ابن الوافي
12-10-2005, 01:32 PM
طالب العلم والكتب
طالب العلم والكتب
لفضيلة الشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد:
فأسأل الله جلَّ وعلا أن يجعل هذه السنَّة لنا سنة خير وعلم وعمل وتقى وصلاح وأن يزيدنا فيها من العلم النافع والعمل الصالح وأسأله جلَّ وعلا أن يقوي همتنا في العلم والعمل وأن يعلي عزمنا في درس العلم وتحصيله والمحافظة عليه والثبات على ذلك وكمقدمة لدروسنا في هذا الفصل إن شاء الله تعالى نتحدث كالعادة بحديث عام مما يسنح في الخاطر بما يكون معه النفع إن شاء الله تعالى وحديثنا سيكون عن ((طالب العلم والكتب)).
من المعلوم أن العلم يتلقى بأحد طريقين إمَّا عن طريق المشافهة والسماع ومجالسة أهل العلم وأخذ العلم عنهم سماعًا وإمَّا أن يكون عن طريق الكتب بالمطالعة والنظر والاستفادة والأوَّل هو طريق الثاني والثاني صوابه مبني على الأوَّل كما قال بعض أهل العلم ((كان العلم في صدور الرجال ثم صار في بطون الكتب وبقيت مفاتيحه بأيدي الرجال)) يعني أنَّ طالب العلم الكتب له مهمة ولكن هذه الكتب إنَّما يُحْسٍنُ التعامل معها ويحسن فهمها من أسَّسَّ نفسه عن طريق طلب العلم على أهل العلم وخالطهم وفهم مراد أهل العلم بكلامهم فيما دونوه في الكتب.
التدوين، تدوين العلم في الكتب قديمٌ في الناس فكانت الحضارات السالفة لحضارة الإسلام كانوا يعتنون بالكتابة، وكانت كتب الله جلَّ وعلا تكتب كما قال جلَّ وعلا: {وما آتيناهم من كُتُبٍ يدرسونَها} وقال جلَّ وعلا: {فيها كُتُبٌ قيِّمة} وربنا جلَّ وعلا خَطَّ لموسى عليه السلام في الألواح وكتب له فيها وبقيت الكتب في الناس يتداولونها بالكتابة وكان من الأمور المهمة أن تحفظ من التغيير والتبديل وأن يًهْتَمَّ بها الناس وأن يحافظوا عليها وهذه المسألة عامة في الأمم وكتب الله جلَّ وعلا جعلها الله سبحانه وتعالى ابتلاءً وامتحانًا للأمم هل يحافظون عليها أم لا فحصل في الكُتُبِ قبل القرآن عدم المحافظة حيث دخلها التحريف في اللفظ ودخلها التحريف في المعنى بما هو معلوم وخصَّ الله جلَّ وعلا هذا القرآن وعلوم نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسَّلام خصها بالحفظ كما قال جلّ وعلا {إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنَّا له لحافظون} والذكر هنا هو القرآن، والسنة المبينة له محفوظة أيضًا فالله جلَّ وعلا حفظ القرآن وحفظ السنة ومعنى ذلك أن هناك أشياء مما يكتب يطرأ عليه التحريف والتغيير والتبديل فليس كل ما كُتب يعدٌّ صحيحًا وليس كل ما زُبِرَ في الورق عُدَّ نافعًا وصوابًا بل لا بدَّ أن يكونَ من العلم المحفوظ ويكون حفظه حفظ ألفاظه وحفظ معانيه أيضًا من التغيير والتبديل في أوائل هذه الأمة ما كتب من الصحابة السنة إلاَّ نفرٌ قليل وهكذا فيمن بعدهم كتبوا أشياء من التابعين كما هو معلوم في صحيفة همام بن مٌنَبِّه عن أبي هريرة وكغيرها كتبوا أشياء من السنة وحفظت أيضًا رسائل للمصطفى صلّى الله عليه وسلّم إلى ملوك الأطراف وإلى عماله والأمراء عليه الصلاة والسلام وكذلك حفظت رسائل للخلفاء الراشدين وللأمراء من بعدهم ومراسلات الصحابة فيما بينهم حتَّى جاء وقت تدوين العلم فصنِّفت المصنفات ودونت وتوسع الناس في ذلك حتَّى صار التصنيف في كل أنواع العلوم فصنف أول ما صنف في الحديث والسنة ثم صنف في التفسير ثم صنف في اللغة ومعاني القرآن ثم توسعت التصانيف والكتب لمَّا كان الأمر كذلك العلماء أوصوا الطلاب بحفظ الكتاب من التغيير والتبديل لأن الكتاب يكتب وينسخ والنسخ والكتابة إذا كانت صحيحة فإنَّ الكتاب يكون صحيحًا وإذا كانت الكتابة غير دقيقةٍ وكان النسخ غير دقيق دخل من الخلل في العلم من جهة عدم الدقة في الكتابة وعدم الدقة في النسخ ولهذا ذَكَرَ طائفة من الأدباء ومنهم الجاحظ في كتابه ((الحيوان)) وذكره غيرهُ أيضًا أن من أهل العلم من كان يقتني من الكتاب الواحد ثلاث نسخ برواية واحدة وربما إذا تعددت الروايات أيضًا حرصوا أكثر على إقتناء كل الروايات التي رٌوي بها الكتاب وهذا لأجل الحرص على دقة العلم ودقة تلقيه لأنَّه ربما اختلف لفظ عن لفظ أو سقطت جملة أو تحرف في موضع فبان في الموضع الآخر. أهل العلم أوصوا طلاب العلم أن يحرصوا جدًّا على كتبهم بأن يكون الكتاب محفوظًا من التغيير والتبديل وأن يكون التقييد عليه له آدابه وأن يكون طالب العلم فيما يكتبه على الكتاب بعد نسخه من تعليقات ومن حواشٍ ومن فوائد ومن مطالب وأشباه ذلك أن يكون دقيقًا فيما يكتب حتَّى يتسنى له أن يستفيد مما كتب وحتَّى لا يتغير الكتاب بكتابة في أثناء الأسطر وأشباه ذلك لهذا جعل أهل العلم في كتب الرواية وكتب طلب العلم جعلوا آدابًا لطالب العلم في تعامله مع الكتاب، فالكتاب لطالب العلم أشبه ما يكون بأحد أعضائه فكُتُب طالب العلم خلاياه التي يعيش بها وهي سمعه وبصره الذي لو فقده لضعف في العلم شيئًا فشيئًا وترى أن الذي يَضْعُفُ في المطالعة ويَضْعُفُ في النظر في العلم وفي القراءة تجد أنَّه يضعف قليلاً قليلاً يُنسى العلم شيئًا فشيئًا حتَّى يكون أٌمِّيًا بعد مرِّ سنين من الزمان وهذا لأن مطالعة العلم في الكتب من أهم ما يكون وهذا يتطلب أن يكون لطالب العلم صلة عظيمة بالكتاب وهذه الصلة لها آدابها ولها رونقها ولها شروطها التي بينها أهل العلم في كتبهم ككتاب مثلاً (الجامع) لابن عبد البر وكتاب ابن جماعة في أدب الطلب ((تذكرة السامع والمتكلم)) وكتب كثيرة في هذا ذكروا كيف يتعامل طالب العلم مع الكتب ونذكر من هذا أشياء وقبل أن ندخل في الآداب العامة فإنَّا نذكر أنّ اهتمام طالب العلم بكتبه يدل على اهتمامه بالعلم فمن الآداب التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها:
أوَّلاً: أن يرتب كتبه حتَّى يتسنى له أن يراجع إذا كانت مسألة يحتاج أن يراجع لها بعض الكتب فلا بدَّ له من أنْ يرتبها وترتيب الكتب بحسب حال هذا الطالب فإذا كان يحتاج إلى أن يرتب كتب التفسير جميعًا وكتب الحديث جميعًا ويصنف التفسير إلى علومه والحديث إلى علومه والفقه إلى مذاهبه وأشباه ذلك فلا بأس وإذا كان يرى ثمَّةَ ترتيب آخر له يرى أنه أنفع له فلا بأس، المقصود أن يكون الكتاب في مكانه الذي إذا احتاجه طلبه، والكتب على قسمين: كتب كبيرة وكتب رسائل صغيرة أمَّا الكتب الكبيرة فهذه سيراها في المكتبة لأنَّها كبيرة عشر مجلدات وخمسة عشر مجلد وثلاثة وأربعة فهذه ظاهرة ولكن الذي يحتاج إلى العناية به الرسائل الصغيرة التي هي مهمة وربما يكون فيها من العلم ما ليس في الكتب الكبار إذا احتاج أن يراجع كتابًا منها أو رسالة فبحث عنه لا يجده لِمَ؟ لأنه ما وضعه في مكانه المناسب وهذه الرسائل الصغيرة ينبغي أن يهتم بها في أن تكون في مكان مستقل يعني أن لا تكون ضمن البحوث أو ضمن الكتب الكبيرة فيضع كتابًا كبيرًا وبجنبه كتاب صغير عبارة عن أوراق وبجنبه رسالة أربعين صفحة أو خمسين صفحة إلخ وهذا النوع اعتنى به العلماء حيث وضعوا له ما أسموه بالمجاميع ترون في فهارس المخطوطات ما يسمَّى مجموع، المجموع عبارة عن مجلد أو أكثر فيه عشر رسائل أو فيه اثنا عشرة رسالة أو أكثر من ذلك. فإذا تهيأ لطالب العلم أن يجمع هذه الرسائل الصغيرة في مجموع ويجمع النظائر في مجلد يعني يجعل الرسائل التي في آداب طلب العلم في مجلد مستقل أو الرسائل التي في مصطح الحديث الصغيرة في مجلد مستقل أو الرسائل التي في علوم التفسير أو علوم القرآن يجعلها مجموعة أو ما أشبه ذلك، كذلك الكتب والرسائل الفقهية يجعلها مستقلة ومن المناسب في الكتب والرسائل الفقهية أن يبوبها على حسب أبواب الفقه مثلاً يجعل رسالة في الجنايات في موقعها في الفقه فيرتب الكتب يبتدئ بالرسائل التي في الطهارة ثم الرسائل التي في الصلاة ثم الصلاة أيضًالا يرتبها في داخلها شروط الصلاة أولاً ثم يجعلها بلأحكام التي فيها سجود السهو يجعلها في مكانها التي في الزكاة أيضًا يجعلها بعد الصلاة وهكذا في نظائرها يعني أن يرتب هذه الرسائل الصغيرة التي قد لا يصل إليها لو احتاج في خضم كتبه أن يرتبها بحسب موضوعات الفقه كذلك غيرها من العلوم في التاريخ أو في العقيدة أو ما أشبه ذلك يجعل العقيدة العامة مستقلة في الكتب أو الرسائل العامة في العقيدة أو التي تبحث في مسألة في العقيدة يرتبها عن مباحث العقيدة حتَّى يتسنَّى له مراجعة ذلك إذن أول أدب أن يحسن الترتيب والترتيب ترتيب المكتبة هو عنوان طالب العلم في عنايته بكتبه أمَّا إذا أتى وكان المكان متيسرًا ووجدت أن الكتب مبعثرة إلخ فهذه لها أحدٌ احتمالين إما أن يكون من كثرة بحثه وكثرة مطالعته للكتب جعلها تنـتشر وهذا أمر محمود لكن لا بد أن يكون بعدها يرجعها إلى ترتيبها وإمَّا أن يكون هو أصلاً غَير مرتب وقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه في قضاة مصر الذي سماه ((رَفْعٌ الإِصْر عن قُضَاةٍ مِصْر)) تَرْجَمَ لأحد القضاة قضاة مصر حيث تولى القضاء وكان يجلس في مكان فيه كٌتُبُه وكانت كتبه حَسَنَةَ التصفيف، مصففه بطريقة جملة فدخل عليه أحد الناس من طلاب العلم وقال له ما أحسن تصفيف هذه الكتب قال الحافظ ابن حجر يُعَرِّضُ به أن حسْنَ تصفيف الكتب يدل على عدم المطالعة فيها وعدم الاشتغال ففهم القاضي هذا وأسرها في نفسه قال حتَّى تولَّى هذا الرجل الذي انتقد القاضي بحسن تصفيف كتبه قال تولى الكتابة للناس في أنكحتهم يعني عقود النكاح وما يُسَمَّى مأذون الأنكحة، فَعَثر منه القاضي على غلطة منه في أحد صكوك النكاح قال فَعَزَّرَهُ تَعْزِيرًا بليغًا حافظ تلك الكلمة المقصود أنَّه استدل بحسن التصفيف على عدم الاشتغال وهذا ليس بمُطَرِّد بل طالب العلم إذا أراد أن يشتغل بفنٍ أو ببحث فيجلب عددًا من الكتب تكون أمامه ويبحث في هذا وهذا وإذا إنتهى منها أرجعها في أماكنها حتَّى يتسنَّى له أن يطالعها.
الأدب الثاني: من آداب التعامل مع الكتب أن يهتم طالب العلم بالنُسَخ المصححة، في القديم كان الكتاب يشتري من الورّاقين يقال فلان ورَّاق يعني عنده مكان ينسخ فيه الكتب ويبيعها أو يبيع لمن أراد أن يبيع كتبه يسمَّى هؤلاء الوراقون الذين يعتنون بنسخ الكتب باليد أو بيع الكتب وهؤلاء الوراقون منهم المعتني ومنهم غير المعتني وأشبه ما يكون في هذا الزمن بالمطابع المطابع الموجودة الآن هي ورثت عمل الوراقين فيما مضى من الزمان لهذا نقول إن صنعة الورَّاقين فيما مضى تناولها أهل العلم بالتحليل وأن طالب العلم يحرص على أن يشتري كتابًا مصححًا مدققًا أو أن ينسخ بيده ويقابل ما نسخ بأصله أو أنْ يشتريَ كتابًا ويقابِلَه بنسخة معتمدة مقروءة على أهل العلم وأشباه ذلك يعني أن طالب العلم مع الكتب لا بدَّ له من أن يعتني بالنسخ الصحيحة في النسخ المخطوطة أو في المطبوعات وفي هذا الزمن عناية جلّ طلاب العلم بالمطبوعات ولهذا .
طالب العلم والكتب
لفضيلة الشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد:
فأسأل الله جلَّ وعلا أن يجعل هذه السنَّة لنا سنة خير وعلم وعمل وتقى وصلاح وأن يزيدنا فيها من العلم النافع والعمل الصالح وأسأله جلَّ وعلا أن يقوي همتنا في العلم والعمل وأن يعلي عزمنا في درس العلم وتحصيله والمحافظة عليه والثبات على ذلك وكمقدمة لدروسنا في هذا الفصل إن شاء الله تعالى نتحدث كالعادة بحديث عام مما يسنح في الخاطر بما يكون معه النفع إن شاء الله تعالى وحديثنا سيكون عن ((طالب العلم والكتب)).
من المعلوم أن العلم يتلقى بأحد طريقين إمَّا عن طريق المشافهة والسماع ومجالسة أهل العلم وأخذ العلم عنهم سماعًا وإمَّا أن يكون عن طريق الكتب بالمطالعة والنظر والاستفادة والأوَّل هو طريق الثاني والثاني صوابه مبني على الأوَّل كما قال بعض أهل العلم ((كان العلم في صدور الرجال ثم صار في بطون الكتب وبقيت مفاتيحه بأيدي الرجال)) يعني أنَّ طالب العلم الكتب له مهمة ولكن هذه الكتب إنَّما يُحْسٍنُ التعامل معها ويحسن فهمها من أسَّسَّ نفسه عن طريق طلب العلم على أهل العلم وخالطهم وفهم مراد أهل العلم بكلامهم فيما دونوه في الكتب.
التدوين، تدوين العلم في الكتب قديمٌ في الناس فكانت الحضارات السالفة لحضارة الإسلام كانوا يعتنون بالكتابة، وكانت كتب الله جلَّ وعلا تكتب كما قال جلَّ وعلا: {وما آتيناهم من كُتُبٍ يدرسونَها} وقال جلَّ وعلا: {فيها كُتُبٌ قيِّمة} وربنا جلَّ وعلا خَطَّ لموسى عليه السلام في الألواح وكتب له فيها وبقيت الكتب في الناس يتداولونها بالكتابة وكان من الأمور المهمة أن تحفظ من التغيير والتبديل وأن يًهْتَمَّ بها الناس وأن يحافظوا عليها وهذه المسألة عامة في الأمم وكتب الله جلَّ وعلا جعلها الله سبحانه وتعالى ابتلاءً وامتحانًا للأمم هل يحافظون عليها أم لا فحصل في الكُتُبِ قبل القرآن عدم المحافظة حيث دخلها التحريف في اللفظ ودخلها التحريف في المعنى بما هو معلوم وخصَّ الله جلَّ وعلا هذا القرآن وعلوم نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسَّلام خصها بالحفظ كما قال جلّ وعلا {إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنَّا له لحافظون} والذكر هنا هو القرآن، والسنة المبينة له محفوظة أيضًا فالله جلَّ وعلا حفظ القرآن وحفظ السنة ومعنى ذلك أن هناك أشياء مما يكتب يطرأ عليه التحريف والتغيير والتبديل فليس كل ما كُتب يعدٌّ صحيحًا وليس كل ما زُبِرَ في الورق عُدَّ نافعًا وصوابًا بل لا بدَّ أن يكونَ من العلم المحفوظ ويكون حفظه حفظ ألفاظه وحفظ معانيه أيضًا من التغيير والتبديل في أوائل هذه الأمة ما كتب من الصحابة السنة إلاَّ نفرٌ قليل وهكذا فيمن بعدهم كتبوا أشياء من التابعين كما هو معلوم في صحيفة همام بن مٌنَبِّه عن أبي هريرة وكغيرها كتبوا أشياء من السنة وحفظت أيضًا رسائل للمصطفى صلّى الله عليه وسلّم إلى ملوك الأطراف وإلى عماله والأمراء عليه الصلاة والسلام وكذلك حفظت رسائل للخلفاء الراشدين وللأمراء من بعدهم ومراسلات الصحابة فيما بينهم حتَّى جاء وقت تدوين العلم فصنِّفت المصنفات ودونت وتوسع الناس في ذلك حتَّى صار التصنيف في كل أنواع العلوم فصنف أول ما صنف في الحديث والسنة ثم صنف في التفسير ثم صنف في اللغة ومعاني القرآن ثم توسعت التصانيف والكتب لمَّا كان الأمر كذلك العلماء أوصوا الطلاب بحفظ الكتاب من التغيير والتبديل لأن الكتاب يكتب وينسخ والنسخ والكتابة إذا كانت صحيحة فإنَّ الكتاب يكون صحيحًا وإذا كانت الكتابة غير دقيقةٍ وكان النسخ غير دقيق دخل من الخلل في العلم من جهة عدم الدقة في الكتابة وعدم الدقة في النسخ ولهذا ذَكَرَ طائفة من الأدباء ومنهم الجاحظ في كتابه ((الحيوان)) وذكره غيرهُ أيضًا أن من أهل العلم من كان يقتني من الكتاب الواحد ثلاث نسخ برواية واحدة وربما إذا تعددت الروايات أيضًا حرصوا أكثر على إقتناء كل الروايات التي رٌوي بها الكتاب وهذا لأجل الحرص على دقة العلم ودقة تلقيه لأنَّه ربما اختلف لفظ عن لفظ أو سقطت جملة أو تحرف في موضع فبان في الموضع الآخر. أهل العلم أوصوا طلاب العلم أن يحرصوا جدًّا على كتبهم بأن يكون الكتاب محفوظًا من التغيير والتبديل وأن يكون التقييد عليه له آدابه وأن يكون طالب العلم فيما يكتبه على الكتاب بعد نسخه من تعليقات ومن حواشٍ ومن فوائد ومن مطالب وأشباه ذلك أن يكون دقيقًا فيما يكتب حتَّى يتسنى له أن يستفيد مما كتب وحتَّى لا يتغير الكتاب بكتابة في أثناء الأسطر وأشباه ذلك لهذا جعل أهل العلم في كتب الرواية وكتب طلب العلم جعلوا آدابًا لطالب العلم في تعامله مع الكتاب، فالكتاب لطالب العلم أشبه ما يكون بأحد أعضائه فكُتُب طالب العلم خلاياه التي يعيش بها وهي سمعه وبصره الذي لو فقده لضعف في العلم شيئًا فشيئًا وترى أن الذي يَضْعُفُ في المطالعة ويَضْعُفُ في النظر في العلم وفي القراءة تجد أنَّه يضعف قليلاً قليلاً يُنسى العلم شيئًا فشيئًا حتَّى يكون أٌمِّيًا بعد مرِّ سنين من الزمان وهذا لأن مطالعة العلم في الكتب من أهم ما يكون وهذا يتطلب أن يكون لطالب العلم صلة عظيمة بالكتاب وهذه الصلة لها آدابها ولها رونقها ولها شروطها التي بينها أهل العلم في كتبهم ككتاب مثلاً (الجامع) لابن عبد البر وكتاب ابن جماعة في أدب الطلب ((تذكرة السامع والمتكلم)) وكتب كثيرة في هذا ذكروا كيف يتعامل طالب العلم مع الكتب ونذكر من هذا أشياء وقبل أن ندخل في الآداب العامة فإنَّا نذكر أنّ اهتمام طالب العلم بكتبه يدل على اهتمامه بالعلم فمن الآداب التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها:
أوَّلاً: أن يرتب كتبه حتَّى يتسنى له أن يراجع إذا كانت مسألة يحتاج أن يراجع لها بعض الكتب فلا بدَّ له من أنْ يرتبها وترتيب الكتب بحسب حال هذا الطالب فإذا كان يحتاج إلى أن يرتب كتب التفسير جميعًا وكتب الحديث جميعًا ويصنف التفسير إلى علومه والحديث إلى علومه والفقه إلى مذاهبه وأشباه ذلك فلا بأس وإذا كان يرى ثمَّةَ ترتيب آخر له يرى أنه أنفع له فلا بأس، المقصود أن يكون الكتاب في مكانه الذي إذا احتاجه طلبه، والكتب على قسمين: كتب كبيرة وكتب رسائل صغيرة أمَّا الكتب الكبيرة فهذه سيراها في المكتبة لأنَّها كبيرة عشر مجلدات وخمسة عشر مجلد وثلاثة وأربعة فهذه ظاهرة ولكن الذي يحتاج إلى العناية به الرسائل الصغيرة التي هي مهمة وربما يكون فيها من العلم ما ليس في الكتب الكبار إذا احتاج أن يراجع كتابًا منها أو رسالة فبحث عنه لا يجده لِمَ؟ لأنه ما وضعه في مكانه المناسب وهذه الرسائل الصغيرة ينبغي أن يهتم بها في أن تكون في مكان مستقل يعني أن لا تكون ضمن البحوث أو ضمن الكتب الكبيرة فيضع كتابًا كبيرًا وبجنبه كتاب صغير عبارة عن أوراق وبجنبه رسالة أربعين صفحة أو خمسين صفحة إلخ وهذا النوع اعتنى به العلماء حيث وضعوا له ما أسموه بالمجاميع ترون في فهارس المخطوطات ما يسمَّى مجموع، المجموع عبارة عن مجلد أو أكثر فيه عشر رسائل أو فيه اثنا عشرة رسالة أو أكثر من ذلك. فإذا تهيأ لطالب العلم أن يجمع هذه الرسائل الصغيرة في مجموع ويجمع النظائر في مجلد يعني يجعل الرسائل التي في آداب طلب العلم في مجلد مستقل أو الرسائل التي في مصطح الحديث الصغيرة في مجلد مستقل أو الرسائل التي في علوم التفسير أو علوم القرآن يجعلها مجموعة أو ما أشبه ذلك، كذلك الكتب والرسائل الفقهية يجعلها مستقلة ومن المناسب في الكتب والرسائل الفقهية أن يبوبها على حسب أبواب الفقه مثلاً يجعل رسالة في الجنايات في موقعها في الفقه فيرتب الكتب يبتدئ بالرسائل التي في الطهارة ثم الرسائل التي في الصلاة ثم الصلاة أيضًالا يرتبها في داخلها شروط الصلاة أولاً ثم يجعلها بلأحكام التي فيها سجود السهو يجعلها في مكانها التي في الزكاة أيضًا يجعلها بعد الصلاة وهكذا في نظائرها يعني أن يرتب هذه الرسائل الصغيرة التي قد لا يصل إليها لو احتاج في خضم كتبه أن يرتبها بحسب موضوعات الفقه كذلك غيرها من العلوم في التاريخ أو في العقيدة أو ما أشبه ذلك يجعل العقيدة العامة مستقلة في الكتب أو الرسائل العامة في العقيدة أو التي تبحث في مسألة في العقيدة يرتبها عن مباحث العقيدة حتَّى يتسنَّى له مراجعة ذلك إذن أول أدب أن يحسن الترتيب والترتيب ترتيب المكتبة هو عنوان طالب العلم في عنايته بكتبه أمَّا إذا أتى وكان المكان متيسرًا ووجدت أن الكتب مبعثرة إلخ فهذه لها أحدٌ احتمالين إما أن يكون من كثرة بحثه وكثرة مطالعته للكتب جعلها تنـتشر وهذا أمر محمود لكن لا بد أن يكون بعدها يرجعها إلى ترتيبها وإمَّا أن يكون هو أصلاً غَير مرتب وقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه في قضاة مصر الذي سماه ((رَفْعٌ الإِصْر عن قُضَاةٍ مِصْر)) تَرْجَمَ لأحد القضاة قضاة مصر حيث تولى القضاء وكان يجلس في مكان فيه كٌتُبُه وكانت كتبه حَسَنَةَ التصفيف، مصففه بطريقة جملة فدخل عليه أحد الناس من طلاب العلم وقال له ما أحسن تصفيف هذه الكتب قال الحافظ ابن حجر يُعَرِّضُ به أن حسْنَ تصفيف الكتب يدل على عدم المطالعة فيها وعدم الاشتغال ففهم القاضي هذا وأسرها في نفسه قال حتَّى تولَّى هذا الرجل الذي انتقد القاضي بحسن تصفيف كتبه قال تولى الكتابة للناس في أنكحتهم يعني عقود النكاح وما يُسَمَّى مأذون الأنكحة، فَعَثر منه القاضي على غلطة منه في أحد صكوك النكاح قال فَعَزَّرَهُ تَعْزِيرًا بليغًا حافظ تلك الكلمة المقصود أنَّه استدل بحسن التصفيف على عدم الاشتغال وهذا ليس بمُطَرِّد بل طالب العلم إذا أراد أن يشتغل بفنٍ أو ببحث فيجلب عددًا من الكتب تكون أمامه ويبحث في هذا وهذا وإذا إنتهى منها أرجعها في أماكنها حتَّى يتسنَّى له أن يطالعها.
الأدب الثاني: من آداب التعامل مع الكتب أن يهتم طالب العلم بالنُسَخ المصححة، في القديم كان الكتاب يشتري من الورّاقين يقال فلان ورَّاق يعني عنده مكان ينسخ فيه الكتب ويبيعها أو يبيع لمن أراد أن يبيع كتبه يسمَّى هؤلاء الوراقون الذين يعتنون بنسخ الكتب باليد أو بيع الكتب وهؤلاء الوراقون منهم المعتني ومنهم غير المعتني وأشبه ما يكون في هذا الزمن بالمطابع المطابع الموجودة الآن هي ورثت عمل الوراقين فيما مضى من الزمان لهذا نقول إن صنعة الورَّاقين فيما مضى تناولها أهل العلم بالتحليل وأن طالب العلم يحرص على أن يشتري كتابًا مصححًا مدققًا أو أن ينسخ بيده ويقابل ما نسخ بأصله أو أنْ يشتريَ كتابًا ويقابِلَه بنسخة معتمدة مقروءة على أهل العلم وأشباه ذلك يعني أن طالب العلم مع الكتب لا بدَّ له من أن يعتني بالنسخ الصحيحة في النسخ المخطوطة أو في المطبوعات وفي هذا الزمن عناية جلّ طلاب العلم بالمطبوعات ولهذا .