواسم نفســـه فلم ير من يؤوي ولم ير داعيــــا فلمـــا أتــانـــا واستقرت به النوى وأصبح مسروراً بطيبة راضيــــا وأصبح لا يخشى ظـــلامة ظــــالم بعيد ولا يخشى من الناس باغيا بذلنــا لــه الأموال من حـــل مالنـــا وأنــفسنا عنــد الوغـــى والتآسيا نعادي الذي عادى من الناس كلهم جميعـاً وإن كان الحبيب المصافيا ونعلـــم أن الـلـــــه لا رب غـيــــره وأن كتـــاب الله أصبـــح هاديـــا قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فأمر بالهجرة وأنزل عليه : " وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا " ( الإسراء : 80) . قال قتادة : أخرجه الله من مكة إلى المدينة مخرج صدق ونبي الله يعلم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان ، فسأل الله سلطاناً نصيراً ، وأراه الله عز وجل دار الهجرة ، وهو بمكة فقال : أريت دار هجرتكم بسبخة ذات نخل بين لابتين . وذكر الحاكم في مستدركه عن علي بن أبي طالب أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : " من يهاجر معي ؟ " قال : أبو بكر الصديق . قال البراء : أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم ، فجعلا يقرئان الناس القرآن ، ثم جاء عمار وبلال وسعد ، ثم جاء عمر بن الخطاب رضى الله عنه في عشرين راكباً ، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما رأيت الناس فرحوا بشئ كفرحهم به حتى رأيت النساء والصبيان والإماء يقولون : هذا رسول الله قد جاء . وقال أنس : شهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوماً قط ، كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل المدينة علينا ، وشهدته يوم مات ، فما رأيت يوماً قط ، كان أقبح ولا أظلم من يوم مات . فأقام في منزل أبي أيوب حتى بنى حجره ومسجده ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في منزل أبي أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع ، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه ، وسودة بنت زمعة زوجته ، وأسامة بن زيد ، وأمه أم أيمن ، وأما زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يمكنها زوجها أبو العاص بن الربيع من الخروج ، وخرج عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبي بكر ، ومنهم عائشة فنزلوا في بيت حارثة بن النعمان . |
فصل في بناء المسجد
قال الزهري : بركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم موضع مسجده وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين ، وكان مربداً لسهل وسهيل غلامين يتيمين من الأنصار ، كانا في حجر أسعد بن زرارة ، فساوم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين بالمربد ، ليتخذه مسجداً ، فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فابتاعه منهما بعشرة دنانير ، وكان جداراً ليس له سقف ، وقبلته إلى بيت المقدس ، وكان يصلي فيه ويجمع أسعد بن زرارة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان فيه شجرة غرقد وخرب ونخل وقبور للمشركين ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبور فنبشت ، وبالخرب فسويت وبالنخل والشجر فقطعت وصفت في قبلة المسجد ، وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع ، والجانبين مثل ذلك أو دونه ، وجعل أساسه قريباً من ثلاثة أذرع ، ثم بنوه باللبن ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني معهم ، وينقل اللبن والحجارة بنفسه ويقول : اللهم لا عيش إلا عيش الآخــــرة فاغفر للأنصار والمهاجرة وكان يقول : هــذا الحمــال لا حمـــال خــيبــر هــذا أبــــر ربنــا وأطهــر وجعلوا يرتجزون ، وهم ينقلون اللبن ، ويقول بعضهم في رجزه : لئن قـعدنــا والرســـول يعمـــــل لــذاك منــا العمــل المضلــل وجعل قبلته إلى بيت المقدس ، وجعل له ثلاثة أبواب : باباً في مؤخره ، وباباً يقال له : باب الرحمة ، والباب الذي يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعل عمده الجذوع ، وسقفه بالجريد ، وقيل له : ألا تسقفه ، فقال : " لا ، عريش كعريش موسى " وبنى إلى جنبه بيوت أزواجه باللبن ، وسقفها بالجريد والجذوع ، فلما فرغ من البناء بنى بعائشة في البيت الذي بناه لها شرقي المسجد قبليه ، وهما مكان حجرته اليوم ، وجعل لسودة بنت زمعة بيتاً آخر . |
مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار
فصل ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك ، وكانوا تسعين رجلاً ، نصفهم من المهاجرين ، ونصفهم من الأنصار ، آخى بينهم على المواساة ، يتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر ، فلما أنزل الله عز وجل : " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " ( الأحزاب :6) رد التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوة . وقد قيل : إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية ، واتخذ فيها علياً أخاً لنفسه والثبت الأول ، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام ، وأخوة الدار ، وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار ، ولو آخى بين المهاجرين ، كان أحق الناس بأخوته أحب الخلق إليه ورفيقه في الهجرة ، وأنيسه في الغار ، وأفضل الصحابة وأكرمهم عليه أبو بكر الصديق وقد قال : " لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن أخوة الإسلام أفضل " وفي لفظ " ولكن أخي و صاحبي " وهذه الأخوة في الإسلام وإن كانت عامة ، كما قال : " وددت أن قد رأينا إخواننا قالوا : ألسنا إخوانك ؟ قال أنتم أصحابي ، وإخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني " فللصديق من هذه الأخوة أعلى مراتبها ، كما له من الصحبة أعلى مراتبها ، فالصحابة لهم الأخوة ، ومزية الصحبة ، ولأتباعه بعدهم الأخوة دون الصحبة . |
موادعته من بالمدينة من اليهود
فصل ووادع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بالمدينة من اليهود ، وكتب بينه وبينهم كتاباً ، وبادر حبرهم وعالمهم عبد الله بن سلام ، فدخل في الإسلام ، وأبى عامتهم إلا الكفر . وكانوا ثلاث قبائل : بنو قينقاع ، وبنو النضير ، وبنو قريظة ، وحاربه الثلاثة ، فمن على بني قينقاع ، وأجلى بني النضير ، وقتل بني قريظة ، وسبى ذريتهم ، ونزلت ( سورة الحشر ) في بني النضير، و ( سورة الأحزاب ) في بني قريظة . |
فصل في تحويل القبلة
فصل وكان يصلي إلى قبلة بيت المقدس ، ويحب أن يصرف إلى الكعبة ، وقال لجبريل : " وددت أن يصرف الله وجهي عن قبلة اليهود " فقال : إنما أنا عبد فادع ربك ، واسأله فجعل يقلب وجهه في السماء يرجو ذلك حتى أنزل الله عليه : " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام " ( البقرة : 144) وذلك بعد ستة عشر شهراً من مقدمه المدينة قبل وقعة بدر بشهرين . قال محمد بن سعد : أخبرنا هاشم بن القاسم ، قال : أنبأنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي قال : ما خالف نبي نبياً قط في قبلة ، ولا في سنة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس حين قدم المدينة ستة عشر شهراً ، ثم قرأ : " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك " ( الشورى : 13) . وكان لله في جعل القبلة إلى بيت المقدس ، ثم تحويلها إلى الكعبة حكم عظيمة ، ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين . فأما المسلمون ، فقالوا : سمعنا وأطعنا وقالوا : " آمنا به كل من عند ربنا " ( آل عمران : 7) وهم الذين هدى الله ، ولم تكن كبيرة عليهم . وأما المشركون ، فقالوا : كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا وما رجع إليها إلا أنه الحق . وأما اليهود ، فقالوا : خالف قبلة الأنبياء قبله ، ولو كان نبياً ، لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء . وأما المنافقون ، فقالوا : ما يدري محمد أين يتوجه إن كانت الأولى حقاً ، فقد تركها ، وإن كانت الثانية هي الحق ، فقد كان على باطل ، وكثرت أقاويل السفهاء من الناس ، وكانت كما قال الله تعالى : " وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " ( البقرة :143) وكانت محنة من الله امتحن بها عباده ، ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه . ولما كان أمر القبلة وشأنها عظيماً ، وطأ - سبحانه - قبلها أمر النسخ وقدرته عليه ، وأنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله ، ثم عقب ذلك بالتوبيخ لمن تعنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينقد له ، ثم ذكر بعده اختلاف اليهود والنصارى ، وشهادة بعضهم على بعض بأنهم ليسوا على شئ ، وحذر عباده المؤمنين من موافقتهم ، واتباع أهوائهم ، ثم ذكر كفرهم وشركهم به ، وقولهم : إن له ولداً ، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً ، ثم أخبر أن له المشرق والمغرب ، وأينما يولي عباده وجوههم ، فثم وجهه ، وهو الواسع العليم ، فلعظمته وسعته وإحاطته أينما يوجه العبد ، فثم وجه الله . ثم أخبر أنه لايسأل رسوله عن أصحاب الجحيم الذين لا يتابعونه ولا يصدقونه ، ثم أعلمه أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ، وأنه إن فعل ، وقد أعاذه الله من ذلك ، فماله من الله من ولي ولا نصير ، ثم ذكرأهل الكتاب بنعمته عليهم ، وخوفهم من بأسه يوم القيامة ، ثم ذكر خليله باني بيته الحرام ، وأثنى عليه ومدحه وأخبر أنه جعله إماماً للناس ، يأتم به أهل الأرض ، ثم ذكر بيته الحرام ، وبناء خليله له ، وفي ضمن هذا أن باني البيت كما هو إمام للناس ، فكذلك البيت الذي بناه إمام لهم ، ثم أخبر أنه لا يرغب عن ملة هذا الإمام إلا أسفه الناس ، ثم أمرعباده أن يأتموا برسوله الخاتم ، ويؤمنوا بما أنزل إليه وإلى إبراهيم ، وإلى سائر النبيين ، ثم رد على من قال : إن إبراهيم وأهل بيته كانوا هوداً أو نصارى ، وجعل هذا كله توطئة ومقدمة بين يدي تحويل القبلة ، ومع هذا كله ، فقد كبر ذلك على الناس إلا من هدى الله منهم ، وأكد سبحانه هذا الأمر مرة بعد مرة ، بعد ثالثة ، وأمر به رسوله حيثما كان ، ومن حيث خرج ، وأخبر أن الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم هو الذي هداهم إلى هذه القبلة ، وأنها هي القبلة التي تليق بهم ، وهم أهلها ، لأنها أوسط القبل وأفضلها ، وهم أوسط الأمم وخيارهم ، فاختار أفضل القبل لأفضل الأمم ، كما اختار لهم أفضل الرسل ، وأفضل الكتب ، وأخرجهم في خير القرون ، وخصهم بأفضل الشرائع ، ومنحهم خير الأخلاق ، وأسكنهم خير الأرض ، وجعل منازلهم في الجنة خير المنازل ، وموقفهم في القيامة خير المواقف ، فهم على تل عال ، والناس تحتهم ، فسبحان من يختص برحمته من يشاء ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم . وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك لئلا يكون للناس عليهم حجة ، ولكن الظالمون الباغون يحتجون عليهم بتلك الحجج التي ذكرت ، ولا يعارض الملحدون الرسل إلا بها وبأمثالها من الحجج الداحضة ، وكل من قدم على أقوال الرسول سواها فحجته من جنس حجج هؤلاء . وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك ليتم نعمته عليهم ، وليهديهم ، ثم ذكرهم نعمه عليهم بإرسال رسوله إليهم ، وإنزال كتابه عليهم ، ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، ثم أمرهم بذكره وبشكره ، إذ بهذين الأمرين يستوجبون إتمام نعمه ، والمزيد من كرامته ، ويستجلبون ذكره لهم ، ومحبته لهم ، ثم أمرهم بما لا يتم لهم ذلك إلا بالاستعانة به ، وهو الصبر والصلاة ، وأخبرهم أنه مع الصابرين . |
الساعة الآن 08:40 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
][ ملاحظة: جميع المشاركات تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تمثل راي ادارة المنتدى بالضرورة، نأمل من الجميع الالتزام بقوانين الحوار المحترم ][