المسافر
12-18-2005, 12:37 AM
الرسالة الثالثة
صباح الخير من مدريد
ما أخبارها الفلة ؟
بها أوصيك يا أمي
تلك الطفلة الطفلة
فقد كانت أحبّ حبيبة لأبي
يدللها كطفلته
ويدعوها إلى فنجان قهوته
ويسقيها .. ويطعمها
ويغمرها برحمته ..
.. ومات أبي
ولا زالت تعيش بحلم عودته
وتبحث عنه في أرجاء غرفته
وتسأل عن عباءته
وتسأل عن جريدته
وتسأل ـ حين يأتي الصيف عن فيروز عينيه
لتنثر فوق كفيه ..
دنانيرا من الذهب ..
معاني الكلمات :
يدللها : يعاملها بحب وحنان / أرجاء : أنحاء /دنانير : العملة العربية القديمة المنصوعة من الذهب ( والمعنى الدلالي أشعة الشمس )
رؤية :
يستهل الشاعر حديثه عن صورة أخرى من صورغربته بالإشارة إلى البعد المكاني فإن كان سابقا اشار إلى البعد الزمني ( مضى عامان ) فهنا يضع البعد المكاني ليدل أيضا على طول المسافة وبالتالي شدة الاشتياق الناتج عن هذا البعد ( صباح الخير من مدريد ) ولعله أراد من ذلك إشارة خفية تؤدي نفس الغرض ( شدة الاشتياق ) حيث أشار إلى مدريد تحديدا والتي هي جزء من ( أسبانيا ـ الأندلس عربيا سابقا ) ليضفي بعدا آخر تاريخيا يذكره بالوطن وخاصة أن الأندلس هي إمتداد للدولة الأموية والتي مقرها ( دمشق ) مسقط رأس الشاعر وبذلك تكون إضافة أخرى تزيد شوقه ولوعته إلى وطنه .
إلا أن الشاعر أضفى غموضا شديدا في جملته التالية ( ما أخبارها الفلة ) فالضمير ضمير الغائبة والتي يصلح أن يشير إلى الأسماء الظاهرة السابقة عليه إلا المعنى العام للمقطع يمنع ذلك ومحاولة للخروج من هذه الأزمة يمكن الإشارة إلى أن المراد من الضمير الاسم التالي له ( الفلة ) وعليه يكون المقصود هنا شجرة للفل كان أبوه يعتني بها والدليل على ذلك قوله ( بها أوصيك ياأمي ـ تشبيهه لها بالطفلة ) ومن ثمّ يصور في لوحة جميلة مدى اهتمام أبيه اهذه الشجرة كدلالة معنوية لحجم عطف الأب وتأصل تلك الصفة فيه حتى أنها تعدت تأثيرها من الإنسان إلى النبات .
فيصور كيف أن الأب يحنو عليها مرتبط بها في صور جزئية متتالية حية بواسطة الفعل المضارع ( يدلل ـ يدعو ـ يسقي ـ يغمر ) ليضفي على أبيه البعد الإنساني الأصيل في صورة حنوه على النبات وكانه إنسان ومدى ارتباط الأب بهذه الشجرة وعليه تكون الوصية في موضعها تماما .
وبالتالي يكو نالارتباط متبادلا أيضا من الشجرة حيث يضفي عليها البعد الإنساني فيجعلها تشتاق إليه في أفعال متتابعة تدل على مدى الشوق ومن قبلها انتقالية حادة بجملة خبرية شديدة الإيجاز وثرية المدلول ( ومات أبي ) فالفاصل بين الصورتين هذه الجملة الحاسمة القصيرة ولعله لم يشأ الشاعر ان يثير أحزانه فمر عليها سريعا ، وعليه جعل الشجرة في صورة إنسانية تظهر شوقها لهذا الغائب بأفعال مضارعة ليبعث الحياة في الصورة و متسارعة ومتتابعة ليدل على شدة الشوق من الشجرة ( الزالت ـ تعيش ـ تبحث ـ تسأل ـ لتنثر ) وهكذا ليضعنا أمام صورتين حيّتين من الحنان وما يقلبله .
الجمال :
والشاعر يعتمد في هذه الرسالة على عدد من الألوان البلاغية ليصل إلى ما يهدف إليه من تفاعل المتلقي معه ، سواء أكان المراد صورة حنان الأب أم صورة وفاء الشجرة له ، فأولا من حيث الصورة الفنية التي تبعث الحياة في ذهن المتلقي بأبعادها الثلاثية ( حركية وصوتية ولونية ) فمن حيث الحركة ( يدلل ـ يدعو ـ يسقي ـ يطعم ـ يغمر ـ تبحث ـ يأتي ) ومن حيث الصوت ( يدلل ـ يدعو ـ يغمر ت تسأل ـ تبحث ) واللون ( طفلة ـ غرفة ـ عباءة ـ جريدة ـ فيروز ) لتشكل معا صورة مرئية لحنان الأب و صورة أخرى لوفاء الشجرة .
كما استخدم الشاعرأيضا الأساليب بنوعيها الإنشائية في مثل الاستفهام ( ما أخبارها ) للتشويق وإظهار الشوق ، والخبرية في مثل ( مات أبي ) للتقرير وإظهار الحسرة واللوعة ، كذلك من التقريرية ( فقد كانت أحب .. ، ولازالت .. ) أو لإظهار الشوق ( تبحث ـ تسأل ... )
كما استخدم الشاعر الاستعارة لتشخيص المعنى المجرد المعنوي سواء في حلة حنان الأب حين أضفي على الشجرة صفة الإنسانية ( فيدعوها ـ يسقيها ـ يغمرها .. ) أو في حالة الوفاء للأب ( تعيش ـ تسأل تنثر ) كما استخدم الاستعارة التصريحية في مثل قوله ( تنثر فوق كفيه دنانيرا من الذهب ) وبالطبع المقصود هنا نثر اشعة الشمس التي تشبه الدنانير ، ( لاحظ التناص من الشاعر المتنبي ) كما استخدم الشاعر المجاز المرسل في قوله ( مدريد ) وعلاقته الكلية إن كان القصد البعد لمكاني أو علاقته الجزئية إن كان قصده البعد التناريخي ( يقصد إسبانيا ـ أو الأندلس )
ثمّ التكرار للفظ ( الطفلة ) ليدل على مدى حنان الأب الذي يصور له الشجرة بالطفلة ( وهنا فيه تشبيه حيث شبه الشجرة بالطفلة ) ولفعل ( تسأل ) ليدل على شدة الشوق وقوة الوفاء وإصرار الشجرة على معرفة مصير من حنا عليها .
الرسالة الرابعة
سلامات .. سلامات
إلى بيت سقانا الحبّ والرحمة
إلى أزهارك البيضاء
فرحة ( ساحة النجمة )
إلى تختي إلى كتبي
إلى أطفال حارتنا
وحيطان ملأناها بفوضى من كتابتنا
إلى قطط كسولات
تنام علىمشارقنا
وليلكة معرشة على شباك جارتنا
مضى عامان ياأمي
ووجه دمشق
عصفور يخربش في جوانحنا
يعضّ على ستائرنا
وينقر برفق من أصابعنا
مضى عامان ياأمي
وليل دمشق فلّ دمشق
دور دمشق
تسكن في خواطرنا
مآذنها تضيء على مراكبنا
كأن مآذن الأموي قد زرعت بداخلنا
كأن مشاتل التفاح تعبق في ضمائرنا
كأن الضوء والأحجار
جاءت كلّها معنا
معاني الكلمات :
كسولات : خاملات معرشة : كثيرة ومترابطة الأغصان تشبه العريش ( السقف ) / يخربش : من خربش بمعنى أفسد وجرح بأظافره
ستائرنا : قماش يصنع منه ما يستر داخل البيت أو الحجرة ( الدلالي أسرارنا ) / ينقر : يضرب بمنقاره / مشاتل : مفردها مشتل وهي الأرض التي تخصص لاستخراج البذوز من نباتها .
رؤية :
وإن كان الشاعر في رسائله السابقة حاول استعراض أوجه الحنين والاشتياق في صورتي الأم والأب وهي صورة شديدة الخصوصية له ، فهنا يحاول أن يخرج من هذه الدائرة الضيقة لصورة أرحب تسع البيت والمدرسة والحي ومن ثم المدينة الأم ( والتي هي جزء من الوطن الكبير ) فيبدأ جريا على عادة العرب بالدعاء لما يحب ( صورة تقليدية متأثرا فيها بمن سبقوه ) والدعاء هنا بالسلامة والأمن وتدرج فيه بدأ من البيت إلى دائرة أوسع ( ساحة الحي ) ثم من يجاوروه من جمادات ( التختة ـ الجدران ـ الكتب ) ومنها إلى حيوانات الحي ( القطط ) انتهاءا للإنسان الجارة وبيتها وأطفال الحارة ، ولاحظ معي الصفات التي أسندها على تلك الرموز المحيطة به ( فالأزهار تعني الفرحة ـ ومرح الأطفال يتمثل في الكتابة على الجدران ـ القطط كسولات من فرط التدليل لها ولإطمئنانها ) ليخرج من ذلك إلى ماهو أرحب بكثير ( دمشق ) ليستعرض منها أهم رموزها هي الأخرى والمؤثرة فيه فكل دمشق دائما ما تأتي لخاطره تؤلمه بسبب البعد وبسبب أنها تثير فيه أسراره معها ثمّ اليل الذي هو حياة الشعراء وعبق المدينة ( الفل ) ومساكنها التي تعني الارتباط الوثيق بالأرض والمدينة ككل ، ثم الخلفية الدينية ( المآذن ) للرجل المشرقي كإحدى سماته الأصيلة والتي تنير له طريقه ( مراكبنا ) ثم الخلفية التاريخية الإسلامي ( مآذن الأموي ) التي تشكل الهوية للإنسان ، ومن ثم ما يميز المدينة ( مشاتل التفاح ) وهو في ذلك دائما ما يذكر بمدى البعد الزمني بينه وبين ما يحب ( مضى عامان ) ليزيد من تصوير ألم البعد والاشتياق ، فالنتيجة المحتومة لهذا كله أن الوطن ( المتمثل في دمشق ) دائما معه سواء المعنوي منه ( الضوء ) أو المادي منه ( الأحجار ) ونقصد بالمادي هنا الخلفيات الثقافية المشكلة للهوية .
الجمال :
ولأن الشاعر في هذه الرسالة يقدم لنا صورة عامة قد تكون مبهمة في ذهن المتلقي نجده يميل إلى التجسيد ( التشبيه ) ومن ثم إلى التشخيص للصفات ، فمن التجسيد تشبيهه الأزهار بالفرحة للساحة ، وكذلك لوجه دمشق بالعصفور ثم التتابع في التشبيهات ( كأنّ ) مرة ليؤكد على الخلفية الثقافية والتاريخية فيجعل ( المآذن ) تزرع و( المشاتل ) بتأثيرها المعنوي ( تعبق ) وكذلك الرموز للدلالات المعنوي والمادية إنسان يأتي معه أينما سار وتحول الشاعر إلى الاستعارات منذ البداية لتشخيص الصفة التي يرديها
فالبيت يسقي ـ القطط كسولات ـ وجه دمشق ـ يعضّ على ستائرنا ـ تسكن في خواطرنا ـ تضيء مراكبنا ـ زرعت بداخلنا ـ تعبق في ضمائرنا ـ جاءت كلها معنا ) وكلها استعارات مكنية تضفي الكثير من الحياة في الجمادات و المجرّدات التي يتناولها الشاعر بالذكر .
ذم الكناية في ( المراكب للطريق والسفرـ والمآذن للخلفية الدينية ـ ومآذن الأموي للخلفية التاريخية والكسل للتدليل والأمن ـ الستائر للنفس )
أما المجاز فقد أكثر من استعماله في مثل ( تختي ) علاقته المحلية فهو يريد المدرسة ـ و( كتبي ) علاقته المسببية لأنه يريد زمن الدراسة والكتب نتيجة لهذا الزمن ـ و ( ليل ) علاقته الجزئية لأنه يريد الأوقات السعيدة لليل ـ و( فل ) علاقته السببية لانه يريد الأثر النفسي الذي يأتي من رائحة الفل ومن رؤيته ـ و ( دور ) علاقته المحلية لأنه ذكر المحل وأراد من يسكنون الدور
ولكي يدل الشاعر على التخصيص يستخدم التكرارفي حرف الجر إلى ( والتي تعني النتهاء الزمن أو المكاني للغاية ) ليخصص الدعاء للشيء المذكور بعد حرف الجر وأخيرا التكرار في الجملة الخبرية ( مضى عامان ) ليؤكد على الأثر النفسي للبعد الزمني عنده وخاصة مع بداية الحديث عن شيء جديد .
الرسالة الخامسة
أتى أيلول يا أماه ..
وجاء الحزن يحمل لي هداياه
ويترك عند نافذتي
مدامعه وشكواه
أتي أيلول .. أين دمشق ؟
أين أبي وعيناه
واين حرير نظرته ، وأين عبيرقهوته
سقى الرحمان مثواه
وأين رحاب منزلنا الكبير واين نعماه ؟
واين مدارج الشمشير .. تضحك في زواياه
وأين طفولتي فيه ؟
أجرجر ذيل قطته
وآكل من عريشته
وأقطف من بنفشاه
دمشق دمشق..
يا شعرا
على أحداق أعيننا كتبناه
معاني الكلمات :
عبير : الشذا والرائحة / مدارج : مفردها مدْرج وهي الطريق والمسلك
أجرجر : أجذب وأسحب / حدقات : مفردها حدقة وهو السواد المستديرداخل العين
رؤية :
وبجمل خبرية تقريرية ( لاحظ استخدام الفعل الماضي للدلالة على توكيد الحدوث للمعنى بدلا من الفعل المضارع الذي اعتاد الشاعر استخدامه في الرسائل السابقة لمناسبة المعنى المراد طرحه ) يبدأ الشاعر رسالته الخامسة بالانتقال من مناطق الشوق لديه إلى الآلام التي دائما ما تصاحب المغترب وهي مناطق الجرح ، المتمثل في شهر ( أيلول ) والجدير بالذكر أن هذا الشهر يحمل للشاعر من منطلق قومي المأساة الفلسطينية والمذابح التي حلّت بهم على أيد عربية ( مذابح أيلول في الأردن ) وعليه ينتقل الشاعر بأسلوبه السياسي المعروف عنه ووبسخريته المعهودة والمميزة له ، فيجعل ذلك الحزن يحمل الهدايا وهي رمز للحب والتواصل والسلام وهنا تنبع روعة الأداء لنزار حيث جمع الضدّين معا ( الحزن والهدايا ) لتقترب منه لتنفذ إليه ( ويترك عند نافذتي ) والمعنى الدلالي للنافذة هو الذاكرة أو المدخل للنفس فماذا في الهدايا ( مدامع ) الألم والتعبير عنه و ( شكواه ) الأثر الناتج عنه أو المردود الملائم للألم ثمّ اتقال رائع آخر حيث يعقد الشاعر مقارنة بين تلك الأحداث ومدينته الحبيبة إليه ( دمشق ) لذا لم يستخدم الشاعر حرف العطف الذي اعتاد عليه ( الواو ) ليربط ولكنه قال ( أتي أيلول .. أين دمشق ) ليشير إلى المقارنة لا للإرتباط وكأنه يعتب عتابا رقيقا على وطنه بتلهيه عن المأساة بنفسه ثم يربط ذلك كله بما يحزنه شخصيا ( أين أبي وعيناه ) بخيط رقيق ليجمع كل أحزانه في توالي جميل يسقط على النفس المدلول لكلمة ( هدايا ) السابقة ذكرها ولاحظ ذكره للأب بصفته ( الحنان ) الذي افتقده من موقف الوطن ( أين دمشق ) ولذلك لم يكن غريبا أن يشير هذه المرة إلى المنزل ولكنه يصبغ عليه صفة ( الكبير ) ولعله أراد من ذلك الوطن الأم ( الوطن العربي ) لذك عبر عن ذلك كله بقوله ( وأين رحاب منزلنا الكبير ) ومنه يخرج إلى فقد أيام طفولته ( البراءة ) لذا يتساءل عن الطفوله بالنسبة له ( فيه ) أي موقع هذه الطفولة من ذلك الحزن ليذكر مرح الطفولة من معاكسة القطط ( أجرجر) والانطلاق ( آكل من ـ وأقطف من ) لكنه آثر أن ينهي القصيدة بغير ذلك الحزن وكأنه يريد أن يقول فبرغم أيّ شيء فالوطن أعز الأشياء عنده ( دمشق دمشق ) ولاحظ التكرار ومع النداء المحذوف للدلالة على القرب المعنوي منه ليخبرها أنها أحب الأشياء ( يا شعرا ) وهي ساكنة في أعز المواطن لديه ( على حدقات أعيننا ) نمارسه ونستلذه ( كتبناه ) وكم كان الشاعر موفقا حينما غير من قافيته في هذه الرسالة من السكون للهاء أو التاء المربوطة ( والتي تنطق مع السكون هاءا ) إلى الهاء المشبعة بالمدّ المفتوح لتحدث الأثر النفسي عند المتلقي بالانكسار الشديد .
الجمال :
ولأن الشاعر بصدد الإشارة إلى المشاعرالحزينة لديه وهي أشياء معنوية يتحول إلى التشخيص ( الاستعارة ) وخاصة المكنية منها في مثل ( جاء الحزن ـ يحمل ـ يترك ـ مدامعه ـ هداياه ـ حرير نظرته ـ عبير قهوته ـ على حدقات أعيننا كتبناه )
ثم ليعبر عن تجسيد موقع الوطن من النفس يتحول إلى التشبيه ( دمشق دمشق يا شعرا ) ولاحظ البساطة في التشبيه فقد وازن بين دمشق والشعر في الموقع بالنسبة لقلب شاعر ، ولكي يعبر عن التمزق ودون أن يصرح بل يلمح فقط يستخدم الأسلوب الإنشائي الطلبي ( الاستفهام ) حينما يعتب على وطنه في التلهي عن المأساة الفلسطينية بأداة الاستفهام ( أين ) ليدل على الاستنكار تارة علة الحسرة تارة أخرى في ( أين طفولتي منه ) كذلك جمله الخبرية التقريرية بالفعل الماضي المؤكد لحدوث المعنى ( أتى أيلول ـ جاء الحزن ) وللدعاء في مثل ( سقى الرحمان مثواه ) .
كما أن الشاعر استخدم المجاز للتلميح وليس للتصريح في مثل قوله ( أيلول ) باعتبار ما كان فيه وليس باعتبار ما حدث فيه و ( عيناه ) وعلاقته السببية فالعين هي المرآة لحالة النفس والتي يستشف منها الحلة المزاجية للأب و( دمشق ) وعلاقته المحلية فهو يريد أهل دمشق أما عن الكناية عن المرح ففي قوله ( أجرجر ذيل قطته ) ولانطلاق ( أقطف من بنفشاه ) .
نظرة عامة على النص
أجاد الشاعر استخدام أدواته المتاحة لديه فمنها :
1 / الموسيقى : سواء الخارجية منها والمتمثلة في تفعيلة ( مُفا عَلَتُنْ ) وهذه التفعيلة تتميز بوجود مقطعين لها في صورتها الأساسية ومعنى هذا استطاعتها احتمال أكثر من كلمة واحدة وتلائم الوصف في مثل ( وأين رحاب منزلنا ـ وأين حريرنظرته ـ أجرجرذيل قطته ـ وآكل من عريشته ..ألخ ) كما أن لها القدرة أن تناسب التدافع للعاطفة حينما تتحول إلى صورتها الثانوية ( مُفاعلْتنْ ) ولاحظ التوالي في السواكن مما يدفع القاريء غلى التتابع وذلك يناسب وصف الشعور وخاصة الاشتياق منها واللهفة في مثل ( صباح الخير يا أمي ـ مضى عامان يا أمي ـ أنا وحدي ـ وأحزاني ـ أتى أيلول .ألخ ) .
أما عن القافية كعنصر ثانٍ للموسيقى الخارجية فقد نوع الشاعر منها وما يناسب المعنى فتارة يجعلها ( الهاء الساكنة ) في مثل صباح الخير يا حلوةْ ) أو السكون فقط مع تغير حرف الروي في مثل ( أبحرْ ) وتكون لها ميزة الوقف المفاجيء والذي يعطي الدلالة على الشدة ثم يعيد القافية إلى الهاء ولكن هذه المرة المتحركة أو المشبعة بالمدّ عند حالة الحزن كما في الرسالة الخامسة والتي كما أسلفنا تعطي الإيحاء بالانكسار .
2 / الموسيقى الداخلية ونعني بذلك مدى مناسب الكلمات للمعنى العام والغرض منها وتلاؤمها بالنسبة لموقعها وأجاد الشاعر ايضا حيث استخدم الفعل المضارع الموحي بالحركة والحياة عند وصفه مثلا صورة المرأة التي افتقدها مع الترحال ( تمشط .... ) وصورة الأب ( يدلل ... ) على حين يستخدم الفعل الماضي للدلالة على الثبوت والتوكيد في إسقاطه حالة الحزن على النفس وخاصة في الرسالة الخامسة أو حينما يدلل على البعد الزمني ( مضى ) ومع توالي حرف العطف ليوحي بالتوالي والتتابع للصور الجزئية لرسائله .
3 / أسلوب الشاعر :
ونجد الشاعر يتميز بعدد من المميزات التي تدل على الشخصية النزارية والتي اعتبرها النقادو عدّوها مدرسة بحد ذاتها ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
أ ـ الألفاظ السهلة القريبة من الدارجة والتي تعبر عن خصوصية معجم الشاعر في مثل ( السكر ـ الحلوة ـ فلة )
ب ـ استخدام اللهجة في مثل ( بنفشاه ـ ليلكة )
ج ـ الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة والدقيقة للصورة الفنية لديه في مثل وصف المرأة التي يبحث عنها ( أمه ) أو في وصف حنان الأب
د ـ التنوع في القافية واستخدام شعر التفعيلة برغم تمكن نزار من استخدام العمودية في الشعر بل قد بدأبه حياته الشعرية كما أنه يميل إلى استخدام الضمائر كقافية .
و ـ الاهتمام بالقضايا القوميه واسلوبه الساخر في عرض تأثيرها
ع ـ البعد عن التعقيد الفكري والاسقاطات الكثيرة في الشعر ، فبرغم أن الشاعر قد يحسب على المدرسة الحداثية أو على أقل تقدير بداتها مثل الشاعر بدر شاكر السياب إلاأن الشاعر يميل إلى الفكرة الواضحة ولا يميل إلى التواري خلف الرمز كثيرا .
زـ البساطة في الجملة الشعرية والتي يعتقد الكثيرون أنها أقرب إلى اللغة العادية منها للغة الشعر الموحية والمقعرة .
ص ـ النتقال السل والمنطقي للفكرة والصورة فبدأ بالذات ثم إلى الأم ومنها إلى الأب ومن ثم إلى الوطن الكبير ليخرج منه إلى الجرح ليعود مرة أخرى إلى أحضان الوطن .
صباح الخير من مدريد
ما أخبارها الفلة ؟
بها أوصيك يا أمي
تلك الطفلة الطفلة
فقد كانت أحبّ حبيبة لأبي
يدللها كطفلته
ويدعوها إلى فنجان قهوته
ويسقيها .. ويطعمها
ويغمرها برحمته ..
.. ومات أبي
ولا زالت تعيش بحلم عودته
وتبحث عنه في أرجاء غرفته
وتسأل عن عباءته
وتسأل عن جريدته
وتسأل ـ حين يأتي الصيف عن فيروز عينيه
لتنثر فوق كفيه ..
دنانيرا من الذهب ..
معاني الكلمات :
يدللها : يعاملها بحب وحنان / أرجاء : أنحاء /دنانير : العملة العربية القديمة المنصوعة من الذهب ( والمعنى الدلالي أشعة الشمس )
رؤية :
يستهل الشاعر حديثه عن صورة أخرى من صورغربته بالإشارة إلى البعد المكاني فإن كان سابقا اشار إلى البعد الزمني ( مضى عامان ) فهنا يضع البعد المكاني ليدل أيضا على طول المسافة وبالتالي شدة الاشتياق الناتج عن هذا البعد ( صباح الخير من مدريد ) ولعله أراد من ذلك إشارة خفية تؤدي نفس الغرض ( شدة الاشتياق ) حيث أشار إلى مدريد تحديدا والتي هي جزء من ( أسبانيا ـ الأندلس عربيا سابقا ) ليضفي بعدا آخر تاريخيا يذكره بالوطن وخاصة أن الأندلس هي إمتداد للدولة الأموية والتي مقرها ( دمشق ) مسقط رأس الشاعر وبذلك تكون إضافة أخرى تزيد شوقه ولوعته إلى وطنه .
إلا أن الشاعر أضفى غموضا شديدا في جملته التالية ( ما أخبارها الفلة ) فالضمير ضمير الغائبة والتي يصلح أن يشير إلى الأسماء الظاهرة السابقة عليه إلا المعنى العام للمقطع يمنع ذلك ومحاولة للخروج من هذه الأزمة يمكن الإشارة إلى أن المراد من الضمير الاسم التالي له ( الفلة ) وعليه يكون المقصود هنا شجرة للفل كان أبوه يعتني بها والدليل على ذلك قوله ( بها أوصيك ياأمي ـ تشبيهه لها بالطفلة ) ومن ثمّ يصور في لوحة جميلة مدى اهتمام أبيه اهذه الشجرة كدلالة معنوية لحجم عطف الأب وتأصل تلك الصفة فيه حتى أنها تعدت تأثيرها من الإنسان إلى النبات .
فيصور كيف أن الأب يحنو عليها مرتبط بها في صور جزئية متتالية حية بواسطة الفعل المضارع ( يدلل ـ يدعو ـ يسقي ـ يغمر ) ليضفي على أبيه البعد الإنساني الأصيل في صورة حنوه على النبات وكانه إنسان ومدى ارتباط الأب بهذه الشجرة وعليه تكون الوصية في موضعها تماما .
وبالتالي يكو نالارتباط متبادلا أيضا من الشجرة حيث يضفي عليها البعد الإنساني فيجعلها تشتاق إليه في أفعال متتابعة تدل على مدى الشوق ومن قبلها انتقالية حادة بجملة خبرية شديدة الإيجاز وثرية المدلول ( ومات أبي ) فالفاصل بين الصورتين هذه الجملة الحاسمة القصيرة ولعله لم يشأ الشاعر ان يثير أحزانه فمر عليها سريعا ، وعليه جعل الشجرة في صورة إنسانية تظهر شوقها لهذا الغائب بأفعال مضارعة ليبعث الحياة في الصورة و متسارعة ومتتابعة ليدل على شدة الشوق من الشجرة ( الزالت ـ تعيش ـ تبحث ـ تسأل ـ لتنثر ) وهكذا ليضعنا أمام صورتين حيّتين من الحنان وما يقلبله .
الجمال :
والشاعر يعتمد في هذه الرسالة على عدد من الألوان البلاغية ليصل إلى ما يهدف إليه من تفاعل المتلقي معه ، سواء أكان المراد صورة حنان الأب أم صورة وفاء الشجرة له ، فأولا من حيث الصورة الفنية التي تبعث الحياة في ذهن المتلقي بأبعادها الثلاثية ( حركية وصوتية ولونية ) فمن حيث الحركة ( يدلل ـ يدعو ـ يسقي ـ يطعم ـ يغمر ـ تبحث ـ يأتي ) ومن حيث الصوت ( يدلل ـ يدعو ـ يغمر ت تسأل ـ تبحث ) واللون ( طفلة ـ غرفة ـ عباءة ـ جريدة ـ فيروز ) لتشكل معا صورة مرئية لحنان الأب و صورة أخرى لوفاء الشجرة .
كما استخدم الشاعرأيضا الأساليب بنوعيها الإنشائية في مثل الاستفهام ( ما أخبارها ) للتشويق وإظهار الشوق ، والخبرية في مثل ( مات أبي ) للتقرير وإظهار الحسرة واللوعة ، كذلك من التقريرية ( فقد كانت أحب .. ، ولازالت .. ) أو لإظهار الشوق ( تبحث ـ تسأل ... )
كما استخدم الشاعر الاستعارة لتشخيص المعنى المجرد المعنوي سواء في حلة حنان الأب حين أضفي على الشجرة صفة الإنسانية ( فيدعوها ـ يسقيها ـ يغمرها .. ) أو في حالة الوفاء للأب ( تعيش ـ تسأل تنثر ) كما استخدم الاستعارة التصريحية في مثل قوله ( تنثر فوق كفيه دنانيرا من الذهب ) وبالطبع المقصود هنا نثر اشعة الشمس التي تشبه الدنانير ، ( لاحظ التناص من الشاعر المتنبي ) كما استخدم الشاعر المجاز المرسل في قوله ( مدريد ) وعلاقته الكلية إن كان القصد البعد لمكاني أو علاقته الجزئية إن كان قصده البعد التناريخي ( يقصد إسبانيا ـ أو الأندلس )
ثمّ التكرار للفظ ( الطفلة ) ليدل على مدى حنان الأب الذي يصور له الشجرة بالطفلة ( وهنا فيه تشبيه حيث شبه الشجرة بالطفلة ) ولفعل ( تسأل ) ليدل على شدة الشوق وقوة الوفاء وإصرار الشجرة على معرفة مصير من حنا عليها .
الرسالة الرابعة
سلامات .. سلامات
إلى بيت سقانا الحبّ والرحمة
إلى أزهارك البيضاء
فرحة ( ساحة النجمة )
إلى تختي إلى كتبي
إلى أطفال حارتنا
وحيطان ملأناها بفوضى من كتابتنا
إلى قطط كسولات
تنام علىمشارقنا
وليلكة معرشة على شباك جارتنا
مضى عامان ياأمي
ووجه دمشق
عصفور يخربش في جوانحنا
يعضّ على ستائرنا
وينقر برفق من أصابعنا
مضى عامان ياأمي
وليل دمشق فلّ دمشق
دور دمشق
تسكن في خواطرنا
مآذنها تضيء على مراكبنا
كأن مآذن الأموي قد زرعت بداخلنا
كأن مشاتل التفاح تعبق في ضمائرنا
كأن الضوء والأحجار
جاءت كلّها معنا
معاني الكلمات :
كسولات : خاملات معرشة : كثيرة ومترابطة الأغصان تشبه العريش ( السقف ) / يخربش : من خربش بمعنى أفسد وجرح بأظافره
ستائرنا : قماش يصنع منه ما يستر داخل البيت أو الحجرة ( الدلالي أسرارنا ) / ينقر : يضرب بمنقاره / مشاتل : مفردها مشتل وهي الأرض التي تخصص لاستخراج البذوز من نباتها .
رؤية :
وإن كان الشاعر في رسائله السابقة حاول استعراض أوجه الحنين والاشتياق في صورتي الأم والأب وهي صورة شديدة الخصوصية له ، فهنا يحاول أن يخرج من هذه الدائرة الضيقة لصورة أرحب تسع البيت والمدرسة والحي ومن ثم المدينة الأم ( والتي هي جزء من الوطن الكبير ) فيبدأ جريا على عادة العرب بالدعاء لما يحب ( صورة تقليدية متأثرا فيها بمن سبقوه ) والدعاء هنا بالسلامة والأمن وتدرج فيه بدأ من البيت إلى دائرة أوسع ( ساحة الحي ) ثم من يجاوروه من جمادات ( التختة ـ الجدران ـ الكتب ) ومنها إلى حيوانات الحي ( القطط ) انتهاءا للإنسان الجارة وبيتها وأطفال الحارة ، ولاحظ معي الصفات التي أسندها على تلك الرموز المحيطة به ( فالأزهار تعني الفرحة ـ ومرح الأطفال يتمثل في الكتابة على الجدران ـ القطط كسولات من فرط التدليل لها ولإطمئنانها ) ليخرج من ذلك إلى ماهو أرحب بكثير ( دمشق ) ليستعرض منها أهم رموزها هي الأخرى والمؤثرة فيه فكل دمشق دائما ما تأتي لخاطره تؤلمه بسبب البعد وبسبب أنها تثير فيه أسراره معها ثمّ اليل الذي هو حياة الشعراء وعبق المدينة ( الفل ) ومساكنها التي تعني الارتباط الوثيق بالأرض والمدينة ككل ، ثم الخلفية الدينية ( المآذن ) للرجل المشرقي كإحدى سماته الأصيلة والتي تنير له طريقه ( مراكبنا ) ثم الخلفية التاريخية الإسلامي ( مآذن الأموي ) التي تشكل الهوية للإنسان ، ومن ثم ما يميز المدينة ( مشاتل التفاح ) وهو في ذلك دائما ما يذكر بمدى البعد الزمني بينه وبين ما يحب ( مضى عامان ) ليزيد من تصوير ألم البعد والاشتياق ، فالنتيجة المحتومة لهذا كله أن الوطن ( المتمثل في دمشق ) دائما معه سواء المعنوي منه ( الضوء ) أو المادي منه ( الأحجار ) ونقصد بالمادي هنا الخلفيات الثقافية المشكلة للهوية .
الجمال :
ولأن الشاعر في هذه الرسالة يقدم لنا صورة عامة قد تكون مبهمة في ذهن المتلقي نجده يميل إلى التجسيد ( التشبيه ) ومن ثم إلى التشخيص للصفات ، فمن التجسيد تشبيهه الأزهار بالفرحة للساحة ، وكذلك لوجه دمشق بالعصفور ثم التتابع في التشبيهات ( كأنّ ) مرة ليؤكد على الخلفية الثقافية والتاريخية فيجعل ( المآذن ) تزرع و( المشاتل ) بتأثيرها المعنوي ( تعبق ) وكذلك الرموز للدلالات المعنوي والمادية إنسان يأتي معه أينما سار وتحول الشاعر إلى الاستعارات منذ البداية لتشخيص الصفة التي يرديها
فالبيت يسقي ـ القطط كسولات ـ وجه دمشق ـ يعضّ على ستائرنا ـ تسكن في خواطرنا ـ تضيء مراكبنا ـ زرعت بداخلنا ـ تعبق في ضمائرنا ـ جاءت كلها معنا ) وكلها استعارات مكنية تضفي الكثير من الحياة في الجمادات و المجرّدات التي يتناولها الشاعر بالذكر .
ذم الكناية في ( المراكب للطريق والسفرـ والمآذن للخلفية الدينية ـ ومآذن الأموي للخلفية التاريخية والكسل للتدليل والأمن ـ الستائر للنفس )
أما المجاز فقد أكثر من استعماله في مثل ( تختي ) علاقته المحلية فهو يريد المدرسة ـ و( كتبي ) علاقته المسببية لأنه يريد زمن الدراسة والكتب نتيجة لهذا الزمن ـ و ( ليل ) علاقته الجزئية لأنه يريد الأوقات السعيدة لليل ـ و( فل ) علاقته السببية لانه يريد الأثر النفسي الذي يأتي من رائحة الفل ومن رؤيته ـ و ( دور ) علاقته المحلية لأنه ذكر المحل وأراد من يسكنون الدور
ولكي يدل الشاعر على التخصيص يستخدم التكرارفي حرف الجر إلى ( والتي تعني النتهاء الزمن أو المكاني للغاية ) ليخصص الدعاء للشيء المذكور بعد حرف الجر وأخيرا التكرار في الجملة الخبرية ( مضى عامان ) ليؤكد على الأثر النفسي للبعد الزمني عنده وخاصة مع بداية الحديث عن شيء جديد .
الرسالة الخامسة
أتى أيلول يا أماه ..
وجاء الحزن يحمل لي هداياه
ويترك عند نافذتي
مدامعه وشكواه
أتي أيلول .. أين دمشق ؟
أين أبي وعيناه
واين حرير نظرته ، وأين عبيرقهوته
سقى الرحمان مثواه
وأين رحاب منزلنا الكبير واين نعماه ؟
واين مدارج الشمشير .. تضحك في زواياه
وأين طفولتي فيه ؟
أجرجر ذيل قطته
وآكل من عريشته
وأقطف من بنفشاه
دمشق دمشق..
يا شعرا
على أحداق أعيننا كتبناه
معاني الكلمات :
عبير : الشذا والرائحة / مدارج : مفردها مدْرج وهي الطريق والمسلك
أجرجر : أجذب وأسحب / حدقات : مفردها حدقة وهو السواد المستديرداخل العين
رؤية :
وبجمل خبرية تقريرية ( لاحظ استخدام الفعل الماضي للدلالة على توكيد الحدوث للمعنى بدلا من الفعل المضارع الذي اعتاد الشاعر استخدامه في الرسائل السابقة لمناسبة المعنى المراد طرحه ) يبدأ الشاعر رسالته الخامسة بالانتقال من مناطق الشوق لديه إلى الآلام التي دائما ما تصاحب المغترب وهي مناطق الجرح ، المتمثل في شهر ( أيلول ) والجدير بالذكر أن هذا الشهر يحمل للشاعر من منطلق قومي المأساة الفلسطينية والمذابح التي حلّت بهم على أيد عربية ( مذابح أيلول في الأردن ) وعليه ينتقل الشاعر بأسلوبه السياسي المعروف عنه ووبسخريته المعهودة والمميزة له ، فيجعل ذلك الحزن يحمل الهدايا وهي رمز للحب والتواصل والسلام وهنا تنبع روعة الأداء لنزار حيث جمع الضدّين معا ( الحزن والهدايا ) لتقترب منه لتنفذ إليه ( ويترك عند نافذتي ) والمعنى الدلالي للنافذة هو الذاكرة أو المدخل للنفس فماذا في الهدايا ( مدامع ) الألم والتعبير عنه و ( شكواه ) الأثر الناتج عنه أو المردود الملائم للألم ثمّ اتقال رائع آخر حيث يعقد الشاعر مقارنة بين تلك الأحداث ومدينته الحبيبة إليه ( دمشق ) لذا لم يستخدم الشاعر حرف العطف الذي اعتاد عليه ( الواو ) ليربط ولكنه قال ( أتي أيلول .. أين دمشق ) ليشير إلى المقارنة لا للإرتباط وكأنه يعتب عتابا رقيقا على وطنه بتلهيه عن المأساة بنفسه ثم يربط ذلك كله بما يحزنه شخصيا ( أين أبي وعيناه ) بخيط رقيق ليجمع كل أحزانه في توالي جميل يسقط على النفس المدلول لكلمة ( هدايا ) السابقة ذكرها ولاحظ ذكره للأب بصفته ( الحنان ) الذي افتقده من موقف الوطن ( أين دمشق ) ولذلك لم يكن غريبا أن يشير هذه المرة إلى المنزل ولكنه يصبغ عليه صفة ( الكبير ) ولعله أراد من ذلك الوطن الأم ( الوطن العربي ) لذك عبر عن ذلك كله بقوله ( وأين رحاب منزلنا الكبير ) ومنه يخرج إلى فقد أيام طفولته ( البراءة ) لذا يتساءل عن الطفوله بالنسبة له ( فيه ) أي موقع هذه الطفولة من ذلك الحزن ليذكر مرح الطفولة من معاكسة القطط ( أجرجر) والانطلاق ( آكل من ـ وأقطف من ) لكنه آثر أن ينهي القصيدة بغير ذلك الحزن وكأنه يريد أن يقول فبرغم أيّ شيء فالوطن أعز الأشياء عنده ( دمشق دمشق ) ولاحظ التكرار ومع النداء المحذوف للدلالة على القرب المعنوي منه ليخبرها أنها أحب الأشياء ( يا شعرا ) وهي ساكنة في أعز المواطن لديه ( على حدقات أعيننا ) نمارسه ونستلذه ( كتبناه ) وكم كان الشاعر موفقا حينما غير من قافيته في هذه الرسالة من السكون للهاء أو التاء المربوطة ( والتي تنطق مع السكون هاءا ) إلى الهاء المشبعة بالمدّ المفتوح لتحدث الأثر النفسي عند المتلقي بالانكسار الشديد .
الجمال :
ولأن الشاعر بصدد الإشارة إلى المشاعرالحزينة لديه وهي أشياء معنوية يتحول إلى التشخيص ( الاستعارة ) وخاصة المكنية منها في مثل ( جاء الحزن ـ يحمل ـ يترك ـ مدامعه ـ هداياه ـ حرير نظرته ـ عبير قهوته ـ على حدقات أعيننا كتبناه )
ثم ليعبر عن تجسيد موقع الوطن من النفس يتحول إلى التشبيه ( دمشق دمشق يا شعرا ) ولاحظ البساطة في التشبيه فقد وازن بين دمشق والشعر في الموقع بالنسبة لقلب شاعر ، ولكي يعبر عن التمزق ودون أن يصرح بل يلمح فقط يستخدم الأسلوب الإنشائي الطلبي ( الاستفهام ) حينما يعتب على وطنه في التلهي عن المأساة الفلسطينية بأداة الاستفهام ( أين ) ليدل على الاستنكار تارة علة الحسرة تارة أخرى في ( أين طفولتي منه ) كذلك جمله الخبرية التقريرية بالفعل الماضي المؤكد لحدوث المعنى ( أتى أيلول ـ جاء الحزن ) وللدعاء في مثل ( سقى الرحمان مثواه ) .
كما أن الشاعر استخدم المجاز للتلميح وليس للتصريح في مثل قوله ( أيلول ) باعتبار ما كان فيه وليس باعتبار ما حدث فيه و ( عيناه ) وعلاقته السببية فالعين هي المرآة لحالة النفس والتي يستشف منها الحلة المزاجية للأب و( دمشق ) وعلاقته المحلية فهو يريد أهل دمشق أما عن الكناية عن المرح ففي قوله ( أجرجر ذيل قطته ) ولانطلاق ( أقطف من بنفشاه ) .
نظرة عامة على النص
أجاد الشاعر استخدام أدواته المتاحة لديه فمنها :
1 / الموسيقى : سواء الخارجية منها والمتمثلة في تفعيلة ( مُفا عَلَتُنْ ) وهذه التفعيلة تتميز بوجود مقطعين لها في صورتها الأساسية ومعنى هذا استطاعتها احتمال أكثر من كلمة واحدة وتلائم الوصف في مثل ( وأين رحاب منزلنا ـ وأين حريرنظرته ـ أجرجرذيل قطته ـ وآكل من عريشته ..ألخ ) كما أن لها القدرة أن تناسب التدافع للعاطفة حينما تتحول إلى صورتها الثانوية ( مُفاعلْتنْ ) ولاحظ التوالي في السواكن مما يدفع القاريء غلى التتابع وذلك يناسب وصف الشعور وخاصة الاشتياق منها واللهفة في مثل ( صباح الخير يا أمي ـ مضى عامان يا أمي ـ أنا وحدي ـ وأحزاني ـ أتى أيلول .ألخ ) .
أما عن القافية كعنصر ثانٍ للموسيقى الخارجية فقد نوع الشاعر منها وما يناسب المعنى فتارة يجعلها ( الهاء الساكنة ) في مثل صباح الخير يا حلوةْ ) أو السكون فقط مع تغير حرف الروي في مثل ( أبحرْ ) وتكون لها ميزة الوقف المفاجيء والذي يعطي الدلالة على الشدة ثم يعيد القافية إلى الهاء ولكن هذه المرة المتحركة أو المشبعة بالمدّ عند حالة الحزن كما في الرسالة الخامسة والتي كما أسلفنا تعطي الإيحاء بالانكسار .
2 / الموسيقى الداخلية ونعني بذلك مدى مناسب الكلمات للمعنى العام والغرض منها وتلاؤمها بالنسبة لموقعها وأجاد الشاعر ايضا حيث استخدم الفعل المضارع الموحي بالحركة والحياة عند وصفه مثلا صورة المرأة التي افتقدها مع الترحال ( تمشط .... ) وصورة الأب ( يدلل ... ) على حين يستخدم الفعل الماضي للدلالة على الثبوت والتوكيد في إسقاطه حالة الحزن على النفس وخاصة في الرسالة الخامسة أو حينما يدلل على البعد الزمني ( مضى ) ومع توالي حرف العطف ليوحي بالتوالي والتتابع للصور الجزئية لرسائله .
3 / أسلوب الشاعر :
ونجد الشاعر يتميز بعدد من المميزات التي تدل على الشخصية النزارية والتي اعتبرها النقادو عدّوها مدرسة بحد ذاتها ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
أ ـ الألفاظ السهلة القريبة من الدارجة والتي تعبر عن خصوصية معجم الشاعر في مثل ( السكر ـ الحلوة ـ فلة )
ب ـ استخدام اللهجة في مثل ( بنفشاه ـ ليلكة )
ج ـ الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة والدقيقة للصورة الفنية لديه في مثل وصف المرأة التي يبحث عنها ( أمه ) أو في وصف حنان الأب
د ـ التنوع في القافية واستخدام شعر التفعيلة برغم تمكن نزار من استخدام العمودية في الشعر بل قد بدأبه حياته الشعرية كما أنه يميل إلى استخدام الضمائر كقافية .
و ـ الاهتمام بالقضايا القوميه واسلوبه الساخر في عرض تأثيرها
ع ـ البعد عن التعقيد الفكري والاسقاطات الكثيرة في الشعر ، فبرغم أن الشاعر قد يحسب على المدرسة الحداثية أو على أقل تقدير بداتها مثل الشاعر بدر شاكر السياب إلاأن الشاعر يميل إلى الفكرة الواضحة ولا يميل إلى التواري خلف الرمز كثيرا .
زـ البساطة في الجملة الشعرية والتي يعتقد الكثيرون أنها أقرب إلى اللغة العادية منها للغة الشعر الموحية والمقعرة .
ص ـ النتقال السل والمنطقي للفكرة والصورة فبدأ بالذات ثم إلى الأم ومنها إلى الأب ومن ثم إلى الوطن الكبير ليخرج منه إلى الجرح ليعود مرة أخرى إلى أحضان الوطن .